لقد علقت بذاكرتي أيها الغول البغيض .
أعترف بذلك . فقد تم ذلك دون إرادة مني,وعبر الزمن الطويل الممتد,الذي حاولت فيه وحزبك التحكم في وطني العراق , وبالقوة والبطش .
أنا مواطن عادي من بلدة عراقية جنوبية, وكان لسوء طالعي أن فتحت عيني على الدنيا,وكنت أنت ولا غيرك تملأ الأمكنة بصورك الكريهة وببوزاتك العنترية .
ولدت في الأول من تموز عام 1957 وهذا ما كتب في وثائقي الرسمية.
يقول الكثير من أصدقائي ومعارفي داخل الوطن وفي المنافي , بأن الحظ حالفني , فأغلب مواليد هذا العام 1957 , قد داستهم بلدوزرات حروبك وسجونك ودهاليزك الكثيرة .
لقد علقت أول الصور الكريهة في ذاكرتي , يوم جاء حزبكم ببزته العسكرية وبنادقه عام1963 إلى السلطة,ثم تبشعت هذه الصور خلال الأعوام التي تلته. فرغم صغر سني يوم ذاك فما زلت أذكر وإلى اليوم رجال الحرس القومي وهم يرهبون الناس في محلتنا الفقيرة متجولين ببنادقهم المشهرة في وجوه الناس , وبالبدلات العسكرية, وهم يتطلعون بحقد وكراهية .
ويوم قدمتم ثانية عبر بدلاتكم العسكرية كعادتكم , وعبر انقلاب 17 تموز 1968 , لم أكن أتجاوز يومها الحادية عشرة من عمري , لكن جميع الرجال الجالسين في دكان أبي , وهم من وجهاء المدينة, علقوا يومها ساخرين وهم يتطلعون للصور التي ضمت رجالكم في الصحف ( نفس الطاس ونفس الحمام ) , أي أنكم تشبهون كثيرا العصابة التي ناهضت ثورة 14 تموز والعراقيين العداء , وجاءت للسلطة في 1963 .
في عام 1970 فرحت كثيرا حين سمعت بأن الأكراد سينالون حقوقهم عبر بيان 11 آذار الشهير . وكيف يمكن لفتى في الثالثة عشر من العمر أن يعرف أسرارك وأسرار حزبك , ومقدار الضيم والحقد الذي كان يطمر صدوركم ضد الشعب الكردي الذي لم تفكروا يوما ما في منحه حقوقه, وكنتم تريدون استخدامه سلما لتقوية مواقع سلطتكم .
وحين أعلن عن تأميم النفط في حزيران 1972 فرحت من الأعماق وقلت بأن وطني سيكون حرا , وبأموال هذا النفط سيبنى العراق . وقد مضى زمن أسود ومر طويل نغص فرحتي هذه وأنا أرى المليارات من عائدات نفط العراق والذي هو بالأصل ملك للشعب تذهب لنفقات ترسانة السلاح التي ملأتم بها العراق , ومليارات الدولارات التي أنفقتها أنت وحزبك أيها الغول لمقاتلة عدو وهمي , حاولتم خداع الناس به عبر شعارات القومية والدين , وبدلا من محاربة هذا العدو الذي لم تقاتلوه , ذهبتم لاحتلال الجارة إيران , ومن ثم حاولتم بلع دولة اعترفتم يوما بسيادتها وأعني الكويت . ولم يكفيكم هذا حين أدرتم دباباتكم لتسوي آلاف القرى الكوردية بالأرض , ولتشردوا الملايين في أبشع جريمة يندى لها الجبين .
وفي آذار 1973 استبشرت خيرا كالآخرين حين دعوتم للمصالحة الوطنية وأعلنتم الجبهة الوطنية. وقد ظن الكثيرين بأنكم ربما تبتم عن سوء نواياكم وخبث السياسة التي تمثلون .
