أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - آلان غريش - الرأي العام في السعودية.. البدايات















المزيد.....


الرأي العام في السعودية.. البدايات


آلان غريش

الحوار المتمدن-العدد: 125 - 2002 / 5 / 9 - 09:10
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    




نقلا عن صحيفة اللو موند"
"دبلوماتيك الفرنسية الصادرة بالعربية

مثل النار في الهشيم ذاع الخبر ما بعد ظهر الأحد 24 أذار/مارس متخطياً جميع الحواجز والعوائق، منتقلاً عبر الهواتف الخلوية والكومبيوتر، وتولته النصوص والرسائل الالكترونية فاحتل موقعه على شبكات الانترنت العالمية ليفحم في النهاية المشككين الأكثر يأسا من امكانية التغيير. وهذا ما يبتهج له احد الصحافيين فيقول: "لم يعد بالامكان إخفاء أي شيء في السعودية بعد انتشار الهواتف الخلوية والاشتراك في البريد الالكتروني".
وبعد ساعات تأكدت المعلومة في بيان رسمي، فبناء على اقتراح من ولي العهد الأمير عبد الله قرر الملك فهد دمج مديرية تعليم البنات، وقد أقيل رئيسها بكل برودة، بوزارة المعارف. وقد جاء هذا القرار ليضع حداً لأحدى المسائل الأكثر اثارة للجدل في المملكة في السنوات الأخيرة. وهي اذ تتشهد على حالة الانفتاح انما تعبر ايضا عن تناقضات المسار الجديد الذي يسعى ولي العهد الأمير عبد الله، رجل النظام القوي، الى فرضه في المملكة المصدومة بعد اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001.
صبيحة 11 آذار/مارس شب حريق في مدرسة البنات ذات الرقم 31 في مكة، فكانت مأساة لقي فيها حوالى خمس عشرة مراهقة ما بين الثانية عشرة والسابعة عشرة من العمر حتفهن. وفي ما بعد الظهر أصدرت مديرية تعليم البنات بياناً سرعان ما نقله التلفزيون الرسمي يحمل الضحايا مسؤولية مصيرهن حين أوضح أن "الجريحات والقتلى سقطن نتيجة تدافع الطالبات وليس نتيجة الحريق."
ويجدر الذكر أن هذه المديرية كانت قد أنشأت في العام 1960، حين أراد ولي العهد آنذاك الأمير فيصل، الذي تولى الملك بعدها من العام 1964 الى العام 1975، أن يفتح باب التعليم الرسمي امام البنات (1) ، يوم كان 22 في المائة من الذكور يذهبون الى المدرسة مقابل 2 في المائة من الاناث فقط. فاعترض على قرار الأمير قسم من العلماء يؤيدهم في ذلك بعض الأهالي وخصوصاً في المناطق الاشد محافظة من غيرها. وفي احد الاجتماعات سأل فيصل العلماء: "هل هناك آية في القرآن تحرم تعليم البنات؟" ولما حاروا جواباً تابع: "بما أن على كل مسلم ان يحصل العلم نحن نفتح المدارس، ولا احد سيمنع الأهل الراغبين في إرسال بناتهم اليها، ويمكن للآخرين أن يقرروا إبقاء بناتهم في البيت، لن نجبر احداً على ذلك."
ونتيجة حرصه على التوصل الى تفاهم وافق فيصل على إنشاء مديرية تعليم البنات كجهاز مستقل عن وزارة المعارف على أن يعين رئيسها من المؤسسة الدينية وعلى ان تكون برامجها مختلفة وان يكون للدين فيها ثقل أكبر. وبعد أربعين عاماً خفت حدة الاعتراضات الأولى وتحقق تقدم كمّي لافت، فنصف طلاب المدارس هم من البنات اللواتي يبقى عددهن أكبر حتى في الجامعات حيث يحققن النجاح اكثر من الفتيان حتى وإن كانت بعض القطاعات مغلقة في وجوههن. ومع ذلك فان قضية المدرسة رقم 31 قد فضحت حالات التقصير في النظام.
