|
حوار مع الشاعر العراقي حميد قاسم
هادي الحسيني
(Hadi - Alhussaini)
الحوار المتمدن-العدد: 2233 - 2008 / 3 / 27 - 10:26
المحور:
مقابلات و حوارات
قصيدتنا لا تشبه ما تم توارثه من "شعر"
القطيعة المعرفية فكرة خلاقة وفاعلة
يعتبر الشاعر العراقي حميد قاسم من شعراء العراق القلائل الذين أخلصوا للشعر ومبادئه بطريقة مكنته لان يحتل مكانة مرموقة في الوسط الثقافي العراقي منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن ، فهو الشاعر المثابر والانسان المتخم بالحنين الذي لا ينضب والذي دائماً ما يحبس آلامه ليحتج عبر قصائده الموجعة المكتظة بذلك الحنين وتلك اللوعة ، مدافعاً عن الفقراء والمظلومين والذين عادة ما يكونوا مواضيع قصائده التي تخترق حاجز الصمت البشري . لقد عشق الشاعر حميد قاسم مدينته بغداد وآثر البقاء فيها في أصعب وأشد الظروف الدراماتيكية والتقلبات السياسية والحروب وويلاتها التي عصفت بالبلاد ، فكان حين لا يستنشق هواء بغداد تنتابه الحيرة والقلق والحسرة ، ويشّرع على الفور بكتابة قصيدة ليزيح التراكمات والضغوطات النفسية التي تبعده عن مدينته . وقد أثبت حضوره الفعلي بخارطة الشعر العراقي في بدايات عقد السبعينيات وبدا بنشر قصائده في العديد من الصحف والمجلات الثقافية العراقية والعربية . وأستطاع أن يكتب نصاً مغايراً عن أقرانه وأنفرد بكتابة قصيدة الألم العراقية والتي اسس لها منذ سنوات مستخدماً اللغة المبسطة التي تشد القاريء لمواصلة قراءة القصيدة ، اللغة الخالية من التعقيدات المفتعلة التي يحذو لها العديد من الشعراء وسرعان ما يفشل مشروعهم ، وبطريقة فنية عالية أستطاع هذا الشاعر توليف الماضي بالحاضر في الكثير من القصائد والنصوص التي أصبحت علامة مميزة بتجربته الشعرية . وعلى مدى سنوات طويلة ، سنوات الحروب والحصار عاش حميد قاسم ومازال مخلصاً للشعر وللانسان فقط ، بعيداً عن الايدلوجيات والتخندق الحزبي الذي هرول له الكثير من الأدباء في السابق ، الأمر الذي مكنه ليحتل تلك المكانة المرموقة في نفوس الوسط الثقافي العراقي برمته . ولد حميد قاسم في العاصمة العراقية بغداد وتخرج من كلية الآداب بجامعة بغداد وبعد تخرجه وجد نفسه جندياً في جبهات القتال لكنه لم ينقطع عن عالم الشعر وظل مواضباً على القراءة والكتابة في أصعب الظروف حتى أنتهت الحرب وعاد لأكمال دراسته حاصلاً على درجة الماجستير في الأدب العربي الحديث والنقد من جامعة بغداد وبتقدير إمتياز ، وقد عمل محرراً في مجلة الف باء ، وأبدع غاية الابداع مع زميله القاص عبد الستار البيضاني بكتابة التحقيقات والريبورتاجات عن جميع المدن والاقضية والنواحي العراقية للتعريف بتلك المدن التي اوصدت الذاكرة ابوابها عنها منذ عقود ، فكان جهداً مميزاً بتاريخ الصحافة العراقية . أنتقل الى دبي عام 1997 حيث يعمل محرراً ثقافياً في جريدة الاتحاد الاماراتية . أصدر ثلاثة دواوين في الشعر ورواية واحدة وكتابين للأطفال ودراسة نقدية عن الشعر العراقي الحديث ، وفاز بعدد من الجوائز في الشعر والرواية والصحافة ، وعن الشعر والوطن والمنفى كان معه هذا الحوار .
