يوسف محسن
الحوار المتمدن-العدد: 2228 - 2008 / 3 / 22 - 11:29
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يشكل كتاب (دراسات في التاريخ) لـ أ.ج. هوبزبوم محفزاً معرفياً لاعادة قراءة حقل التاريخيات العربية الكلاسيكية والحديثة والسعي الى تأسيس منظومة تاريخية نقدية بالارتباط مع الأرث التنويري العالمي (حيث ان الوثائق التاريخية والمعلومات والاليات لا معنى لها خارج تصور نظري دقيق للتاريخ. اي خارج تحديد دقيق لمضمون نظرية التاريخ التي هي اساس كل تحليل مشخص) وهنا في هذا المجال تلعب مراكز الابحاث والدراسات واسهامات المفكرين والمثقفين العراقيين دوراً هاماً في التأسيس حيث يتم تحليل الظواهر التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية وعرضها للتفحص النقدي للكشف عن جذورها المعرفية والطبقية والمرجعيات الفكرية وانماط الانتاج الاجتماعي التي تكمن خلفها وهي في المرحلة النهائية انتاج معرفة بالتاريخ حيث انها تحل جزءاً من المسألة العراقية لتفسير قوانين التحولات الراديكالية داخل بنيات المجتمع العراقي ونشوء الطبقات الاجتماعية وانحلالها وتدهورها وظهور الدولة التيوليتارية وانهيارها وبروز الظاهرة الكولونيالية الجديدة في الطور الاول من الرأسمالية المعولمة والتي صاحبت هذه الظاهرة تمركز الشفرات الثقافية والطائفية والهويات الفرعية وانفكاك الزواج القسري للجماعات العراقية القومية والاثنية وظهور الطائفية السياسي والتي تلعب مع بنى القرابة المحرك الاولي للتاريخ.
(1)
يحدد كانغليم (ان تاريخ مفهوم ما لا ينحصر في ارهافه التدريجي وتقدمه في اتجاه الدقة والضبط وسعيه المتزايد نحو المعقولية وارتقاءه نحو التجريد بل هو تاريخ مختلفة حقول تكوينه واصلاحيته وتاريخ استخداماته المتتالية وميادينه النظرية المتعددة التي تواصل منها بناءه واكتمل) حيث ان مفهوم (التاريخ) يتأرجح بين عدد كبير من التصورات والمعايير فـ (شتراوس) يتحدث عن التاريخ الذي يصنعه الناس دون معرفة به وعن تاريخ التأويل الذي يقدمه المؤرخ اما ادولفو باسكيز فيتحدث عن التاريخ الواقعي الذي يصنعه الناس عن معرفة به او عن غير معرفة به والتاريخ الذي يضعه الفلاسفة والمؤرخون عن وعي به كنظرية او تفسير لتعاقب الزمن في البنى الاجتماعية وليس من الممكن اجراء مناقشات جادة حول مفهوم التاريخ لا تعود الى ابن خلدون او ماركس حيث يعرف ابن خلدون التاريخ بوصفه (خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو العمران (عمران العالم)) وما يعرض وطبيعته ذلك العمران من الاحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات واصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشئ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر باعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الاحوال، حيث ان داخل هذا القول الخلدوني رفضاً ان يكون التاريخ هو الاحداث السياسي والوقائع السطحية المتسلسلة خطياً للسلالات الحاكمة او المعارك وانما البنى الاقتصادية والديمغرافية وتاريخ السلطة الرمزية والمتخيل الجمعي والتي تقبع في تاريخية التكوين للجماعات البشرية هي التي تحقق علمية التاريخ وحقيقته وهنا تبدو عبارة ماركس (نحن لا نعرف الا علماً واحداً هو علم التاريخ) على جانب كبير من الوضوح والتعيين حيث تأكد ان التاريخ هو علماً اساسي لانه علم الكائن البشري (فالماركسية تمثل خير مقاربة للتاريخ لانها تدرك بوضوح اكبر من المقاربات الاخرى ما يمكن ان يفعله البشر بوصفهم ذوات التاريخ وصانعيه فضلاً عن ادراكها لما لا يمكن ان يفعلوه بوصفهم ذوات التاريخ ولان ماركس مخترع سيوسيولوجيا المعرفة عملياً صاغ ايضاً نظرية حول كيف يمكن لافكار المؤرخين لانفسهم ان تتأثر بوجودهم الاجتماعي) هوبزبوم فالتاريخ كحقيقة لا يجوز ان يقلص الى مجرد تعاقب للوحدات العرضية الصرفة لان الاحداث لها ضروراتها والتي تعبر عن العلاقات الموضوعية فان تاريخ مجتمع هو تاريخ البنى والفاعلين السياسيين اما السرديات التاريخية فهي تمثل صوراً تجريدية للواقع الفعلي.
