هناك مجموعة من الأجوبة النمطية و الجاهزة التي يطرحها بعض أشباه المثقفين العرب من أيتام وأرامل صدام عند الأجابة على عدد من الأسئلة المصيرية و الحساسة بالنسبة لحاضر الأمة و مستقبل شعوبها و مجتمعاتها .. و تمتاز هذه الأجوبة بكونها تصلح عند هؤلاء لكل زمان و مكان فالبعض منها قديمة و يعود تأريخها لفترة المد القومجي و اليساري الذي أكتسح الشارع في النصف الأول من القرن المنصرم كنظرية المؤامرة عل سبيل المثال .. أما النوع الآخر من الأجوبة فهو ما تم تحضيره و أعداده في مطابخ مثقفي كوبونات النفط و في مقدمتهم عبد الباقي دولار و منطفي بكرة والمسحر و شرشور و ...
و لكي لا نطيل و نسهب في الحديث عن هؤلاء المرتزقة الذين أصبحو مفظوحين و مذمومين أمام شرائح واسعة من المجتمع العربي نأخذ حالة العراق كمثال واقعي لطريقة تعامل هؤلاء ( المثقفون ) مع المشكلات و الأسئلة المصيرية التي تفرض نفسها على واقع الحال العربي و الأسلامي .. فطوال ثلاثة عقود وقف هؤلاء ( المثقفون ) صفاً واحداً للدفاع عن صدام و هم يعلمون جيداً أنه نكرة لا أصل و لا فصل له .. و عندما كنا نقول لهم بأن صدام دكتاتور مستبد و طاغية بشع ليس له مثيل أحرق الحرث و النسل و أذل الناس و أنتهك حرماتهم و ملأ العراق ظاهره و باطنه بالجثث و الضحايا كانت لديهم دوماً أجاباتهم الجاهزة و خصوصاً الثنائي المرح عبد الباقي دولار و منطفي بكرة وهي ( أن صدام ليس و حده الدكتاتور فأغلب الحكام العرب دكتاتوريون و لو بدرجات متفاوتة و هو ليس بأسوأهم لذا فحاله كحال الآخرين وهو ليس بأستثناء ) و هو طبعاً كلام من أوله لآخره فيه الكثير من المغالطة أن لم يكن كله مغالطة .. أذ لا يوجد حاكم عربي حتى المستبدون منهم أباد شعبه بالكيمياوي و أذابه بأحواض الأسيد و سحق مدناً بأكملها بصواريخ الأرض أرض غير صدام الذي كان أستثنائاً في هذه المسألة .. و عندما كنا نقول لهم بأن الناس تذبح و تقتل و تنتهك أعراضها يومياً في العراق على يد حارس بوابتكم الشرقية كانوا يكذبوننا و عندما كنا نواجههم بحقائق دامغة يقولون ( أن هؤلاء خونة و عملاء و بأن ما يحدث هو في كل الأحوال شأن عراقي داخلي ) .
هذه كانت أجاباتهم طوال السنين الماضية و لاتزال .. فأمثال هؤلاء لا يهمهم أن يموت الناس على مذبح الأيديولوجيات القومجية و العروبية .. المهم هو أن الزعيم الأوحد الذي تداعب صوره خيالهم و تذكي رائحة دولاراته أنوفهم حارس البوابة الشرقية و القائد الضرورة صدام العرب بخير .. و هذا النوع من التفكير المتدني و المتخلف يعود الى النزعة القبلية و العشائرية التي تسود مجتمعاتنا على نحو واسع و المتمثلة بأحتقار الفرد العادي مقابل تأليه القائد و الرمز و نجد هذه النزعة و للآسف لدى العديد من ( المثقفين ) الذين يشكلون النخبة في مجتمعاتنا .. هذا بالأضافة الى التأثير الذي أحدثه دخول بعض الآيديولوجيات الشمولية الهدامة الى مجتمعاتنا كالستالينية و الناصرية و البنلادنية و التي تعتبر أنها تمتلك الحقيقة المطلقة في هذا الكون وأن التأريخ و الحاضر معها و أن عليها تحقيق أهدافها و لو كلفها ذلك التضحية بأرواح الملايين من البشر .. و رغم أنحسار المد الفكري لهذه الآيديولوجيات في أغلب دول العالم ألا أنها لا تزال تجد لها قبولاً لدى بعض الديناصورات النخبوية في مجتمعاتنا .
