• حاوره: عدنان حسين أحمد / لاهاي
• المخرج السينمائي سعد سلمان ﻟ " الحوار المتمدن "
- إن نجاح هذا الفلم يتأتى من اللغة البسيطه التي تخاطب الحواس أولاً.
منذ تنكّبَ سعد سلمان كاميرته اﻟ " Mini DV " أو ربما اﻟ " DV Cam " ويمّم وجهه شطر المدن الشمالية في العراق، ليصوِّر خمسين ساعة بالتمام والكمال، مُنتقياً الأمكنة، والأشخاص، والثيمات، ومستعيناً بعينيه الذكيتين القادرتين على الرصد والإلتقاط، ومعوِّلاً في الوقت ذاته على حدوسه الثاقبة التي لم تخذله في وضع أصبعه على جرح العراق الدامي. منذ تنكب تلك الكاميرا التي أماطت اللثام عن وجه الحقيقة المخبأة التي صدمت الكثيرين كان يدرك بقدرته الإستشعارية أن هذا الفيلم المعنون " Baghdad on / off " سيشق طريق شهرته بصعوبة بالغة. وهذا ما حدث فعلاً حين رفض معهد العالم العربي عرضه في الدورة السادسة لبينالي السينما العربية في باريس. وربما كان هذا الرفض هو الذي أوقد في أعماق سعد سلمان شرارة التحدي الذي دفعه لأن يعرض الفيلم في قاعة " المفتاح " المجاورة لمعهد العالم العربي، ويكسب بالنتيجة أراءً نقدية مهمة لكتاب من طراز سمير فريد، وليد شميط، صلاح هاشم، صلاح سرميني، سعدي يوسف، وآخرين. كما كتب عن الفيلم نقاد أجانب أمثال شارلوت غارسو، ودونالد جيمس، فلورنس كولومباني، سيسيل موري، فرانسو فورستييه، بول لويس تيرارد، وبرجيت بودان، الأمر الذي دفع العديد من الصالات السينمائية الفرنسية والأوربية لعرضه بعد أن شارك في ثلاثة عشر مهرجاناً عالمياً من بينها " أيام بيروت السينمائية " 2002، المهرجان السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية في هولندا " 2002، والدورة الخامسة والعشرون لمهرجان سينما الحقيقة في فرنسا 2003،، ومهرجان الفيلم التسجيلي في أكسفورد " 2003 وعدد آخر من مهرجانات السينما في أمريكا. ولإستجلاء أهمية هذا الفيلم، والتوقف عند أبرز المواقف والأحداث التي أثارت ضجيجاً ما تزال بعض تداعياته قائمة حتى الآن إلتقينا المخرج سعد سلمان على هامش مهرجان " الفيلم العراقي المهاجر " الذي أقيم في لاهاي يومي 25 و 26 أكتوبر الماضي وكان لنا معه هذا الحوار:
• أحدثَ فيلمك المعنون ( Baghdad on / off) دوياً إعلامياً غير مسبوق. . إلى مَ ترد هذه الضجة الإعلامية؟ هل لأن معهد العالم العربي رفض إشراك هذا الفيلم في الدورة السادسة لبينالي السينما العربية في باريس، أم لأن الفيلم نفسه ينطوي على إشكالية تقنية أو مضمونية دفعت القائمين على المهرجان لحجبه، أو منعه من المشاركة؟
- أولاً، أود أن أوضح بأن ردود الفعل حول الفلم لا ترجع إلى رفض معهد العالم العربي لعرضه، لأن مواقف النقاد والعارفين بالسينما ومسؤولي المهرجانات العالميه لا يرسمون مواقفهم على ما يُعرض وما لا يُعرض في هذا المعهد وحتى أن أكثر النقاد والصحفيين العالميين وحتى الفرنسيين لا يعرفون حتى أن هناك مهرجاناً يقام في هذه المؤسسه الدبلوماسيه بواجهة ثقافيه. الفضيحه إن كانت هناك فضائح في عالمنا العربي أن المسؤولين عن هذا القرار لم يكشفوا عن وجوههم، ولكنهم تحصنوا كعادة كل الموظفين خلف التملص، وأخذ الفلم مجراه، وأنجز مشواره العالمي رغم كل محاولات التكتم العربي عليه. هذه القصص لا علاقة لها بالإبداع والفعل الإبداعي. في الحقيقة أن ردود الفعل الإيجابيه، وهذا الحماس في تلقيه من قبل الصحافة والنقاد والجمهور نابع أساساً برأيي من طبيعة اللغة السينمائيه التجديديه التي تبناها الفلم، والتي تأتي في وقت تطور التكنولوجيا السمعيه