وقد بين هذا التقصير الكاتب الصحافي رائد قدسي في مقالة له تحت عنوان: "مأساة المدرسة تدق جرس الانذار." وفيها ان 800 طالبة كن يتعلمن في المدرسة التي اعدت لاستيعاب 250 فقط، وقد استؤجر المبنى منذ ثلاثة عشر عاماً فيما هذا المقر لا يمكنه أن يخدم قانونياً أكثر من عشر سنوات. ومن جهة أخرى فان البناء كان بالياً ليس فيه لا منفذ للطوارئ ولا جهاز إنذار بالحريق. وفي الأيام التالية غرقت الصحافة بالتقارير حول الحالة الرثة للمباني المدرسية وحول عجز مديرية تعليم البنات والبرامج غير المتكيفة مع العالم المتطور والتعليم القائم على مجرد الحفظ عن ظهر قلب.
وللمرة الأولى كانت هناك مطالبة بمحاسبة المسؤولين. ففي 16 آذار/مارس، وإثر صدور بيان مديرية تعليم البنات، كتب داود الشريان، المدير الاقليمي لصحيفة الحياة التي تصدر على مستوى العالم العربي، وهو أحد الصحافيين السعوديين الأكثر جرأة: "يجب ان يكون هذا الحريق مناسبة لوضع حد للبيانات الفارغة وللتهرب من المسؤولية. يجب ان يعلم بعض كبار المسؤولين والوزراء أن الدفاع عن مواقعهم وعن مؤسساتهم لا يتم بهذه الطريقة. وما يسيء الى صورة البلاد هو أن ندعهم يتوجهون الى وسائل الاعلام بدون أن يلقوا اي محاسبة."
أما صحيفة "الوطن" (الصادرة في ابها) التي يشرف عليها حاكم ولاية عسير خالد بن فيصل، فقد كشفت للجمهور في شهر شباط/فبراير عام 2002، أن تعميماً سرياً كان صدر عن ولي العهد الى جميع الادارات الرسمية وفيه انه "بالرغم من التعليمات والتعميمات الموجهة الى المسؤولين فان الضرر ما يزال يلحق بمصالح المواطنين والمظالم تتزايد." وقد خلص الى أن الدولة لن تتردد في تغيير المسؤولين غير الأكفاء (2) . فغيرت مديرية تعليم البنات من خطتها ودعت الصحافيين لتعقد مؤتمراً صحفياً أجابت فيه عن الأسئلة لتؤكد خصوصاً على أن تجربة إقامة 200 مبنى جديد بواسطة القطاع الخاص لم تتوسع لأن وزارة المالية رفضت الافراج عن الاعتمادات الضرورية...
لكن هناك مؤسسة أخرى، ذات موقع استراتيجي أهم، تعرضت لهجومات الصحافة. فقد أوضح الكثير من شهود العيان، ومن ضمنهم عناصر في فرق الإنقاذ المدني، أن أعمال الإنقاذ التي كانوا يحاولون القيام بها في المدرسة رقم 31 قد أعيقت على يد أفراد من "الهيئة"، والمقصود هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الشهيرة، فهؤلاء كانوا يخشون ان يدخل الرجال مدرسة للبنات أو أن يخرج هؤلاء غير محجبات. وهذا ما قد يكون تسبب بموت العديد من الفتيات. إنه لأمر مرعب، فقد عنونت صحيفة "عكاظ"، وهي من كبريات الصحف في البلاد إحدى مقالاتها بما يلي: "حرمان الحياة، تشجيع الموت".
و"الهيئة" المعروفة ايضاً تحت اسم "المطوعين"، مكلفة السهر على حسن تطبيق الشريعة، والتأكد من أن النساء محجبات بالشكل المناسب ومن احترام مبدأ عدم الاختلاط، الخ. ومع ان تواجدها يتضاءل منذ اواسط التسعينات الا أنها تبقى مرهوبة الجانب وقلما تحظى بتقدير المواطنين.