وفي هذا الزمن بالذات بدأت خطواتي الأولى مع السياسة وعبر فعاليات طلابية و لتكتمل مع ركب الحزب الشيوعي العراقي . وبغض النظر عن صواب فكرة الجبهة الوطنية يومها عن سواه فأن لا أحد يمكنه إنكار أن رفاق الحزب الشيوعي العراقي وأصدقاءه ومناصريه , قد بذلوا جهودا جبارة في جميع ميادين العمل والإنتاج , وفي كل رقعة الوطن . وكانوا يحلمون بأن يشيدوا بلدا متطورا وحضاريا, وكنتم في الخفاء تتهيئون للانقضاض على الحزب وتصفيته , بعد أن استفدتم من كسب التأييد العالمي والتضامن وعبر خداعكم العالم بأنكم تقدميون وأن الشيوعيين يناصروكم .
لقد علقت بذاكرتي جلسات التهديد والشتائم والتخويف والترغيب والإهانات التي مارسها ضدي وضد زملاء لي , طلبة أنذال من حزبكم كانوا يتظاهرون بكونهم أعضاء في الاتحاد الوطني , وكان يتم استدعاءنا ونحن في الحصص الدراسية وأحبانا يحاصرونا مجبرين للبقاء ليقتادونا لغرفة اتحادهم المقبور ليبتدئوا محاولاتهم لإجبارنا التخلي عن الأفكار التقدمية والأنتماء قسرا لحزبهم البعثي .
إذا تسنى لي أن أنسى يوما فكيف لي أن أنسى تلك الظهيرة التموزية التي اقتادني فيها المجرم( باسم سيف ) , وكان مسؤول التنظيم الطلابي الحزبي في محافظتنا, مع ذلك الطالب الحقير الأسمر القصير الذي شاركني مقاعد الدراسة , يوم اقتادوني نحو منظمة حزب البعث وكانت بناية كبيرة جبارة . وكانت ثلاث ساعات ابتدأت بالمديح والأغراء لتنتهي بالسباب والشتائم, وكان يدير الجلسة ( حمزة شهيب ) عضو فرع البعث في المحافظة .
لقد بدأت الكوابيس والمعاناة تصادفني تلك الأيام أينما ذهبت ولم تكن فترة جبهة وطنية بل كانت فترة عذاب وألام.وقد حدث يوما ما ذلك الذي لم أكن أتوقعه, يوم كتبت جريدة الراصد مقالا شتمت فيه الحزب الشيوعي العراقي بتحريض من صدام وحزبه , فقد علق أعوانهم هذه الجريدة وسط ساحة الكلية التي أدرس فيها, وكان المانشيت كبيرا وفيه كلمات تخون الحزب الشيوعي العراقي , ولم تكتفي طالبة من طالبات البعث بذلك بل جلبت جريدة أخرى ووضعتها في الصف الدراسي . لقد فقدت صوابي يومها وذهبت ومزقت الصحيفة لتنقلب الدنيا يومها. لقد حاولوا استغلال هذه القضية لترهيبي وتهديدي ليفشلوا ثانية , ولكن كوابيسهم والعذابات بقت عالقة في الذهن .
في عام 1978 ذهبت لقضاء عطلة العيد مع أهلي في مدينتنا, وقد هالني سماع ما كان يجري هناك من حفلات التعذيب والاستدعاءات بحق أصدقائي من الشيوعيين , وكان السبب بيان آذار 1987 الذي نشره الحزب الشيوعي العراقي يومها منتقدا الممارسات الخاطئة للنظام . ولم يكتفوا يومها إذ قتلوا وبوحشية أكثر من ثلاثين شيوعيا من العسكريين وبتهم باطلة. وبدأت نذر الخوف والكوابيس تنتشر في سماء الوطن .
كانوا يرغبون في إرهاب الآخرين فأبتدأوا مع (جبار الكناس ) ليعلقوه من رجليه في مديرية الأمن هارسين خصيتيه , ثم استمرت حملاتهم .