(2)
حققت الموسوعات التاريخية اكتمالها الكلي (اليعقوبي، ابن قتيبة المقدسي، ابن الاثير، الطبري.... مع بلوغ ايديولوجية النظام الاقطاعي المركزي ذروتها في الحق الالهي للسلطة الارضية وتوصيف التاريخ كونه تحقيقاً للمشيئة الالهية حيث ان هذه الموسوعات التاريخية لم تقدم ادراكاً موضوعياًَ للواقعة التاريخية بل تشخيصاً اسطورياً لكونها جزء من البنيات الذهنية السلطوية فتقوم بطمس الابعاد الانطولوجية للحدث التاريخي لصالح ايديولوجية الدولة التي يفرزها الحقل الثقافي الديني فيتم تغييب الاطراف التاريخي للعلاقات الفعلية فالحرب الاهلية تتحول الى فتنة والانشقاقات الدينية والسياسية وآليات العنف والهيمنة - الردة والمجتمعات الشفاهية الما قبل اسلامية - مجتمعات جاهلية حيث يتم حذف التاريخ الوقائعي تحت وطأة الاغراءات الايديولوجية السياسي.
(3)
نتيجة لخروج العالم العربي والاسلامي من التاريخ العالمي وغيابهما الكامل عن اشتراطات المتغيرات التاريخية فقد تم اعادة انتاج ظاهرة النزعة القومية والظاهرة الاصولية الدينية وتغذية المصاب الجماعي المناهض للغرب هورد فعل ضد انسداد الحداثة الفكرية والسياسية والاقتصادية وافلاس مشروع الدولة الوطنية العربية حيث ان هاتين الظاهرتين تمثلان نسقاً من الانبعاثات المستمرة للطبقات والفئات الوسطى والتي شكلت القاعدة المادية والايديولوجية للدولة الشعبوية العربية في فترة الستينيات من القرن الماضي بالاضافة الى الازمنة التاريخية للفكر الاسلامي نتيجة للتأكد المعرفي وعدم ايجاد اجابات عقلانية لنظام الواقع والتهديد المستمر الذي تتعرض له طبيعة الهوية القومية (شكل التاريخ المادة الخام للايديولوجية القومية والاصولية فالماضي يمثل العنصر الاساسي لهذه الايديولوجيات فاذا لم يكن هناك ماض فان بالامكان دائماً اختراع) حسب (هوبزبوم) حيث مثل التاريخ هنا الشفرة الوراثية للجماعات القومية والجماعات الاصولية لاعادة التلاحم الايديولوجي وتنظيم علاقات الاختلاف وهنا يتحول المؤرخون الى فاعلين سياسيين لكي يعطوا للعالم الواقعي لهذه المجتمعات والتي تعاني التمزق والفوضى معنى فيتم اعادة تشكيل بنيات اسطورية واستيهامات ضخمة ومفاهيم وعلوم بدائية او استخدام التاريخ كوسيلة ايديولوجية يقوم على المغالطة وطمس الحقائق كما يؤدي الى انتفاء المجال العلمي لهذا النسق المعرفي حيث يجري ولحد الان في العالم العربي كتابة التاريخ بلغة ميثولوجية مندمجة بالطقوس السياسية الفوقية والطائفية وفي هذا المكان يطرح هوبزبوم مقاومة تكوين اساطير داخل علم التاريخ وهي في طور التكوين وهو علم مضاد للعلم التاريخي التقليدي.
(4)
ان اقامة منهجية اجرائية لوقائع التاريخ اي انشاء الاسس المفاهيمية والمقولاتية لتجاوز القراءات ذات الطابع السردي التأملي للمحفوظات التاريخية (لان علم التاريخ في نهاية التحليل هو استخراج القوانين العامة التي تتحكم بهذه الحركة المادية والتي هي حركة الزمان في حركة البنية الاجتماعية) حيث ان هذه المنظومة المنهاجية النقدية هي الكفيلة على تفسير وفهم التغييرات البنيوية للطبقات والتركيبات التي شيدت عليها البنيات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتي تشكل اساس التاريخ منذ ظهور الامبراطوريات والدول بالارتباط مع ديناميكية التبادلات التجارية ومضحى التغيرات السكانية والهجرات وانهيار المدن وظهور المنظمات الدينية وانتشارها واستمرارها وتاريخية الانشقاقات الدينية والملل والنخل وانتاج الشهوات والمتخيلات الجماعية وايجاد ترابطات بين انتاج الثروات المادية والثروات الرمزية. ان هذه القراءة لا يمكن ان يحتويها التاريخ الخطي التعاقبي فهي تعمل داخل حقل التاريخية الكلي وضمن عناصر التناص والترابطات اخذين بنظر الاعتبار التداخلات المعقدة بين المجالين السياسي والاقتصادي في المجتمعات الما قبل الرأسمالية.
ان البحث عن تأسيسات اولية لتاريخية النقدية العقلانية حسب توصيفات باسيكتر تستتبع:
1- استبعاد كل فاعل تاريخي مفارق او فوق انساني.
2- الاعتراف بان الناس هم صانعوا التاريخ.
3- تحرير العقلانية من كل تبعية للاهوت سواء اكان مفارق للانسان او محايثاً له.
#يوسف_محسن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