البصريه، وتطرح أسئله جوهريه حول السينما كصناعة خاضعة لشروط إنتاج قاسيه يفرضها رأس المال أو كأداة تعبيريه فيها إمكانيات اللعب على الزمان والمكان أكثر من الشعر وأبعد من الموسيقى. إن نجاح هذا الفلم في الوصول إلى قلوب الناس يتأتى أولاً من هذه اللغة البسيطه التي تخاطب الحواس أولاً، وتتحرك بآلية. إن الإنسان هوالقيمه المطلقه في أي عمل فني. كان إستقبال الجمهور فيلمBaghdad On/Off ودهشتهم من العراق الذي شاهدوه، عراق مُخرَّب، مُقطَّع الأوصال، إنسانه ملاحق، مشرد، فقير، حيث الإهمال يسود كل شيء نابع في إعتقادي من المفارقة التي حكى بها الفلم حكايته وتراكمات الصوره التضليليه التي إعتاد نظام البعث ترويجها عن العراق لفتره دامت عشرات السنين فأخترقت صورةالعراق الحقيقي كماهي في الفلم صورة العراق الآخرالمروج من قبل إعلام آيديولوجي مأجور.
• البعض من النقاد وصفوا Baghdad on / off ) ) بأنه نوع من أفلام الطريق. ما رأيك بهذا التوصيف النقدي السينمائي ( تحديداً )؟
- ليس من عادتي التعليق على ما يكتب عن الفلم ولكني أود أن أشير إلى أن هذا التعبير هو ترجمه حرفيه لمفهوم سينمائي له قواعده وحرفياته وكثيراً ما يترجم إلى أفلام الرحلات أيضاً، ولكني ألفت نظرك إلى حقيقة أنBaghdad on / off ) ) لا يدخل ضمن هذه الأوصاف، ولكن الصحفيين والنقاد بحاجة إلى التصنيف، وهذا من صلب حرفيات مهنتهم، وليس للمبدع أن يتشرنق في واحدة من التصنيفات
• عندما كنت منهمكاً في إخراج الفيلم هل كنت تفكر بالبنية الدرامية التي تنطوي عليها أحداث الفيلم المتتابعة وما توفره من شد، وتوتر، وترقب، وتشويق. . ألا تعتقد بأن هذا الترقب، والتوازن القلق، وعناصر الجذب الأخرى هي التي كانت تقف وراء نجاح الفيلم، وهي التي أنقذته من السقوط في فخ الملل الذي يقع فيه الكثير من المخرجين السينمائيين؟ المشاهد كان يتوقع أنك ستصل إلى بغداد لترى أمك المحتضرة لكنك خالفت توقعات المشاهدين بنهاية غير متوقعة تدلل على إتقانك لشروط اللعبة الفنية. هل كانت هذه اللعبة الفنية حاضرة أثناء إخراجك للفيلم أم أنها جاءت عفو الخاطر؟
- ليس هناك من فن يتأتى عفو الخاطر. إن شروط الإبداع لا تتوافر بالصدفه، وإنما هنالك تراكمات التجربه الحياتيه والمهنيه بالإضافة إلى الحريه الداخليه للمبدع، ودرجة إنغماسه في موضوعه، وبالتالي مؤهلاته الفطريه والحسيه للتعبيرهي التي تحدد شرط الإبداع الذي هو الشرط الأساس في_ اللعبه الفنيه – أما الشرط الأساس الآخر وهو الجمهور أو المتلقي عموماً . كثير من الأعمال الفنيه تحتقر الجمهور وتتعالى عليه ولا تضع ثقتها فيه ولهذا التصور أسباب لا مكان لمعالجتها هنا. في Baghdad on / off ) ) توجهت إلى جمهور أعرف أصلاً أنه مضلل وليس من مصلحتي أن أنفذ إلى عقله المحشو بالأفكار المسبقه، ولهذا حسبت حسابي منذ البداية أن أتوجه إلى قلبه، أن أخاطب حواسه، أن أوقظ الفضول داخله، أن أعطيه شيئاً حتى يرافقني في رحلتي هذه، وإلا ما ذنب هذا الإنسان المرتاح على مقعد وثير في قاعة أنيقة أن يتحمل مأساة أم عراقية ويتفاعل معها وبالتالي يغير الكثير من معطيات حكمه على الأشياء والأحداث. إن عملية التواصل مع الجمهور هي أعقد عمليه في آليات الإبداع، ولكن في إعتقادي يبقى المبدأ الجوهري، هو إحترام المتلقي والثقه في عينه. وهذا ما حصل عندي حيث وضعت ثقتي في عين الجمهور الذكيه، وبالفعل إكتشفت بأنه كلما راهنت على ذكاء المتلقي كلما زاد التواصل معه. وهذا لايعني أبداً العمل بنظرية المصريين " الجمهور عاوز كده".