*لو تحدثنا عن منعطف الشعر العربي ، وما جاء به الرواد بقصيدة التفعيلة والتي أسست لقصيدة عربية جديدة واكبت التطورات الشعرية في العالم ، ثم جاء الستينيون ليشقوا لهم طريقاً آخرا من هذا المنعطف ، ومازالوا في بلورة قصيدتهم والتي هي امتداد لقصيدة الرواد حتى جاء السبعينيون ليسيروا بطرق مختلفة تماماً تكاد تكون أكثر صعوبة من التجارب التي سبقتهم ، كيف ينظر حميد قاسم لتلك التجارب التي أسست لقصيدة عربية متطورة بكل المقاييس ، وما الذي يميز جيلكم السبعيني عن الاجيال التي سبقتكم ؟ - أولاً يا صديقي، أنا لي اعتراض مثبت على فكرة التجييل وفق "العقد العشري" وأرى "أن جيل ما بعد الستينيات" هو المصطلح الأكثر قرباً إلى الصواب، ولا خلاف على ان الشعر العربي شهد تطوراً مهماً يتمثل في ما اتفق الدارسون على تسميته بـ"ثورة الشعر الحر" والتي يتفق كثير منهم على أنها ثورة رسخها الشعراء العراقيون، وقد مثلت هذه التجربة نقلة نوعية في المضامين الجديدة صاحبتها خطوة تمثلت بإغناء التكنيك الشعري بعناصر جمالية لم تكن شائعة، حيث لم تعد الثورة خروجاً على قوانين العروض والقافية المتمثلة بوحدة البيت الشعري. وهذه العناصر الجمالية تتجسد بالإفادة الجادة من معطيات الفنون الأخرى، كالقصة والمسرح والفنون التشكيلية، وتوضيف عنصر الحوار والحوار الداخلي وتعدد الأصوات وتقديم الصورة العامة للأجواء التي يدور فيها الموضوع الشعري... إلخ، وهذا كله غدا خلال السنوات التي امتدت منذ نهاية الأربعينيات وحتى نهاية السبعينيات إرثاً خصباً استطاع أن يفرض حضوره في الحياة الأدبية، وأن يكون ملمحاً مهماً من أبرز ملامحها إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، وهنا أقول أن المسافة الزمنية التي تفصل بين رسوخ هذه الحركة او رواجها، وسنوات السبعينيات، مسافة قصيرة، وأغلب رموز الجيل الذي سمي "جيل الرواد" ما زالوا في أوج عطائهم وهم من أخذ الشكل الجديد سماته الحقيقية على أيديهم، فمن الرواد هناك نازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري والبريكان وكاظم جواد ورشيد ياسين وعبدالرزاق عبدالواحد وغيرهم، ممن كانوا يواصلون نشاطهم في كتابة الشعر والتنظير لتجربته الجديدة، وتقترب منهم كثيراً مجموعة من الشعراء أطلق عليهم "الخمسينيون" مثل رشدي العامل ويوسف الصائغ وسعدي يوسف ومحمد سعيد الصكار وغيرهم، وصاحب ذلك أن السبعينيات ورثت عن العقد السابق رصيداً من شعراء شباب أخذ تطورهم يؤتي أكله في نماذج متميزة، فكانت نماذج حسب الشيخ جعفر وفوزي كريم وفاضل العزاوي وسركون بولص وسامي مهدي نبيل ياسين وجليل حيدر وحميد سعيد وسواهم، ولقد كان على شعراء جيلنا –تحديداً الموجة الأولى منه المعروفة بالسبعينيين- ان يجدوا لهم مكاناً مناسباً في عملية التغيير وتطوير الشعر الجديد، وقد هيأت سنوات السبعينيات وما تلاها ظرفاً ملائماً لهذا الطموح، ومع أن السنوات الأولى لظهورهم كانت تفصح عن قربهم من تجارب سابقيهم ان لم تكن إمتداداً لها، إلا أنهم في ما بعد شرعوا في مغامرة القطيعة إلى أقصاها. ربما كان هذا ما يميز جيلنا.. طموحه وشروعه في المغامرة بلا