|
أقاليمٌ مُنجّمة *
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2233 - 2008 / 3 / 27 - 05:51
المحور:
الادب والفن
من مفكرة ميّت / أيلول 1952
السيارة ، مضتْ في طريقها ، آخذة ً ذكريات يومي ، الحافل . صار رأسي أثقلَ من المعتاد ، فرأيتني بحاجة إلى إغفاءةٍ . فترة من الوقت مرّت ولا شك ، دونما يقين من طولها أو قصرها ، سوى كونها خلت من أيّ حلم . هوَ السائق ، الذي يرافقني دوماً ، من تعهّد إيقاظي . إنه متطوع ، برتبة سرجنت ( أو ما أضحتْ تعرف بـ " رقيب " ، إثر الإصلاحات الأخيرة ) ؛ فتىً في مقتبل العمر ، يتنسّب لهذا الإقليم المُحاذي للبحر . وإذاً ، طالعني فور فتح عينيّ منظرٌ بديعٌ لسماء زرقاء ، صافية إلا من خطوط ورديّة . كانت سيارتي تتهادى بطيئة ً على الدرب الوعرة ، الشديدة الخطورة ، المُشرفة على وادٍ سحيق ، غارق في الضباب . بدوره ، بدا رقيبنا متململاً ، كما عكست ملامحه المرآةُ الصغيرة ، المثبته أمامه . أسأمته ، ولا غرو ، ليلة مرّت بلا أنيس يستنهض ثرثرته . وعلى هذا ، فقد راحَ الآن يُحاول تعويض ما فاتَ لسانه في المحبس القسريّ .
ما كنتُ ، للحقيقة ، بحاجةٍ إلى من يُعيد على مسمعي مسألة إنحسار الخطر عن هذه الدروب ، بعيد سيادة النظام في أرجاء الإقليم وتشتيت أوباش " شيخ الجبل " ؛ هذا الزاعم تجلي الربّ ـ إستغفر الله ـ في شخصه الزنيم . حينما وصلنا ، أخيراً ، إلى البلدة ، كانت الشمسُ مهيمنة عليها تماماً . جسدي ، المبترد من الرقدة الليلية ، الربيعية ، قد أسعدته هذه الأشعة الدافئة . ترجلتُ أمام بوابة القلعة ، الأثريّة ، التي سبق أن حاصرها ودكّ تحصيناتها الملكُ الناصر ؛ جدّنا الأول . إنها الآن المقرّ ، المؤقت ، لعمليات اللواء الخامس ، خلال قمع التمرّد الأخير . نظرة مُشفقة ، أكثر منها زريّة ، محضتها من ثمّ لقطعات الدرك ، المبعثرة في أنحاء المكان : فهم سبق وقدموا تضحياتٍ جسيمة ، مذ بدء الإصطدامات ، مما أجبرهم على الإعتراف بالعجز والطلب من الحكومة إستدعاء الجيش النظامي .
أخبرني الحاجبُ بأنّ الزعيم " فكرت " ، رئيس اللواء ، قد وصل للتوّ ، وأنه بصدد الإجتماع مع أركانه . أزحتُ هذا الغندور من طريقي ، فيما ألجُ الحجرة الواسعة ، المخططة مداميكها على الطريقة التقليدية ، الدمشقية . بعد تقديم نفسي ، رحتُ أجول بنظري في الآخرين . فضلاً عن الرئيس ، كان ثمة عددٌ من ضباط مراتبي ، وفيهم المقدّم " محمود شوكت " ؛ إبن حارَتنا . هذا الأخير ، ما عتمَ وبإشارة من رئيسنا المسنّ ، الشركسيّ ، أن باشرَ في عرض الوضع الميدانيّ . كان المقدّم قد عُرف في العامين ، الأخيرين ـ كمخطط للعمليات ، عبقريّ . وها هوَ الآن يستنفض خبرته على ورق الخارطة الكبيرة ، المُستجلبة خصيصاً من الأركان العامّة ؛ بالنظر لإقتصار قيادة الدرك ، في الإقليم هذا ، على خرائط طبوغرافية لا قيمة عملية لها ، كان قد صممها في زمن الإنتداب مهندسون عسكريون ، فرنسيون . أكّد زميلنا الأخبارَ المتداولة ، من أنّ " شيخ الجبل " ، المتمرد ، يتحصّن في قرية " الفاخورة " ؛ معقله الأخير . من جهتي ، كنتُ على دراية جيّدة بالوضع ، ما دامت القوّة ، التي تتبع مباشرة إمرتي ، تشارك في إحكام الحصار على العصاة ، بعدما أمهلوا فترة قصيرة للإستسلام . هكذا لم أعبأ عن الشرود بفكري ، مُقارناً ملامح المقدّم بقريبته " زينيْ " ؛ جارتنا القديمة . بكل راحة ضمير ، أستطيع الجزمَ بأنّ عمّها هذا ، كان يحظى بصيتٍ غير طيّب في الحارَة . إستنكافه عن التوسّط في معاملات الأهلين ، كان من واردات الحنق عليه ؛ وخصوصاً من لدن أولئك الراغبين في تنسيب أولادهم للمدارس الحربية . نزاهته ، التي لا تشوبها شائبة بحق ، ما كانت على الأرجح عزوة موقفه ذاكَ ، بل هوَ طبعٌ متأثل فيه ؛ طبعٌ ، يُحيل إلى التنكر للجذور . وكم أحنقني منه ، إلى درجة الإحتقار ، ما كان قد صرحَ به مؤخراً في النادي ، من أنه ذو نسبٍ قرشيّ ـ كذا ؛ بزعم أنّ عشيرته ، " عليكيْ " ، فرعاً من آل البيت الشريف .