• لماذا حجبتَ وجه المهرِّب، وإكتفيت بإظهار صوته. . هل ثمة لعبة فنية في هذا الحجب المتعمد لصوت سينمائي معروف لبعض العراقيين في الوسط السينمائي تحديداً؟
- لم يأت هذا الحجب نتيجه لعبه فنيه، إنه من صلب البناء الدرامي للفلم. إن تغييب صورة المهرب والاكتفاء بصوته يعمق طابع السريه والتكتم والخوف والحذر وهذه المشاعر هي ما أردت أن أوصله للمتلقي على أساس أنها مشاعر الإنسان العراقي تحت مقصلة نظام صدام، وإذا ألغيتها أنا بأطلالة صورة المهرب فأن جزء من بنائي الدرامي قد سقط وعندما طلبت من الفنان الشاعر صلاح الحمداني القيام بدور المهرب فأنني كنت واثقاً بأمكانيات صلاح الفنيه وقدرات صوته الإستثنائي على التعبير وإيصال الحالة، ولم يخذلني حيث لعب الصوت دوراً مركزياً في عملية التطور الدرامي في الفلم.
• نقاد سينمائيون عرب وأجانب كثيرون كتبوا عن تجربتك الفنية في أكثر من فيلم مثل ( المحاكمة: عمر رداد ) و ( فيزا إلى الفردوس ) و (Baghdad on / off ) ما سر إهتمام النقاد بأفلامك الطويلة تحديداً؟ وما هي ردود أفعالك إزاء وجهات النظر النقدية العربية والأوربية؟
- لا أعرف إن كان هناك سر ما، كل ما أستطيع قوله هو أنني هنا في باريس حيث يتواجد فيها خيرة المبدعين من العالم ليس لي خيار غير التحدي اليومي، والبقاء واقفاً وسط هذه الموجات من التدفق المستمر للمعلومات والتجارب المختلفة لمبدعين جاؤا من بقاع نائيه وأخرى قريبة. وهذا الحضور الدائم هو أيضا حاجة عضويه لا استطيع العيش من دونها. . يعني هذا التوثب الدائم، وحالة الإستنفار القصوى، والدائمه وخصوصاً الحريه. . هذه الحريه التي تشكل الحجر الأساس لكل عمل إبداعي. لقد حاولت في كل فلم عملته أن اتجاوز فيه الفلم السابق.
• عَرضتْ القناة التلفزيونية الفرنسية +Canal فيلمك الطويل " عمر رداد " كما عرضت الصالات الفرنسية لأول مرة فيلمك Baghdad on / off ) ) هل تلقيت بعض الإنطباعات عن هذين الفيلمين من الجمهور الفرنسي تحديداً، وما هو موقف النقاد السينمائيين الفرنسيين من هذين الفيلمين بالذات؟
- أكثر أفلامي عُرضت في التلفزيونات الفرنسية والسويسرية والهولندية والبلجيكية والإيطالية، وقد كُتب عنها في مناسبات عرضها في الصحف والمجلات المتخصصة. وقد حظى الفلم الأخير Baghdad on / off ) ) بعناية أكثر من غيره وذلك لوضوح علامات التجديد فيه، وعمق الأسئلة التي يطرحها على مستوى الشكل والمضمون، وكيف يتحول المضمون إلى شكل والشكل إلى مضمون، وقد كان السؤال المركزي هو: كيف تم تحميل هذا الفيض الإنساني المتدفق بفلم تم إنجازه بشروط فنيه إستثنائيه تنسف كل معادلات الإنتاج الإقتصاديه والفنيه ؟ أنا شخصياً مرتاح بطريقة إثارة هذا السؤال ولكني لست معنياً بالرد عليه إلا بالقدر الذي أستطيعه وهو إنجاز أفلامي.