حدود إلى الدرجة التي أرى فيها أننا لم نعد نكتب الان "الشعر" بمفهومه الإصطلاحي في التأسيس النقدي العربي، ولكي لا يغتنم البعض الفرصة، أقول: لم يعد مفهوم "الشعر" الذي وجدناه يومها مناسباً لما يكتبه جيلنا من "شعر حر"... قصيدتنا لا تشبه ما تم توارثه من "شعر" طيلة قرون عديدة، وما أنجزه الرواد –على أهميته- لأنه أيضاً لم يكسر إلا قشرة الأرض في ما ظلت جذوره مرتبطة بصورة أو أخرى بتربته السبخة نفسها. *يقول أدونيس في الحداثة : هي أن ينتهك الشاعر القواعد السائدة في القول والاشكال التعبيرية ويحاول أن يأتي باشكال جديدة ، وكلما أصبحت هذه الاشكال سائدة ومعروفة سعى الى تجاوزها باشكال جديدة . كيف تنظر الى هذا المفهوم الادونيسي للحداثة ؟ وماذا يتوجب على الشاعر العراقي خاصة والعربي بشكل عام لتطوير نصه باتجاه حداثوي يتواكب مع تطورات العصر من جهة ، ويكون مقبولاً بالنسبة للمتلقي من الجهة الثانية ؟
- لا أعرف، –حقاً- ما الذي يتوجب علينا فعله لتطوير نصنا بهذا الاتجاه، سوى أن نؤسس قطيعة مستمرة لاتتوقف إلا لتأسيس قطيعة أخرى مغايرة، القطيعة المعرفية فكرة خلاقة وفاعلة، ربما لا يكون شئٌ كهذا مقبولاً بالنسبة للمتلقي كثيراً، في ظل انصرافه عن الشعر وعن النشاط المعرفي عموماً، لا أقول أني لست مشغولاً بالمتلقي فهذه فرية كبرى، وإلا لم ننشر نصوصنا على الناس وننتهك قداستها؟ لكني أقول ان الخضوع لمقاييس المتلقي وقبولاته عملية مميتة للشعر، مع هذا كله فثمة متلقي لا ينبغي الاستهانة بوعيه وثقافته وذائقته، علينا ألا نولول في الحديث عن أزمة الشعر، لأن الغرض النفعي فيه –أعني الشعر- غير موجود كما يفترض، كما ان شاعراً من هذا النمط لا يعول على أي شئ في انشغاله العالي والعميق هذا، إنه يكتب نصه باتجاه أفق مفتوح، هذه مهمته الأولى، بعدها لا أحد يعلم ما الذي سيحدث. *في مجموعتك الشعرية ( رقيم أيمين ) والتي صدرت في بغداد بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي ، كنت أنا أحد الحاضرين بالاحتفاء بها ، وقد تحدث عن المجموعة الشاعر الراحل كزار حنتوش بطريقة أكثر من رائعة ، وكانت بحق مجموعة تستحق الثناء ، إلا أنها لم تأخذ حقها النقدي ، ترى هل ثمة خلل في العملية النقدية العراقية ؟ أم أن النقد بشكل عام ابتعد منذ فترة عن ممارسة تشريح النصوص الشعرية الجيدة والمهمة ليبين أماكن القوة فيها وأماكن الخلل ، من المقصر في رأيك ؟ خاصة وأن العشرات من المجاميع الشعرية الجديدة لم يتقرب لها النقد ومازال إلا ما ندر ؟
- هذه قضية شائكة أخرى، ربما يعاني منها كثيرون وانا أحدهم، غير أنها لا تشغلني كثيراً، فأنا أعرف منذ البداية أن كتابة الشعر وتكريس حياة كاملة لها ينبغي ألا تفسد بعرض زائل عابر، وتعلم ان "الاحتفاء النقدي" عندنا محكوم بنسق معقد من العلاقات العامة وتبادل المنفعة والإخوانيات... إلخ، وهذه ليست مهمة الشاعر التي تشغله عن مهمته الأولى في الاشتغال على نصه وتطويره وتوسيع أفقه ورؤاه.. قد يحزنني –لبعض الوقت- أن أجد تجاهلاً مقصوداً لمنجزي الشعري –إن كان ثمة منجز- لكن هذا لا يشغلني كثيراً، لأني أحسب اني أكرس وقتي لمهمة أهم وأكثر سمواً ورفعة.. أحياناً يكتب البعض من أبناء جيلي حتى مقالات عن تجربة الجيل فلا يذكرون بعض الأسماء ولو لغرض توثيقي أو إحصائي من باب الأمانة، بعض النقاد يعترف لك أحيانا انه لم يقرأ لك..! عليك هنا ان تدور بمجموعتك الشعرية هنا وهناك وان تراسل النقاد وأن تكتب عن هذا وذاك.. ثم ماذا؟ أهذه هي المهمة التي كرسنا أحلى أوقات عمرنا لها؟ لا يعنيني ناقد كسول لم يقرأ شيئاً منذ سنوات، ولا يعنيني كثيراً أن يكتب عني هذا او ذاك، وهذه حقيقة يعرفها المقربون مني، مهمتي أن أكتب نصي وأمضي. *تهتم كثيراً في نصوصك أن تظهر الجانب التاريخي والانساني والفلكلوري في بعض الاحيان الذي يعّرف بالعراق بتاريخه القديم والمعاصر ، فعلى سبيل المثال قصيدتك ( يا ماخذات الولف ) وهي عنوان لاغنية ريفية عراقية مشهورة ، وقد نالت هذه القصيدة شهرة واسعة في العراق ، كيف جاءتك فكرة هذه القصيدة ؟ وماذا أردت أن تقول من خلالها في ظل ظروف غاية في الصعوبة لما كان يمّر به العراق من حروب ومآس وحصار ؟
- اعذرني ياهادي فانا لست مولعاً بالحديث عن القصيدة وتفسيرها أو توثيق دوافعها أو الكشف عن أسرارها لأن ذلك يفسد متعتها ويثبط طاقتها التاويلية كثيراً، مع هذا –أعرف اني سأفسد الأمر- اقول لك أن فكرة القصيدة برقت في إحدى زياراتي إلى عمّان، وكنا يومها في مقهى السلطان، أنا وخزعل الماجدي وحسب الشيخ جعفر ومحمد تركي النصار وحشد من الأدباء والمثقفين، التفتُ فجأة لأجد المطربة "حمدية صالح" تجلس في المقهى نفسه على أحدى الأرائك، تساءلت عندها عن سبب ان تكون مطربة ذات حظوة لدى "الويلاد" معنا تحت السقف ذاته، فرد محمد تركي النصار بسخرية: إنها تجلس معنا تحت السقف نفسه للسبب ذاته.. تخيل أن التفاهة الكبرى التي كانت –وتتكرر اليوم بفداحة أكبر- دفعت مطربة من نمط حمدية صالح مع إجلالي لغنائها ولبحة الشجن في صوتها، إلى أن تمنح ظهرها للبلاد التي لطالما تمرغت بنعمها بعد أن بلغت الروح الحلقوم، من هنا بدات لعبة القصيدة التي جعلتها بصوتها الأبح إنشودة رثاء مبكرة للبلاد، ولا أقول نبوءة لما حل بها لاحقاً. لقد اردت ان أقول بهذه القصيدة أن الدكتاتورية لا تبقي و لا تذر وأنها قد تلتهم في هيجانها وبدائيتها الوحشية وغبائها حتى ما أسهمت في بنائه عرضاً، وأن لا عزاء لنا جميعاً. * جيل السبعينيات الشعري داخل العراق تعرض الى الملاحقات السياسية من قبل السلطة آنذاك، وأنت من الذين كانت السلطة تراقبهم وتطاردهم، والعديد من أبناء جيلك آثروا الهجرة خارج العراق، خاصة بعد نشوب الحرب العراقية الايرانية، إلا أنك لم تفكر بالهجرة عن الوطن إلا في وقت متأخر، كيف كانت الظروف تسير معك خاصة وانت جندي في الحرب ؟