وفي 16 آذار/مارس، كتب تركي السديري، رئيس تحرير صحيفة "الرياض"، وهي الأهم في البلاد، متسائلاً: "متى نخجل من موقفنا من المرأة؟" ويضيف: "كل التبعات في مجتمعنا تلقى عل عاتق النساء كما لو أنهن هن الواسطة بين الرجل والشر، حتى ليبدو وكأن الرجال هم ملائكة لا يضعفون الا أمام النساء(...). فهل ان أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم أكثر حرصاً واهتماماً منا بزوجاتنا وأخواتنا وامهاتنا وبناتنا؟".
وقد وجدت الهيئة نفسها مضطرة الى الدفاع عن نفسها علناً، فاستدعى رئيسها السيد ابرهيم الغيث الصحافيين ليكذّب الشهود ويؤكد ان رجاله لم يصلوا المكان الا بعد ان تمت السيطرة على الحريق، لكنه قال مسلّماً: "لكن إذا ما تأكد أن أي مسؤول في جهازنا قد عرقل اي عمل للانقاذ فيجب عندها مقاضاته (3) ."
هذا الانفلاش الاعلامي يثير تشنجاً رسمياً. وفي وقت كانت الحكومة تشكل لجنة تحقيق، كان وزير الاعلام في 19 آذار/مارس يجمع رؤساء تحرير وسائل الاعلام الذين نشروا تقريرات مهدئة عن الاجتماع. وفي 21 آذار/مارس، كان داوود الشريان يتجرأ على هذه الرغبة في التكتم ويكشف في جريدة الحياة الهدف الأساسي من هذه المبادرة، وهو إعطاء تعليمات الى الصحافيين كي يمتنعوا عن نشر بعض الأخبار. فنفذت العقوبة على الفور وأخضعت الحياة لرقابة مسبقة. وفي 21 آذار/مارس صرح الأمير نايف، وزير الداخلية، وأحد الأقوياء في البلاد: "إن الطريقة التي اعتمدها كتابنا وصحفنا في معالجة القضية لم نكن نتوقعها، فقد بالغوا في الأمور بدون اي توازن وأصدروا أحكامهم بدون اطلاع على الوقائع." وشدد على عدم القاء اللوم على مديريـة تعليـم البنات (4) .
فكيف يمكن في هذا السياق تفسير القرار الملكي الصادر بعد ثلاثة أيام بحل هذه المديرية؟ الرجل الذي استقبلنا في مكتبه كان له روايته الخاصة، وهو أحد الذين لا يزالون على قيد الحياة من الـ 25، أبناء مؤسس المملكة عبد العزيز بن سعود، وشقيق الملك فهد وولي العهد عبد الله (من أبيه)، يبلغ من العمر سبعين عاماً وما يزال صافي الذهن ويتقن اللغة الفرنسية. وكان في الستينات مع أخيه، نوّاف الذي عين في آب/أغسطس عام 2001 على رأس جهاز استخبارات المملكة، أحد "الأمراء الأحرار" الذين أيدوا إجراء اصلاحات دستورية، كما تحالف مع عبد الناصر قائد الثورة المصرية (5) .