• هل صحيح أنك تُعِدْ الفيلم، بعد التصوير طبعاً، من ألفه إلى يائه في المنزل. . هل لك أن تسلط لنا الضوء هذه الظاهرة غير المألوفة في العمل السينمائي الذي يحتاج إلى مختبرات وإستديوهات وما إلى ذلك؟
- ليس كلها، ولكن الثلاث الاخيره منها، إن التطور الذي يحدث في عالم الإتصالات وتقنياتها وفرت للسينمائي حرية لم يكن يحلم بها قبل الآن. إنها حررته بقدر كبير من سلطة رأس المال، وبالتالي فمن غير المقبول الآن الإختباء وراء إرادات المنتجين لتغطية الفشل في تحقيق ما نريد تحقيقه. حرية المخرج الآن تشبه حرية الشاعر مع مفرداته، و الرسام مع ألوانه. لقد وفرت لي الامكانيات لكي أحافظ على إستقلالية أعمالي، وهذا لا يعني بأني غني، ولكن توزيع الأوليات عندي يجعل إستقلالية أعمالي هي ثروتي الوحيده. صحيح أن بيتي يتحول حسب مراحل صناعة الفلم، من مكتب إنتاج، إلى صالة مونتاج، إلى أستوديو للتصوير إلى مطعم. إنها حياتي، هكذا تسير الأمور.
• في أوائل التسعينات من القرن الماضي أخرجتَ فيلمين قصيرين عن رامبو، الأول بعنوان ( رامبو ساعة الهروب ) والثاني ( من شرفة رامبو ) ما الذي دفعكَ لإخراج هذين الفيلمين؟ هل ثمة حوافز شخصية، أم أن شهرة رامبو وذيوعه العالمي هو الذي شجعك على تناوله سينمائياً؟
- لا هذا ولا ذاك، الفكرة ولدت عندما كلفني معهد العالم العربي بعمل فلم على شكل تغطيه إخباريه لزيارة بعض شعراء فرنسا المشهوريين إلى اليمن، وذلك تخليداً لذكرى الشاعر رامبو وإقامته في عدن. ولكني أخذت الفكره وعملت منها فيلميين، الأول يتحدث عن شعراء منغمرين في البحث عن الحجارات، بينما شاعرية المدينة تفلت منهم، والثاني تعميق نظري عن رامبو، وخصوصاً البقع الرمادية في حياته التي جعلت منه عرضة لكثير من الإشاعات التي تحولت مع الزمن إلى مسلمات ليس لها من الحقيقة شيىء. واثناء هذه الفتره حققت فيلم إحك لي شيبام وهو من الافلام التي أعتز فيها ولقيت صدىً لطيفاً من الجمهور، كل الجمهور، وكانت معركتي آنذاك بجذب معهد العالم العربي لأن يهتم بالمدن العربيه وتواريخها كمدخل للتخلص من عبء الدبلوماسيه عليه حيث يضطر أن يتناول العالم العربي ككيانات رسمية، وبالتالي إضطرار التعامل مع الحكومات وترويج ثقافتها التي تريد ترويجها.
• خلال وجودك في باريس لمدة سبع وعشرين عاماً ما الذي أفدته على الصعيد السينمائي من السينما الفرنسية تحديداً وما هي حدود التلاقح بينك وبين المنجز الفرنسي السينمائي على صعيد الرؤية والتقنيات والمضامين أو ربما المزاج الفني العام؟ هل تأثرت بمخرجين سينمائيين أو أفدت من تجاربهم، هل أعجبتك أفلاماً محددة، وما سبب هذا الإعجاب؟
- السينما الفرنسيه لها ملامحها، وسماتها، ومناطق نفوذها، كما السينما الإيطالية والألمانية قد نحبها أو العكس، وعموماً أنا لا أطيق السينما الفرنسية إجمالاً، ولكن هذا لا يلغي إعجابي بسينمائيين فرنسيين مثل آلآن رينيه. إن تواجدي في باريس كل هذه الفتره أتاح لي التعرف عن كثب على ثقافات وانتاجات عالمية، كما إن عملي الطويل نسبياً في التلفزيون الفرنسي أتاح لي الإطلاع ومواكبة التطورات التكنيكيه والوسائل الفنيه و أعتقد أنك أصبت حين أشرت إلى مزاج فني ولكني أطمئنك بأنه ليس عاماً. . المزاج العام يرعبني بقبحه وإنحطاطه، ولكن هناك أشياءً كثيره تُصنع على الهامش الذي هو المكان الحقيقي للأبداع.