- لا أعتقد ان عراقياً –باستثناء الحلقة الضيقة جداً من أهل النظام- لم يتعرض للمضايقات والعسف والرعب.. قد يكون الإدعاء بتعرضي للمطاردة منطوياً على المبالغة فالجميع كان مشروعاً للشك والريبة والقتل، من هنا كان الجميع مراقبين، في ظل دولة المخابرات والأمن والأمن الخاص.. إلخ، كلنا يتذكر مباهاة برزان التكريتي بأن كل بيت فيه عنصر مخابرات..! طبعا هنالك مبالغة مقصودة صدّرت كرسالة للعراقيين، المهم يا صديقي أنني كنت لا أتقبل فكرة مغادرة العراق، بل كنت أناكد البعض بالقول الذي يجري مجرى المزاح: ولمن نترك العراق؟ لكم؟ قرار مثل هذا كان صعباً بل يثير حنق البعض ولومهم، لكنني ما كنت أتخيل نفسي قادراً على مغادرة بغداد واعني مغادرة حياتي وذكرياتي وأصدقائي، وللآن، بعد مرور أكثر من أحد عشر عاماً على مغادرة العراق، ما زلت أسأل نفسي: كيف تحتملين هذا؟ غير ان تلك الظروف تغيرت تماماً في منتصف التسعينيات حين لم يبق من أصدقائي سوى القليل القليل وبدأ الخناق يضيق بنا جميعاً، كان لابد من حل فردي بعد ان توارى الحل الجماعي المنشود مع تواري حلمنا الثوري القديم، وخيبتنا الكبرى في "الجبهة الوطنية" وما تلاها من كوارث وأخطاء دفعت "القاعدة الجماهيرية" ثمنها الفادح، لقد توارى "الرفاق" نهاية السبعينيات بعد أن خذلتهم قيادتهم، وتحمل جيلنا أعباء حربي الخليج الأولى والثانية، ووجد من بقي على قيد الحياة نفسه ضائعاً منكسراً على هامش الحياة، غير ان جلد العراقي وصبره الخرافي شئ غير قابل للتفسير حقاً حتى هذه اللحظة،.. منذ ذلك الوقت وجدت نفسي وحيداً، لولا بعض الصداقات العظيمة، ولولا الانشغال في الكتابة والحياة وموائد اتحاد الأدباء وجلسات السخرية الكبرى التي كنا نحوكها حولها كل مساء، ولولا الشعر العظيم الذي أنجانا من الموت كآبة ووحشة وكمداً.. وفي التسعينيات بدأ مسلسل الهروب الكبير بجزئه الثاني، حاولت المكابرة، وكان لي أن صمدت حتى نيسان أبريل 1997.. بعدها لم يعد بمقدوري ان أغمض عيني عن هزال أولادي وتردي حياتهم، فكان ان تغلبت عن التصاقي المريض بفكرة الوطن والأرض، وأعددت حقيبتي القديمة التي ركنتها سنوات عديدة، وذهبت. *كيف تقيمون اشكالية المثقف العراقي خاصة بعد سقوط النظام عام 2003 وأحتلال العراق ، الامر الذي أنتج خلافاً وصلت ذروته حد الاتهامات المتبادلة ما بين المثقفين العراقيين بطريقة اكثر من مخجلة ، الى أي جهة تعزون ذلك ؟ وما هو الحل في رأيك ؟
- لست ميالاً إلى المزايدات التي يتقنها البعض ويعتاش عليها، نعم المثقف العراقي مارس سلبية كبرى بعد الاحتلال، لكننا نتغاضى عن التهميش والإقصاء والإهمال والإزدراء الذي كان يلقاه المثقف العراقي –وأعني المثقف العضوي- وهو ما سبب خلق هذه السلبية وانكفاء المثقف العراقي، لست معنياً بشعراء الكدية وقصاصيها وشعرائها الشعبيين، بل أنا معتي بهذه الذوات العليا التي همشها الطغيان وكسرها من الداخل.. لا أعرف مبرر هذه الاتهامات ومن هم مطلقوها.. أسمع كثيراً عن كتاب الاحتلال وكتاب المقاومة وكتاب الإرهاب وغير ذلك من مصطلحات مجانية مزايدة، لا يحق لي أن ازايد على وطنية احد، لكن مصدر رعبي ان كثيراً من مطلقي هذه المصطلحات ليسوا "مصدر ثقة" وفق التعريف الشعبي العراقي، والغريب أن كثيراً منا ينال اكثر من لقب يناقض الآخر بحسب المزاج وربما بحسب الانتماء الطائفي او المناطقي، فأنت قد يسميك البعض كاتبا من كتاب الاحتلال فيما يسميك الاخر من الصداميين أو أيتام البعث.. إلخ، وهذا ليس جديداً، فالمثقف العراقي قبل الاحتلال كان حين ينتقد مشروع الحرب والاحتلال الاميركي