فالأمير طلال يرى ان قرار ولي العهد هو قرار "حكيم" لكنه استغرب صدوره عشية انعقاد مجلس الوزراء، وتساءل : "ما الفائدة من هذه الاجتماعات؟"، وأضاف: "منذ ثلاث سنوات اقترح "مجلس الشورى" (6) حل مديرية تعليم البنات هذه، لكنه لم يفلح في ذلك. ثم ان ما تتعرض له "الهيئة" من هجومات يضع النظام في موقع حرج. فمن المهم أن يلحق تعليم البنات بوزارة المعارف وألا يكون مساعد الوزير من رجال الدين. وما حدث انه جرى على الفور التغاضي عن مسؤولية الهيئة". لكن ليس كلياً، فقد نشر تقرير لجنة التحقيق بكامله في الصحف التي لم تعد تتورع عن اسناد أخبارها الى مصادر "واسعة الاطلاع" ولا عن نشر وثائق سرية تتضمن بعض المقاطع المحيرة مثل: "يتواصل التحقيق حول بعض الحوادث الجانبية بين أعضاء من الهيئة وبعض مسؤولي الدفاع المدني." لكن هل سيجري نشر تتمة التحقيق الموعود؟
ويثني الأمير طلال على بعض الانجازات الديموقراطية لكنه يبقى مشككاً في هامش المناورة المتوفر لوسائل الاعلام. وهو يذكّر بتوقيف كاتب كان نشر في صحيفة المدينة في 26 كانون الأول/دسمبر عام 2001 قصيدة بعنوان: "الفاسدون في الأرض" قصد بها القضاة. وبحسب الشائعات أن رئيس تحرير الصحيفة أقيل من منصبه كما اعتقل الشاعر عبد المحسن مسلم. ولدى سؤاله في الموضوع اكتفى مسؤول كبير في وزارة الداخلية بالتأكيد أن "في الشائعة شيئاً من الصحة!"... وقد عبر أحد صحافيي جريدة الوطن عن سخطه (7) متظاهراً بالسذاجة، كيف انه علم بالخبر خلال تجوله على شبكة الانترنت، فباحجامها عن نشر الخبر "برهنت وسائل اعلامنا على انها تبقى أسيرة حالات الضعف التي تعاني منها" . الا أنه تابع قائلاً: "لقد توصلنا في النهاية الى تجاوز الزمن حيث كان يجري التكتم على الجرائم والأحداث بذريعة أن ذلك قد يثير الرعب والخوف ويسيء الى المجمتع."
منذ سنوات قليلة كانت السعودية في مجال الاعلام تشبه الاتحاد السوفياتي أيام التعتيم في عهد بريجنيف، فقد كان كل شيء من "أسرار الدولة"، لكن الآن لم تعد الصحافة تتردد في التطرق الى مواضيع اجتماعية حساسة مثل تعاطي المخدرات والعنف المنزلي والسيدا وإساءة معاملة الأولاد والانتحار الخ. حتى انه أعلن أنه في شهر حزيران/يونيو المقبل سيصار الى نشر تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية، هو الأول من نوعه، سيضع أخيرا بين أيدي الجمهور معطيات ظلت حتى الآن سرية. لقد بات المجتمع يتقبل النظر الى نفسه في المرآة ليكتشف ما هو عليه بعيوبه وفضائله بتضامنه وانحطاطه... وهو سلوك محفوف بالمخاطر حين يترافق مع نشوء رأي عام.
وهذا الرأي العام حقق أول انتصار له مع القرار الملكي، وهو قرار يشكل بحسب الأمير طلال "خطوة الى الأمام في الدفاع عن حقوق المرأة". وأساساً كان ولي العهد منذ سنوات عدة قد جعل من هذا التطوير محوراً لتدخلاته اضافة الى عملية الإصلاح الاقتصادي (8) . ففي العام 2000 وافقت السعودية على معاهدة الأمم المتحدة لإلغاء أشكال التمييز في حق المرأة. وللمرة الأولى جرى استقبال بعض النساء في مجلس الشورى لعرض مشاكلهن، وخصوصاً تلك المتعلقة بالمهر. وقد ضُمت بعض نساء الأعمال الى الوفد الذي شارك في القمة الاقتصادية في دافوس، وللمرة الأولى منحت النساء بطاقات هوية. وقد أوضحت نوال، وهي طبيبة تعمل في عيادة خاصة بها: "هذه الهويات ستسمح لنا ان نتسوق بأنفسنا وان نبيع مجوهراتنا إذا رغبنا في ذلك وبالنزول في الفنادق وبشراء السيارات. فنحن لسنا ضحايا لأننا نحن اللواتي أخلينا الساحة للرجال."
أما "مهى" فإنها تعمل من منزلها في العلاقات العامة. لقد درست في الخارج وتزوجت ثم طلقت. وقد اختارت العودة للعيش في موطنها الذي تتعلق به كثيراً كالعديدات غيرها من السعوديات حتى وإن كانت تعترف أن "البنى التحتية هنا تتقدم على الذهنيات بحوالى مائة سنة، ونحن لا نحب جماعة "المطوعين" الذين يريدون التحكم بحياتنا، لكن بتنا نشارك في الأعمال بشكل افضل. فـ40 في المئة من ممتلكات هذا البلد هي في أيدي النساء، وقد حظينا بالاعتراف بسبب هذه القدرة الشرائية وصار الرجال ينصتون الينا اكثر. والطالبات اللواتي يتخرجن من الجامعة "مطلوبات" أكثر من الذكور لأنهن أكثر جدية."
