|
صراع
شاكر خصباك
الحوار المتمدن-العدد: 2242 - 2008 / 4 / 5 - 10:57
المحور:
الادب والفن
امتلأت شوارع الموصل بالإعلانات عن فرقة الكواكب الجديدة التي حلت في المدينة لتقيم فيها الحفلات لبضعة أسابيع . وانتهزنا أنا وصديقي نهاد هذه الفرصة وحجزنا تذكرتين في ملهى حمورابي في الصف الأول . ولكن سرعان ما دب السأم إلى نفسينا ونحن نراقب فقرات البرنامج الهزيلة . وكنا على وشك مغادرة الصالة حين برزت على المسرح راقصة عجفاء ترقص بتبذل فاضح ، وإذا بنهاد يتشبث بمقعده وقد تسمّرت عيناه على وجهها في فضول غريب . وفجأة تباطأت الراقصة في رقصها وهي تنظر نحونا ، وظلت أنظارها معلقة بمائدتنا طوال الوقت . وما أن غادرت المسرح حتى فوجئنا بها تقف بجوار مائدتنا . قالت تخاطب نهاد : ألست نهاد ؟ فمد نهاد إليها يده مصافحا وقال : نعم يا فاطمة . فجلست إلى مائدتنا وقد تألق وجهها . قالت وهي تهز رأسها بإعجاب : ما شاء الله 00 صرت شابا جميلا يا نهاد . فابتسم نهاد بحياء ، فأضافت وهي تكاد تلتهمه بنظراتها : ولكنك كنت جميلا منذ كنت طفلا يا نهاد . قال نهاد وهو يتجنب النظر في عينيها : ما أعجب المصادفات في أن نلتقي بعد كل هذه الأعوام في مثل هذا المكان يا فاطمة . فقالت بنبرة حزينة : هذه حال الدنيا يا نهاد ! ثم هزّت رأسها في لامبالاة وأضافت : دعنا من هذا الحديث فإنه لا يسر وحدثني عن حياتك . وانقضى الوقت سراعا ولم نشعر إلاّ والراقصة تستأذن في الانصراف . فغادرنا الصالة إثر انصرافها وسلكنا الشارع المجاور للنهر . وكان البدر يتوسط السماء ويغمر دجلة والشارع والكون بنوره الألاّق . وكانت النسمات تهب عبر النهر بليلة منعشة . سرنا في صمت ، وكان يبدو على نهاد أنه يجترّ ذكريات بعيدة . قلت له أخيرا وأنا أتابع نظراته الشاردة : يبدو أنك عرفت هذه الراقصة من زمن بعيد يا نهاد . فنظر إليّ وابتسامة خفيفة تطوف على ثغره ثم قال : فعلا عرفتها من زمن بعيد . وسكت لحظة ثم راح يتحدث وكأنه يستعيد ذكريات غابرة : أذكر أنني كنت في الثامنة من عمري حينما عرفتها . وكنت في الصف الثالث الابتدائي في المدرسة الغربية وليس لي أحد من الصحاب في المدرسة أو خارجها . فقد كنت غريباً في محيطي الجديد إذ كان والدي الموظف قد نقل من الديوانية إلى الحلة .ولمّا كنت صغير السن فإنني لم أكن أغادر منزلي إلاّ لأذهب إلى المدرسة متخذا درباً معيناً لا أعرف غيره ولا أحيد عنه . وكنت كلما توسطت ذلك الدرب تناهت إلى سمعي ضحكات ناعمة تنطلق من نافذة تشرف على الدرب لمنزل متميز . فإذا رفعت رأسي رأيت فتاة لطيفة تطل من تلك النافذة . وكانت عينا تلك الفتاة تتعلقان بوجهي بإلحاح يثير خجلي . فكنت أسرع في سيري لتجنب نظراتها الملحة . بل كثيرا ما كنت أقاوم فضولي لدى سماعي ضحكاتها فلا أرفع رأسي إلى النافذة وأجتاز الدرب مسرعا وعيناي مثبتتان في الأرض . وذات يوم سمعت وأنا أجتاز الدرب صوتا ينادي ورائي : يا ولد .. يا ولد . التفت وإذا بفتاة النافذة تتقدم نحوي وهي تحمل كيس حلوى . قالت وهي تمد إليّ يدها بالكيس : هذا الكيس لك . وفتحت الكيس فرأيته مليا بالجكليت و المصقول .قلت متلكأ اللسان : لماذا ؟! لا أريده . فابتسمت الفتاة ابتسامة رقيقة وقالت : خذه ولا تكن خجولا . فنظرت إليها محتارا وقد بدأ ريقي يتحلّب . ثم وجدتني أختطف الكيس وأجري مهرولا .