قبل ان يحدث يدعى مثقفاً صداميا تابعاً للسلطة وهو نفسه كان يدعى من قبل السلطة بعميل الاستعمار او عدو الوطن أو الخائن أو المرتد، لأنه ينتقد النظام أو يعارضه، يحدث هذا لأننا لا نفكر بالمواطن العراقي أو العراق الذي يختصره البعض بالطاغية، فمن يعادي الطاغية يعادي الوطن لانه "إذا قال صدام قال العراق"... هؤلاء المزايدون الآن لا يحترمون العراق ولا يحترمون إنسانية العراقي وحقه في الحياة الكريمة، بعضهم كان يريده بوقاً للطاغية الذي مضى والاخر يريده بوقاً لطاغيته الصغير الذي حل مكانه، فأما صدام وأما خلفاؤه، وأما ان تكون مع صدام وجرائمه وإلا فانت عميل للاحتلال، لهذا تجد اسماءنا في القوائم السوداء التي يصدرها هؤلاء وهؤلاء ولا تعرف إلى أي "جانبيك تميل"..؟! بعد هذا وذاك لست معنياً أن يرضى عني هؤلاء او هؤلاء على حساب العراقيين الذين تهدر دماؤهم ويعاملون في وسائل الإعلام بوصفهم جثثاً تتكاثر لا كائنات أو حيوات تزهق ومصائر تنفى إلى العدم ومشاعر وعواطف وأرامل وأيتام بلا عدد، وهم عراقيون شطبوا ببساطة على أبسط حقوقهم في الحياة. أقول هنا بصراحة: من يفسر لي هذا التجاهل للاحتلال وصب حمم الموت على رؤوس عراقيين لا ذنب لهم وقتلهم على الهوية أو الاسم أو مسقط الرأس أو اسم القبيلة فحسب؟. أين هم المقاومون الشرفاء؟ أليس من كان يقتل عراقيين من أبناء جلدته ببنادق دول الجوار ودولاراتهم هو من صار يأتمر باوامر رقباء الجيش الاميركي المحتل ويتمول من خزائنه ومقاولاته ويأنف في الوقت نفسه من فكرة ان يقبل عراقياً مثله كشريك له الحقوق نفسها وعليه الواجبات نفسها؟ خذ التفجيرات الأخيرة من سوق الغزل إلى شارع العطار وانظر من هم ضحاياها.. أهم الأمريكان ام هم عراقيون مثلي ومثلك أيها القاتل وأيها الكاتب المقاوم الذي يحرض على القتل؟ *ثمة العديد من شعراء العراق الكبار فارقوا الحياة بطرق ماساوية وهم يقيمون في الغربة منذ أمد بعيد بدءًً من الجواهري ومروراً بالبياتي وأخرهم كان الشاعر سركون بولص ، كيف تفسرون ظاهرة رحيل شعراء العراق بالغربة من دون ألتفاتة وزارة الثقافة العراقية الى هؤلاء الشعراء الذين دائماً يصنعون أمجاد الامة ووجها الحقيقي ؟
- وزارة الثقافة جزء من حكومة المحاصصة وانتخابات الاستقطاب الطائفي، لا اعول عليها ما دام الوضع السياسي بهذه الهشاشة وهذه التفاهة وهذا الاختراق الكوميدي السوداوي.. ماذا أفسر وكيف لي ان أفسر عزلة عبدالرحمن طهمازي وتهميشه وفقره في الوطن ومثله العشرات داخل الوطن وخارجه، فيما يتولى وزارة الثقافة "العراقية" مؤذن في جامع أو ضابط مطرود من الشرطة، لن أقول ان ثقافتنا أنجبت السياب والبياتي والجواهري ومحمد مبارك ومدني صالح وفؤاد التكرلي ورعد عبدالقادر وكمال سبتي، لكنني أقول أنها أنجبت هؤلاء الذين يموتون بيننا وإن كانوا على قيد الحياة.. عباقرة من طراز مالك المطلبي وقاسم محمد وسهيل سامي نادر ومظفر النواب وحسام الآلوسي وزاهر الجيزاني ومحمد مهرالدين وعيسى حسن الياسري ومحمد غني حكمت وخزعل الماجدي وعبدالواحد محمد وحاتم الصكر.. أنظر بم كافأهم العراق ومحاصصته الديمقراطية التي يقودها الظلاميون وقل لي كيف أفسر هذا؟
