|
عمود طاجا / عمود تيراقا
رياض الأسدي
الحوار المتمدن-العدد: 2231 - 2008 / 3 / 25 - 10:57
المحور:
كتابات ساخرة
بماأن الحكام العرب جميعا ولولعون بتخليد ذكراهم بعد موتهم أو بعد شنقهم أو بعد رميهم بالرصاص لإبقائهم في عمق العالم والتاريخ وذاكرة الناس الآتين، لذلك لجئوا إلى وضع سيرهم في تماثيل ومنحوتات ترتفع عاليا حتى تبقى أسماؤهم كبيرة متلألأة ومحفورة بمياه الذهب في ذاكرة الماضي والحاضر والمستقبل، فيقيمون النصب تلو النصب ويرفعون التماثيل السود تلو التماثيل ويرسمون الجداريات في كلّ مكان. هذه طبيعتهم و هذه حكمتهم وهذا ديدنهم ولا رادّ لهم منذ فجر التاريخ إلى يومنا. وشعوب أوربا قبل عصر النهضة كانت تمارس الفعل في تخليد الموت والقادة فقد بقي (عمود طاجا) الذي يخلد أعمال القادة الرومان الحربية في ايطاليا شاهدا على ذلك إلى يومنا حيث يزوره الناس هناك ليس للتعظيم هذه المرة ولكن من اجل السياحة. وكان من المؤاخذات الغريبة على احد (محافظي العهد السابق الذين لم يحفظوا للعراق شيئا) هي عدم وجود ما يكفي من (جداريات) عن (القائد) في بداية محافظته؟ ولذلك عندما انتهى من الإيعاز الرئاسي ترك كلّ أعماله وبقي يشرف مباشرة على اكبر عدد من الجداريات في بداية المدينة. نحن ولوعون بالتوكيد السياسي على نحو مريض دائما، ولا ادري متى نغادر قضية الإيمان والولاء لشيء من (التظاهر المادي) إلى الإيمان القلبي الحقيقي الذي لا تشوبه نزعات لا تقدم ولا تؤخر، فلم يكن للرسول محمد (ص) تماثيل وجداريات ونصب مطلقا, لكنه مازال واحدا من أكثر البشر قربا إلى نفوسنا، أليس كذلك؟ ومن الصعب أن تجد بلادا في العرب أو المسلمين قد تخلصت من هذه الظاهرة التي غادرها الأوربيون منذ الحرب العالمية الثانية. فأنت ما أن تدخل بيت أحدنا في عموم العالم العربي حتى تواجهك (صور) القادة حتى إني اذكر آخر تقرير كتب عن عراقي وجيء به للتحقيق إلى الفرقة الحزبية في منطقته كان يتعلق بعدم وجود صورة (للقائد) في ديوانيته؟! وفي اليوم التالي وبعد أن عرف (الجميع) بالحادث الجلل والواقعة الكبرى وضع (الجميع) في المنطقة صورا عديدة في ديوانياتهم.. فجاء الأمر ثانية: يجب أن تكون صور القائد (مؤطرة) و(زجاجية) و(نظيفة) دائما. وهذه مهمة ربات المنازل خاصة. فما الذي يكتب اليوم من تقارير..؟ خلوها سكته!!! فالتأكيد على صور الأبطال والأعمال الحربية والمعارك والشخصيات من روح البترياركية الشرقية وهي وليدة التاريخ القديم، لكننا ما زلنا نعيش كالقدماء دائما. ويراد منك أن تكون جاهزا لتقبل ما يراه الآخرون غالبا، وإلا وضعت في القائمة السوداء للمخالفين والمعاندين والمارقين. لماذا تسحق فينا الفردية؟ وهل نهض العالم الحديث إلا بعد أن أحييت (الفردانية) في الناس؟ وها هم اليابانيون: ماذا حصدوا من (التأقلم) الفريد مع الجماعة والذوبان مع المجموع والطاعة المقدسة للساموراي؟ أليس هيروشيما وناغازاكي والطغمة العسكرية المطاعة التي دمرت اليابان؟ وماذا حصدوا من الفردية التي جاء لهم بها دستور ماك ارثر: أليس هذا التقدم المدني الهائل في بلد بلا موارد للطاقة كما هو معروف؟ لذلك التغني بالأمجاد والحروب وأبطالها هو نوع أخر مما يعرف بمحاكم التفتيش القروسطية الخفية التي يمارسها الناس عندنا بينهم ودون أن يشعروا بذلك أحيانا. ولله في خلقه شؤون. أما محاكم التفتيش غير الخفية في العالم العربي والإسلامي فحدث ولا حرج؛ وهي الأسوأ في تاريخ العالم العربي لو أردتم التدقيق والتحقيق، فالويل كلّ الويل لمن يحاول أن ينتقد الحاكم، أو يحاول النقد كما في بعض البلدان العربية، ولو من طرف خفي، أوفي التعرض إلى ما كان عليه القادة والعظماء الحجريون السابقون في الأمة: هذا (التابو) الصنمي المروع الذي حررنا منه الرسول الأعظم (ص) قبل أربعة عشر قرنا ما زال يلف حياتنا منذ عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر وحتى هذه الساعة. وهكذا أصبح لدى كلّ عربي في هذا العصر ثمة (عمود كبير) خفي وغريب يشبه (عمود طاجا) الروماني يحمله على ظهره من الأوامر والنواهي والصور للقادة العسكريين وغير العسكريين الذين يصنعون النصر دائما، ولا شيء غير النصر. لكن أين هي انتصارات الأمة في هذا العصر العربي المهزوم من رأسه إلى أخمص قدمه؟؟؟؟ فمن معالم التاريخ والحضارة الرومانية القديمة وجود عمود طاجا العجيب: ذلك النصب الشامخ في روما الذي يروي حوادث الإمبراطورية عن طريق النحت على عمود ضخم كبير يرتفع عاليا. مئات الآلاف من السياح يأتون لروما كلّ عام لمشاهدته ومراقبة سيبر العمليات العسكرية الرومانية المنحوتة عليه بدقة متناهية. كما انه النصب المفضل لدى مجنون الإيطاليين الدوتشي موسوليني أيضا فقد كان لا يفارق عينيه المريضتين طوال حكمه الفاشي لايطاليا إبان الحرب العالمية الثانية مثلما كانت (بوابة هندنبرغ) لدى الفوهرر هتلر تماما. وهذا العمود لا يزال قائما رغم جميع المصائب التي مرت على ايطاليا إبان الحرب العالمية الثانية وقد صور نحاتوه المجهولون غالبا أعمال الدولة الرومانية الحربية على شكل سيناريو لفيلم سينمي يتصاعد إلى الأعلى. ولذلك لا غرابة أن يعدّ بعض مؤرخي الثقافة عمود طاجا أول فيلم في العالم قبل اختراع السينما بقرون عديدة. وبما أننا قد استوردنا من الغرب كلّ شيء من محاسنهم ومساؤهم من الكهرباء إلى الإرهاب ومن السيارة إلى الكلاشنكوف وحتى الملابس الداخلية، فإنني أدعو (حقيقة لا مزاحا!) إلى وضع عمود خاص بنا يؤرخ حياتنا العسكرية العربية وجميع الهزائم التي منيت بها الأمة من عام 1948وحتى هزيمة عام 2003 على نحو آخر ما دمنا نريد للتاريخ أن يكون شاهدا على جميع حياة العرب والعراقيين بشكل خاص مثل عمود طاجا أنف الذكر، طيب الأثر لدى الرومان والأوربيين؛ إذ أننا لا تكفينا ما وضعه ملوك أشور وبابل والفراعنة والفينيقيين على جدران قصورهم فزينوا لنا أعمالهم العسكرية بصور خرافية وبأرقام خيالية لا تتناسب وعدد السكان آنذاك على أمل أن يخدعوا من يقرأ ذلك بعدهم. ولكي لا يفوتنا شيء – نحن الولوعون بالتاريخ حتى النخاع! – مما حدث لنا ويحدث لاحقا في القرن العشرين والقرن الحالي، ومن اجل مزيد من (المعنويات التاريخية العالية!) لندعوه (عمود تيراقا: باللغة المندائية الآرامية القديمة)! وتعني المصيبة، فهي الجذر اللغوي للكلمة الشعبية العراقية (طرقاعا) المتداولة حاليا, ولأننا في الوقع ليس لدينا من أعمالنا العسكرية وانجازاتنا المعاركية الضخمة التي خيضت تحت مختلف الشعارات الطنانة غير (الطراقيع جمع تكسير لطرقاعا) تلو (الطراقيع) والهزائم تلو الهزائم والنكسات تلو النكسات والمصائب تلو المصائب والهوسات تلو الهوسات التي أورثنا إياها قادتنا العسكر نصرهم الله وأبقاهم ذخرا للأمة والمسلمين، وحتى آخر (طرقاعا) حقيقية كبيرة (معذربه: هذه الكلمة لها جذر في العربية أيضا) أورثنا إياها صدام حسين وما زلنا نخوض فيها دون أن نعرف طريقا للخلاص من آثارها أو التقليل من نتائجها. فمن الصعب أن نجد لعمودنا المزمع أقامته ثمة تسمية أخرى غير طرقاعا او تيراقا وحدهما تليق به وتحوله إلى معلم حضاري عربي يزوره الناس في بغداد بالذات ليتعرفوا إلى انجازاتنا العسكرية الخائبة وهزائمنا المنكرة في القرن الماضي والقرن الحالي والحبل على الجرار!
#رياض_الأسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى كراج النهضة
-
سبخة العرب
-
العشرة المبشرون..!
-
لماذا ننشر كتبنا هنا؟
-
انهض أيها القرمطي
-
فتاح باشا
-
حرب عالمية أقتصادية على الأبواب؟؟
-
تعالوا إلى الطفولة العراقية في غينس
-
العراق وتركيا : من الخاسر في النهاية؟
-
الستراتيجية الاميركية بعد سبتمبر 2007
-
بكالوريا
-
بندورا بغداد
-
جَردة الموت (آمرلية ) هذه المرة
-
نظرية الفوضى البناءة
-
اليانكي
-
الدب الروسي ورقصة العرضه
-
تبغدد.. إلى هيلاري: متى تحكمنا نساؤنا؟
-
الغاء الآخر.. نظرة في التاريخ القديم
-
تقريربيكر هاملتون:محاولة نظر ناقصة
-
الحرب على العراق مقدمة لحرب عالمية ثالثة؟
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|