لكن الا تهدد هذه المطالب أسس المجتمع؟ هذا السؤال يطرحه قسم من هؤلاء الذين ضربتهم رياح التغيير واقتلعتهم حالة التمدين من جذورهم وخضعوا للمحطات الفضائية الأجنبية أو العربية فانكمشوا على أنفسهم خائفين. وهذا ما اعترف به أحد الصحافيين بالقول: "ليس هناك اي نص ديني يحرم على النساء قيادة السيارات، بعكس تحريم الخمرة. لكننا نتساءل عما يمكن ان يكون وراء هذه الدعوات؟ وماذا سيحدث بعد ان يمنحن هذا الحق؟ فنحن "آخر أرض اسلامية" والكثيرون يتحدثون عن مؤامرة أميركية ضد المملكة وضد الإسلام وضد ثرواتنا."
فترد إحدى اللواتي حاورننا: "لكن نحن أيضاً متعلقات باسلامنا وتقاليدنا، وما نستنكره هو هذه القراءة الضيقة للقرآن. وأياً يكن فان قيادة السيارة لا تحتل موقعاً اولياً بين مطالبنا." وتنفجر ضاحكة وهي تضيف: "سنحصل على هذا الحق بعد خمس عشرة سنة لكن لن نكون قادرات على شراء السيارات"، في إشارة منها الى الوضع الاقتصادي السيئ، وكان ولي العهد قد دعا الى "شد الحزام". فهي ترى انه من المفترض اولاً حل مشكلة البطالة وتحقيق المساواة في الحقوق امام القانون (9) . لكن بالنسبة الى هؤلاء النساء كما بالنسبة الى غالبية السعوديين أن اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر قد زعزعت العالم.
في مجمع فخم هو مؤسسة الملك فيصل وسط الرياض استقر الرجل الذي ظل على مدى عشرين عاماً واحداً من الأكثر نفوذاً في المملكة. إنه الأمير تركي بن فيصل الذي تولى رئاسة جهاز المخابرات حتى شهر آب/أغسطس عام 2001، وبصفته هذه كان مسؤولاً عن سياسة المملكة في أفغانستان وتحديداً عن العلاقة مع السيد أسامة بن لادن. فهل يكون هذا هو سبب "استقالته"؟ لا أحد يعلم فهذا النوع من المعلومات لا يناقش علناً إطلاقاً. الامير يتقن الفرنسية ويهتم لمستقبل مؤسسة العالم العربي (في باريس) وقد أجاب عن أسئلتنا بلطف زائد.
"لقد احدث 11 أيلول/سبتمبر صدمة، وقد مررنا أولا في مرحلة النفي، إذ لا يمكن أن يكون بعض السعوديين قد شاركوا في مثل هذه الأعمال لأنها تتنافى مع مبادئنا. وفي مرحلة لاحقة بدأنا عملية استبطان متسائلين من نكون؟ وما الذي جعل أمرا كهذا ممكناً بعد سنوات من التنمية والاحتكاك بالعالم؟". ويستعيد الأمير ما تحقق في المجتمع من انقلابات: "لقد عشت الزمن الذي كان فيه الجدري يفتك بالآلاف من البشر، ويوم كان الأمر يستغرق ثلاثة أيام من السفر على اقصر الطرقات للانتقال من الرياض الى مكة. كما حدثت أيضا تغييرات في المجال السياسي. وبالرغم من كل هذا ظل مجتمعنا راسخاً على أسس متينة، على التضامن وعلى الدين."