أن المقارنة بهذه الطريقة المجحفة بين صدام و باقي الزعماء العرب و أنظمة حكمهم الهدف منها هو خلط الأوراق و تضليل الشعوب و منعها و حكوماتها من السير في طريق الأصلاح و التغيير الذي تنشده الحكومات و الشعوب في كثير من الدول .. فصدام لا يقارن بأحد و قد فاق الجميع و بتفوق في وحشيته و دمويته مع شعبه .. نعم هناك بعض الزعماء العرب يشابهون في أنظمتهم الأستبدادية نظام المجرم صدام في كثير من الوجوه .. و أمثال هذه الزعامات و الأنظمة تحتاج الى بعض الضغط من قبل المجتمع الدولي و قوى العالم المتمدن التي يحلو لأصحابنا تسميتها بقوى الأستعمار تماشياً مع نغمة أساتذتهم التي كانت سائدة في خمسينيات القرن المنصرم و أن لم تنصاع لهذه الضغوط فلا بد من تغييرها بالطريقة التي حصلت مع صدام ونظامه .
أما الغالبية العظمى من الزعامات و الأنظمة العربية الموجودة فهي جيدة و لا بأس بها و لا تحتاج الى أي نوع من التدخل الخارجي لتغييرها أو لحثها على أجراء بعض التغييرات أو السير في طريق الأصلاح لأن بعضها بدأت و منذ فترة السير في هذا الطريق و قطع البعض الآخر أشواطاً كبيرة في هذا المجال .
فالتجربة الديمقراطية في الكويت هي تجربة رائعة و رائدة بكل المقاييس هذا أذا أستثنينا بعض السلبيات الموجودة أو المفروضة على واقع الحال ليس بسبب نوع القيادة أو شكل النظام بل بسبب طبيعة المجتمع الذي لا يزال محكوماً بقيم وتقاليد خاصة و يحتاج الى بعض الوقت ليستطيع المزج و التوفيق بين روح الأصالة في هذه القيم و بين روح الحداثة و التطور التي بدأت تطال كل نواحي الحياة في هذا الزمان .. فالشكل الديمقراطي للعمل السياسي الموجود في الكويت يمثل سابقة بالنسبة للعالم العربي والأنظمة العربية هذا طبعاً بالمقارنة مع طبيعة المجتمع الكويتي .. أذ لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في الكويت أفضل مما موجود الآن و الكويتيون بتجربتهم الديمقراطية الحالية الفريدة و المميزة متقدمون زمناً طويلاً على نظرائهم في باقي الأقطار العربية و لديهم نخبة رائعة و مميزة من المفكرين و المثقفين قادرين و بمساعدة قيادتهم الواعية والحكيمة على توجيه المسيرة الديمقراطية و أيصالها و الكويت الى بر الأمان الذي ينشده أي مواطن شريف لبلده .
و مثلهم أخوانهم في أم الدنيا مصر هذه الدولة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنهض الأمة العربية دون نهوضها فهي العمق الحقيقي لكل العرب وهي روح العرب و قلبهم النابض .. و كعادتها فمصر كانت و لا تزال سباقة في هذا المجال فقبل مئة عام أنطلقت منها أولى بشائر النهضة العربية و ذلك على يد نخبة من النهضويين المجددين من أصحاب الفكر كالشيخ المتنور محمد عبدة و الفارس المجدد قاسم أمين و العملاق سعد زغلول و غيرهم كثير من رواد الحداثة و النهضة في تأريخ مصر الحافل بمثل هذه النماذج الرائعة و القمم الشامخة .. و قد أنجبت مصر ولا تزال الكثير من أمثال هؤلاء كالراحل عبد الرحمن بدوي أو كبعض قادة الفكر الموجودين الآن في الساحة المصرية كفؤاد زكريا و جمال البنّا و وحيد عبد المجيد و سعد الدين أبراهيم و غيرهم كثير ممن يستطيعون بفضل فكرهم النير و تأثيرهم على الشارع المصري أن يساهموا بشكل فاعل في تغيير الأوضاع في مصر بما يخدم المسيرة الديمقراطية التي تسير ببطأ في مصر رغم وجود تعددية الأحزاب و حرية الصحافة و مؤسسات المجتمع المدني و غيرها من آليات الديمقراطية التي تحتاج الى تفعيلها من قبل الحكومة قبل النخب .