وهكذا تم التعارف بيني وبين فاطمة . وسرعان ما تطورت هذه المعرفة إلى صداقة متينة . ودأبت على زيارتها كل يوم . وكانت تعد لي مآكل شهية . فكنت أتبلغ بطعامنا في وجبة الغداء لأملأ معدتي من مآكلها اللذيذة . وشتان ما بين مائدتها الحافلة بألوان الأطعمة ومائدتنا التي كانت تجتزىء بلون واحد يكاد يتكرر كل يوم . وكانت تحرص دائماً على أن تحضر لي الحلوى التي أحبها وهي الحلقوم والسمسمية و الكركري 0 وسكت نهاد لحظة وكأنه يستعيد الأحداث في ذهنه ثم عاد يتحدث : لكنني دفعت ثمن تلك الصداقة غالياً يا عزيز .. دفعتها قبلات كانت تضايقني أشد المضايقة . فقد كانت وهي تقلبني يهتز جسدها اهتزازات عنيفة ويعلو صدرها ويهبط في اضطراب يخيفني . وكم شعرت بالاختناق من أنفاسها الحارة اللاهثة التي تلفح وجهي . ولم تكن قبلاتها وحدها التي تضايقني . كنت أعاني طوال وجودي معها من الضيق والحياء 0فقد كانت تقوم بحركات غير لائقة تخجلني0 وكانت تجلس دائماً على مقعد وتأبى عليّ إلاّ أن أتخذ من حجرها مقعدا لي . ثم تطوق جسدي بذراعيها وتشدني إلى صدرها شدا محكما . وكثيراً ما تراخت على مقعد قبالتي وأسندت ساقيها إلى مقعد أخر فتراجع فستانها واستقر قرب الخصر وانكشف جسدها لعينيّ . وكم كان وقع ذلك شديدا على نفسي ! ولكن على الرغم مما كنت أعانيه من خجل وضيق في تلك الجلسات فإنني عجزت عن مقاومة مغرياتها0 على أية حال تلك كانت حالي وحالها . لكن الدنيا لا تدوم على حال ، وما كانت لتدوم لنا وعين أمي الثاقبة قد نفذت إلى التغير الذي طرأ على حياتي . ففي ظهر يوم بينما كنت ألتهم غدائي على عجل باغتتني سائلة : لِمَ تتناول طعامك بهذه العجلة يا نهاد ؟ وكنت قد أعددت جوابا لمثل هذا السؤال لقنتني إياه فاطمة ، فقلت : إنني يا أمي تعلمت لعبة كرة المنضدة وأريد أن أرجع إلى المدرسة مبكرا لألعب هذه اللعبة . فهزت أمي رأسها في ارتياب . لكنني لم آبه لها وأسرعت إلى دار فاطمة شأني كل يوم . وكانت فاطمة قد استلقت على مقعد تجاهي وأسندت ساقيها إلى مقعد آخر فانكشف جسدها . وكنت أنصت إليها وهي تحكي لي بلهجتها الفاترة أخبار العشاق ومغامراتهم المشوّقة . وفجأة انصفقت باب الدار ودوّت صيحة جزع تبينت فيها صوت أمي . وتسمّرت فاطمة في مقعدها مذعورة . وتسارعت ضربات قلبي حتى خيّل إليّ أن طبلا يقرع في جوفي . أقبلت أمي على فاطمة وصفعتها بكل قوتها وصاحت : يا عاهرة .. أفسدت ولدي . فهزت فاطمة رأسها وقالت بلهوجة : أبداً .. أبداً فصرخت أمي : وماذا كنت تعرضين له من جسدك النجس يا عاهرة ؟ فحنت فاطمة رأسها ولم تتكلم . وأعولت أمي مولولة : أفسدت ولدي الصغير .. ولدي التعس .. ولدي المنكود . وما شعرت إلاّ و الدموع تنحدر على وجنتيّ حارة لاهبة 0تطلعت فاطمة إلى أمي بنظرات متوسلة وقالت : أنا مظلومة يا أم نهاد . فقاطعتها أمي : بل ما أنت سوى عاهرة . ألا تخجلين من فعلتك وأنت امرأة متزوجة ؟ فهزت فاطمة رأسها في استهانة وقالت في تهكم : وهل يحسب عليّ زوج هذا العاجز الذي اشتراني بماله ؟ فقالت أمي وهي ترميها بنظرة احتقار : اشتراك بماله أم لم يشترك فأنت امرأته وقد جنيت على ولدي بسلوكك الساقط ، جزاك الله عنّا شرّ الجزاء . ثم التفتت إليّ وأمسكت بمعصمي وضغطت عليه بقوة وجذبتني وراءها موسعة الخطى كالهاربة من دار شبّت فيها النيران ! *********************
كاتب من العراق مقيم في اليمن
#شاكر_خصباك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|