ويستدرك أنه إذا كانت الحرب ضد التدخل السوفياتي في افغانستان قد سمحت بالتعبير عن تضامن اسلامي وثيق، وبتشجيع من الولايات المتحدة كما يشدد، الا أنه كان لها انعكاسات مشؤومة. "فقد قامت منظمات متطرفة في افغانستان وقد تجمع بعض المتطوعين حول بن لادن، والسعودية نفسها عانت من ذلك فهذه المجموعات هي التي نفذت اعتداء 1995 في الرياض." فهذه الحرب كما النزاع في الخليج في العامين 1990-1991 قد غذت النزعة التطرفية في فهم الاسلام.
وفي السعودية يتناول النقاش حول الاسلام مسألتين متميزتين، فالسؤال الأول المطروح هو حول علاقة المؤسسة الدينية بالسلطة السياسية، والثاني هو حول كيفية الملاءمة بين القراءة المتزمتة (الوهابية، مع ان هذا التعبير غير مقبول في السعودية) في الدين وبين تحديات الحداثة. ونذكر أنه في أصول قيام المملكة كان هناك الميثاق الموقع في العام 1744 بين أمير محلي من نجد، هو محمد بن سعود وأحد المبشرين الدينيين هو محمد بن عبد الوهاب. وقد صمد هذا التحالف عبر التاريخ، فالعائلة المالكة هي الحاكمة ولكن تستند في حكمها على العلماء وخصوصاً على مجلس كبار العلماء الذي يرسخ شرعيتها الدينية. وعلى مدى التاريخ وبالرغم من بعض التشنجات مررت المؤسسة الدينية على الدوام القرارات الملكية وإن كان أحياناً بعد تجاذبات كما رأينا في موضوع تعليم البنات. وهكذا نجد أن العلماء قد برروا استدعاء الملك فهد القوات الأميركية في العام 1990 بعد الاجتياح العراقي للكويت. الا أن تعدد الجامعات الدينية ومن تخرجهم من الشبان في عز حماسهم يغذي قيام التيارات المحافظة، والمتطرفة أحياناً.
في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2001، وفي إطار التشاور مع الهيئات الشرعية بعد اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر، استقبل ولي العهد العلماء وحذرهم من "الغلو في الدين". لكن النقاش الذي برز خلال تبادل وجهات النظر كان من نوع آخر، فقد تدخل الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، الامين العام للعصبة الاسلامية العالمية ووزير الشؤون الدينية سابقاً ليؤكد أن "أولي الأمر هم القادة والعلماء" مساوياً سياسياً بين العائلة المالكة ورجال الدين... وهذا ما رد عليه تركي بن فيصل موضحاً: "أنا لست اخصائياً في الشؤون الدينية، لكن هذا الرأي بدا لي غريباً، ولم يسبق أن طرح في بلادنا. بل يمكن مقارنته بالشيعة ونظريات الامام الخميني المرفوضة حول "ولاية الفقيه" (10) . وانا أرفض هذه النظرة فالسلطة هي للقادة والعلماء هم مجرد مستشارين لهم. ولذلك كتبت مقالاً للاعتراض على هذا التفسير (11) ."
هذا التطاول من السلطات الدينية يزيد من الاخلال بالتوازن بين السلطات الدينية والسلطة السياسية، أضف ان العائلة المالكة لا يمكنها تجاوز المؤسسة الدينية في وقت تشتد في الغرب حملة رهيبة ضد الاسلام والسعودية. وهنا الكثيرون مقتنعون ان على البلاد أن تتكيف وان الاصلاحات ضرورية خصوصاً في مجال التعليم. لكن هجومات الأجنبي وخصوصاً من وسائل الاعلام الأميركية قد ولدت تصلباً في الرأي العام وشيئاً من الوحدة الوطنية. فهل يمكن أن نتصور ما تثيره هنا مطالبة رئيس تحرير احدى الصحف الأميركية بـ"قصف مكة بالسلاح النووي (12) "؟
وتنتفض أمل مغضبة: "من أنتم كي تأتوا لتعلمونا الدروس؟ كنت اؤمن فعلاً بالقيم التي كان الغرب يدافع عنها، لكنكم تخونونها وتحديداً في فلسطين. هل رأيت صور الأسرى في غوانتامانو الذين يعاملون كالحيوانات (وبينهم حوالى خمسون سعودياً)؟ فأنتم لم تتقبلونا أبداً على ما نحن عليه، كل ما تريدونه هو أن نصبح مثلكم. والاسلام هو الأساس في حياتنا ولا أريد لهذا أن يتغير، فنحن لم يتبقَّ لنا شيء سوى الاسلام."