و هناك تجربة البحرين الفتية و التجربة الأردنية والتجربة المغربية وغيرها من التجارب العربية التي لا تحتاج الى تدخل خارجي لأصلاحها و لدفعها الى السير في طريق الديمقراطية .. بل تحتاج الى نخب واعية و مؤسسات حقيقية وفعالة للمجتمع المدني تساهم مع حكوماتها في تفعيل المسيرة الديمقراطية الناشئة في هذه الدول التي قد تكون الأشكالية فيها في النخب و المثقفين أكثر من كونها في الحكومة كحالة الأردن مثلاً الذي يمتلك قيادة جيدة و واعية و شبه ديمقراطية مقابل نخب من أشباه المثقفين جلهم من أعداء الديمقراطية و من المطبلين للطغاة و الدكتاتوريين كصدام حسين .
نحن ندعوا في كثير من الحالات الى أن تلعب النخب الواعية و مؤسسات المجتمع المدني الدور الفاعل و الأساسي في التغيير ما دام هناك بصيص أمل أو ضوء في نهاية النفق كما يقولون من دون الحاجة الى التدخل الخارجي الذي على الرغم من كونه ضرورياً و ملحاً في بعض الحالات ألا أنه يجر خلفه الكثير من الأشكالات التي نحن في كثير من الأحيان في غنى عنها .
لذا فأن التغيير من الخارج هو أخر الحلول الممكنة للحالات المستعصية من الحكام والنظم خصوصاً تلك التي تعجز الشعوب عن أصلاحها أو تغييرها .. ليس طبعاً لضعف أو هوان لدى هذه الشعوب بل لشدة وحشية و دموية و أجرام هذه الأنطمة و حكامها و بسبب طغيان صوت طبول المطبلين لهؤلاء الحكام و لهذه الأنظمة على صوت آهات الشعوب و صيحاتها بوجه جلاديها .. و خير مثال على ذلك هو ما جرى في العراق طوال ثلاثة عقود حيث لم يسمع أحد صيحات العراقيين و لم يعر أحد أهتماماً لتضحياتهم الغالية و الثمينة على طريق التحرر بل على العكس و قف الأخوة و الأقارب متفرجين و مطبلين لجلاد العراقيين و طاغيتهم حتى جائت جيوش الغرب و جيوش العالم الحر و المتمدن و خلصتهم مما هم فيه من ظلم و طغيان حيث لم يكن هناك مفر من ذلك .. لذا فعلى الآخرين من أشباه صدام و نظامه الأتعاظ مما حدث في العراق و ترك سياساتهم الأستبدادية القبيحة و المقززة تجاه شعوبهم و ألا فقد أُعذر من أنذر .
المشكلة هي أن هؤلاء ( المثقفون ) أو من يمكن أن نسميهم بوعاض السلاطين أو مثقفي السلطة يتعاملون بقسوة و بشدة مع الديمقراطيات الناشئة كتجربة مجلس الحكم في العراق أو كالتجربة الكويتية أو المصرية أو البحرينية بل و يبحثون لها عن أبسط الزلاّت .. في حين يتسامحون و يغضون الطرف و بقصد عن الجرائم البشعة و الأنتهاكات الخطيرة التي ترتكبها الديكتاتوريات التي يعتاشون على فتات فضلاتها و التي يمثل و جودها و أستمرارها ضرورة لوجود و أستمرار أمثالهم .. فأمثال هذه الطفيليات تنمو و تنتعش بوجود الدكتاتورية و تموت و تنتهي بتحقيق الديمقراطية .