*تربطك علاقة حميمية مع الشاعر الراحل جان دمو وذكريات جميلة أخترقت المشهد الثقافي العراقي ودونت فيه ، وانت ممن أنجز معاملة سفره الى عمّان بداية عام 1994 ، لقد رحل جان في استراليا غريباً بعيداً ، كيف استقبلت نبأ رحيله الذي كان متوقعاً على ما يبدو بسبب أفراطه بشرب الخمرة وعدم التغذية بشكل صحيح ؟ وما الذي تركه لنا جان في رأيك ؟
- جان دمو وشعره تحديداً-في تقديري كان ضحية حياته الشعرية بامتياز.. لا تستغرب هذا فالحياة الشعرية تستهلك طاقة الشعر في الكتابة وهذا ما حصل لجان.. ترك جان حياة غريبة على بؤسها لكنها حافلة بالكثير من المفارقات الشعرية وبالكثير من مفارقات نمط الحياة المتمرد المشاكس الذي كان منجما للبعض في توليد نصوصه وفي تأسيس نمط مشاكس عنيد متمرد وعنيف في الحياة والكتابة، غير أن انشغال جان "الأسمى" اليومي لم يمنحه الوقت لتأمل كتابة الشعر أو الوقوف عند فكرة الكتابة التي عاش على حافتها راضياً. *بعد أكثر من عقد من الزمان وانت تقيم في دولة الامارات العربية وتعمل في صحافتها ، وقد فزت بجائزة الصحافة قبل اعوام مضت ، لجهدك المميز كصحفي ، كما وقد فزت بجوائز شعرية كثيرة ، هل ترى أن الصحافة تبعدك نوعاً ما عن الشعر ، كما فعلت بشعراء كبار من قبل ؟ أم العكس هو الصحيح ؟
- قد تبعدني لكنها في الوقت نفسه تبقيني قريبا من الكتابة واجوائها.. انا أشكو فقط ضيق الوقت وما تأخذه ساعات العمل مني ومن طاقة الكتابة.. لكنني استثمر عملي الصحفي في التقاط الأشياء وإدخالها في مشغلي الجواني.. العمل جزء من الحياة ولا بد من مهنة او عمل يمنحك معنى ما.. كيف تستثمر كل شئ ليكون مثمرا وذا جدوى في حياتك هذا هو السؤال. أنا على استعداد لتحويل كل ما يحدث لي إلى طاقة شعرية وإن كانت احيانا كامنة، لكن لا بد من مجئ وقت ما تستثمر فيه هذه المرئيات المختزنة. *ثمة سؤال تقليدي أخير ، ما هو جديد حميد قاسم خلال السنوات القليلة التي مضت ؟
- في هذه السنوات أنجزت كتابي "سفر النار" وهو دراسة نقدية في ظواهر الشعر العراقي الفنية وقد صدر العام 2000 في الشارقة،ثم نشرت مجموعتين شعريتين هما: " ليس ثمة هواء"- الشارقة 2003 و"وهذا صحيح أيضا"- بيروت 2007.. كتبت مسرحية واعمل على رواية أكملت الجزء المهم منها، وأعمل على إكمال مجموعتي الجديدة "كآبة بغداد" واصدارها في وقت قريب. حاوره : هادي الحسيني / أوسلو
#هادي_الحسيني (هاشتاغ)
Hadi_-_Alhussaini#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيزياء مسعود البرزاني
-
حوار مع الشاعر العراقي شاكر لعيبي
-
حرامية العراق
-
الزعيم
-
موازنة 2008
-
الرآية المعضلة
-
كيمياء جلال الطلباني
-
عام أسوء من عام !
-
تحالفات مشبوهة
-
قلب عبد الستار ناصر
-
السياب في ذكراه ال 43
-
ثعالب النار
-
رياض ابراهيم وانتفاضة عصفور طيب
-
وداعاً راسم الجميلي
-
سركون بولص ، ايها الشاعر الفذ
-
حوار مع الشاعر العراقي سركون بولص
-
قضية رأي عام
-
تركيا ، الطريق سالكة !
-
الشيخ حارث الضاري !
-
تنقيرات / 1 عمار الحكيم ، إخرس !
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|