فما بين الاصلاحات الاقتصادية الضرورية والانضمام الى عالم معولم والدفاع عن هوية ينظر اليها على أنها فريدة، يبدو الطريق الذي اختاره ولي العهد ضيقاً. وكما يلحظ السيد فهد المبارك، رجل الأعمال العضو في مجلس الشورى "أننا بتنا قادرين على تشخيص المشاكل، لكن من اجل حلها لا يكفي فقط ملك اصلاحي، بل يتطلب الأمر جيشاً من الاصلاحيين."



(1) لم يبدأ تعليم الصبيان الا في العام 1953، وهي السنة التي شهدت انشاء وزارة المعارف. حول قصة تعليم البنات في السعودية وما واجهته من اعتراضات مختلفة راجع:
Mona Al Munajjed, Women in Saudi Arabia Today, Macmillan Press, Londres, 1997
(2) صحيفة الوطن، الأبهى، 6/2/2002.
(3) صحيفة عكاظ، الرياض، 19/3/2002.
(4) إقرأ مثلاً صحيفة اخبار العرب في 22/3/2002.
(5) حول مسيرته راجع أحد أهم الكتب المنشورة حول العائلة المالكة ومشاكل الخلافة:
Alexander Bligh, From Prince to King, New York University Press, 1984
(6) تم الاعلان عن إنشاء هذا المجلس الاستشاري في العام 1992، وهو يعمل منذ العام 1993. ويعين الملك أعضاءه وآراؤه هي محض استشارية، الا أن طابع الجدية الذي تتصف به مداولاته أكسبته بعض النفوذ.
(7) 24/3/2002.
(8) راجع:
Le Monde diplomatique, … Petite brise de mondialisation sur la société saoudienne î, avril 2000
(9) حول وضع النساء في الحياة الزوجة راجع الرواية المؤثرة جداً للكاتبة السعودية بدرية البشر والصادرة في باريس تحت عنوان:
Le Mercredi soir. Femmes de Riyad, LiHarmattan, Paris, 2001.
(10) سياسة "ولاية الفقيه" هذه يقول بها فقط فرع من المذهب الشيعي. ويؤكد الامام الخميني انه في انتظار نهاية الأزمنة وعودة "الامام المنتظر" يعود الى الفقيه، ممثل "الامام المنتظر" الذي انتدبته العناية الالهية أن يقود جماعة المؤمنين.
(11) صحيفة الشرق الأوسط، لندن في 20/1/2002. وحول هذا الموضوع راجع داود الشريان، صحيفة الحياة، لبندن، 6/2/2002.
(12) Rich Lowry, National review on line (www.nationalreview.com ). Le journal siest ensuite excusé








#آلان_غريش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الحوثيون يزعمون استهداف قاعدة جوية إسرائيلية بصاروخ باليستي ...
- إسرائيل.. تصعيد بلبنان عقب قرار الجنايات
- طهران تشغل المزيد من أجهزة الطرد المركزي
- صاروخ -أوريشنيك-: من الإنذار إلى الردع
- هولندا.. قضية قانونية ضد دعم إسرائيل
- وزيرة الخارجية الألمانية وزوجها ينفصلان بعد زواج دام 17 عاما ...
- حزب الله وإسرائيل.. تصعيد يؤجل الهدنة
- مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين مقاتلي -حزب الله- والقوات الإسر ...
- صافرات الانذار تدوي بشكل متواصل في نهاريا وعكا وحيفا ومناطق ...
- يديعوت أحرونوت: انتحار 6 جنود إسرائيليين والجيش يرفض إعلان ا ...


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - آلان غريش - الرأي العام في السعودية.. البدايات