تركت المدينة باتجاه الجامعة وأفكار كثيرة دوخت رأسي . وبدأت السنة الدراسية أيلول 78 وكنت في المرحلة الثالثة , ولم تمض أيام ليبتدئوا حملاتهم هناك أيضافي مدينة ( الموصل ), وأبتدأوا بصديقي وزميلي في الدراسة, ابن بعقوبة ( صالح ), ليستدعوه في مديرية الأمن مع تعذيب هستيري , وليس هناك من سبب سوى كونه شيوعيا . ثم ابتدءوا باستدعاء الشيوعيين واحدا تلو الآخر, واضطررت في تلك الأيام لترك الدراسة خوف أن يأتيني الدور, وهمت متشردا ومختفيا عن عيونهم التي كانت تبحث في كل مكان .
وأجبرتني أنت ونظامك على ترك وطني والمغادرة إلى المنافي بعد أيام عصيبة وليالي قاسية ومرعبة عبر التشرد في الشوارع والنوم في الحدائق أحيانا أو في الفنادق الرخيصة في بغداد .
كان ذلك في تموز 1979 وبعد ثمانية أشهر من التخفي والعمل في البناء والنجارة والعيش في أوحال مدينة المشردين الصغيرة ( الحيدرخانة ) القابعة خلف شارع الرشيد الذي تطهر من صورك الكريهة .
وبقدر ما أفادتني المنافي فأنها حفرت في روحي مواجع يصعب علي تطبيبها.
وأعترف بأني اضطررت لقتالكم سنوات طويلة سوية مع أصحابي الذين كتبوا ملاحم من البطولة في جبال كوردستان وسهو لها. وبقدر ما صقلت هذه التجربة تكويني , ورسمت ملامحي القادمة, فإنها ملئت داخلي وروحي بكوابيس جنون الحرب, الذي كان جيشك ومرتزقتك ينشروها في كل الأماكن .
لم تكن المسافة التي تفصلني عن مدينة ( حلبجة ) طويلة جدا يوم نشرتم الموت فوق أعشاب هذه المدينة وعبر سمومكم الغازية في 18 اذار1986 .
كنت يومها أعبر السلسلة الجبلية المطلة على مدينة قلعة( ده زه) صوب وادي (باليسان). كما شاهدت بأمي عيني بلدوزراتكم وفرق الموت التي أبادت القرى الكوردية في سهل (أربيل) و(مخمور) و (كوي سنجق) والمناطق الأخرى .
لا زالت ترتسم في مخيلتي ملامح الفلاحين الكورد وهم ينتظرون أن يأتي الدور لقراهم. لم تفرقوا يومها, ويا لنذالتكم, بين الجوامع ودور العبادة, وكنا نلحظ أحيانا بين ركام القرى المهدمة بقايا المصاحف الكريمة وكتب العبادة .
لقد قدمنا صبيحة أحد الأيام صوب قرية كوردية لا تبعد كثيرا عن الطريق الرئيسية التي تربط (أربيل) بقضاء (كوي سنجق) , وبعد صمود أسطوري على قمم جبال(به نه باوي )استمر لخمسة أيام, لتصدمنا الدهشة ونحن نشاهد آلاف الحشوات الصفراء الذهبية الكبيرة والفارغة, لراجماتكم , وقد جمعها الفلاحون لاستخدامها في البيوت للزينة أو في بناء زرائبهم لاحقا.
كيف كنتم تحضرون هذه الراجمات إلى هذه القرى الجبلية النائية ولماذا لم تجربوا يوما إرسالها للذين يقتلون الفلسطينيين في كل يوم .
لم تتركوا سلاحا لم تجربوه هناك وكأنكم تفتكون بشعب قدم من المريخ وليس شعبكم نفسه .
ستطول الحكاية كثيرا, ولكني أود أن أعبر عن فرحة مكبوتة في أحاسيسي , وهي غصة ووجع , بدأت أطببه, وكلي أمل بأني سأزيح أوجاعي وكوابيسي , والبشاعات التي صادفتها, والتي سأجبر يدي على كتابتها لتطلع عليها الناس والأجيال القادمة التي أسعفها الحظ في أن لا تعيش زمن صدام الغول ونظامه الأسود .
السويد
16 تموز 2003