*** عليّ كان أن أفيقَ من شطح خيالي ، لحظة أمرتُ بتقييم دور قوات الخيالة ، التي أقودها . فيما أنا أشرح المهمّات الجسيمة ، المنوّطة برجالنا ، جازَ لي إكتناه ما تبدّى من عاطفةٍ في ملامح رئيسنا الشركسي . إنه على علم ، بكل تأكيد ، بما يُشنعه عليّ الزملاء ، اللدودون ، المتحزبون للجماعات العروبيّة ؛ من أنني عنصرٌ خطر ، شعوبيّ ، يريد العودة بالجيش النظامي إلى الأساليب البائدة ، المفتتة للوحدة الوطنيّة ؛ غامزين بذلك من قناة إسهامي بتشكيل " الفوج الكرديّ " ، المستقل ، وإستمراري حتى اللحظة الأخيرة في جيش الإنتداب . نظرة هؤلاء لصديقي ، العقيد ، ما كانت بأقلّ تعنت وتطرّف . إذ روجوا عن علاقته بالقوميين الإجتماعيين ، وأنها مبنيّة على الإنتهازيّة ، علاوة على مماهاته جذوره الأقلويّة . إنه هنا ، على كلّ حال ، من أبرز القادة المكلفين بقمع التمرّد . وها هوَ ، بدوره ، ينتهض لتقديم تقريره ، الميدانيّ ، وما يتعلق بدور قوته المدرّعة ، الفقيرة التجهيز . عبارته المقتضبة ، لم تدهشني . كان صموتاً بطبعه وداهية لا يُعرف لطموحه حدّ . وعلى الرغم من إنحداره من أكراد " حماة " ، العتاة ، إلا أنه كان رجلاً هادئاً حدّ الصفراويّة.
قدّر لنا ، نحن الثلاثيّ ، فرصة العمل سويّة ً ، أثناء القضاء على عصابة " مصياف " ، التي تزعّمها حينئذٍ أفاقٌ آخر ؛ هوَ المدعو " بو علي شاهين " . هكذا ، زيّنتْ حاشيات أرديتنا بأنواط الشجاعة ، والتي أضيف إليها ، لاحقا ، ميداليات حرب فلسطين ( رغم نتائجها المحزنة ) . في حينه ، تسنى لي مواجهة زعيم عصابة " مصياف " ، إثرَ أسره ؛ مواجهة مع كائن متوحّش ، حبيس القيود . بيْدَ أنهم ، فيما بعد ، بالغوا أمامي في إمتداح جمال زوجة هذا الوحش ، المتمرّد . عناصر الدرك ، الذين أخبرتْ بأمرها منهم ، كانوا قد أسروها مرة ً ، فحررها رجلها بالقوّة . من جهتهم ، إحتفى الفلاحون ، المعدمون ، بتلك الواقعة ، فأنشدوا بطلها زجليّة ً ، حفظتُ مطلعها ( لكثرة المرات التي أعيدتْ فيها على مسمعي ) :
" يا بو علي يا شاهين ، يا بو سيف اللمّاعي عندما هجم عالمخفر ، قال لإمرأته إطلعي "
*** ما إن إنقضت معركة " الفاخورة " ، حتى إجتاحتني آلام الكبد . هكذا إستدعيتُ من جديد للأركان العامّة ، ربما رأفة بحالتي الصحيّة . هنا ، في الشام ، وردنا نبأ سحق التمرّد ، نهائياً . مرضي ، إذاً ، فوّتَ عليّ فرصة رؤية " شيخ الجبل " ، بعدما إستسلم للقوات المهاجمة . هكذا بقيتُ معتاداً على إستدعاء صورة " الشاهين ، بمحلّ صورة هذا المتمرّد الجديد ( أليسَ كلاهما على نفس الدرجة من السوء ، في آخر الأمر ؟ ) . على أنه ، من جهة اخرى ، ما كان لي سوى الإهتمام بتلك النبوءة ، الدعيّة ، التي قذفها شدقُ " شيخ الجبل " ، في لحظة شنقه . فعندما إنتصبَ واقفاً على منصّة الإعدام ، يُقال أنّ صديقنا ، العقيد ، قد هتف به ساخراً : " أيّها الربّ ! لن أطلبَ منكَ سوى خدمة ً واحدة ، بسيطة ؛ أن تسعى ، اللحظة ، لإنقاذ رقبتكَ ! " ـ " لا تهتمَ أنتَ لرقبتي ، بل لنجمكَ : لأنه سيأفلُ ، يوماً ، فوق أرض أنارها بالحرائق ؛ لأنه على موعدٍ ، آجل ، مع برج العذراء " .
* مستهلّ الفصل الثالث لرواية " برج الحلول وتواريخ اخرى "
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مَناسكٌ نرجسيّة 6
-
سطوٌ على المنزل الأول
-
مَناسكً نرجسيّة 5
-
القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
-
مَناسكٌ نرجسيّة 4
-
من جسر ثورا إلى عين الخضرة
-
مَناسكٌ نرجسيّة 3
-
مَناسكٌ نرجسيّة 2
-
مَناسكٌ نرجسيّة *
-
دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
-
ميرَاثٌ مَلعون 5
-
ميرَاثٌ مَلعون 4
-
ذهبٌ لأبوابها
-
ميرَاثٌ مَلعون 3
-
ميرَاثٌ مَلعون 2
-
ميرَاثٌ مَلعون *
-
كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
-
أختنا الباكستانية ، الجسورة
-
جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
-
زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|