|
جذور الكتابة الرافدينية في رسوم الفخاريات
زهير صاحب
الحوار المتمدن-العدد: 2228 - 2008 / 3 / 22 - 07:22
المحور:
الادب والفن
1. مقدمة في رمزية الخطاب الرافديني : في حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد ، وعلى أرض الرافدين الطيبة المعطاء . جَلَسَ أول تلميذ على دكة من اللبن لتلقي المعرفة ، ووقف أول معلم في تاريخ المعرفة ، ليلقي محاضرة في فلسفة الوجود . إنه إبلاغ رمزي ، يؤطر ما هو زائل ، بإطار الأبدي الخالد ، كمظهر للعقل والتفكير . نوعاً من إعادة صياغة الطبيعة في جوهرها وماهيتها ، بتحليل عناصر الصورة المرئية ، بغية تفعيل قوة التعبير الكامن في الذات المتفلسفة وإسقاط الذات على الطبيعة والإنسان . فكان الفكر رمزياً كونه يُعيد بنائيتهِ بالأشكال ، وتركيبياً لأنه يشيد هذه الأشكال بوساطة العلامات، وبشكل بناء رياضي يعرض ذاتهِ كأنظمة أشكال معرفية ، حدسية متحررة من محدودية القيود الحسية . إن الفكر الرافديني ، الإبداعي ، وهو يؤسس أنظمته الأولى في تاريخ الإنسانية، كان يستلم خطاب البيئة بفعل المحسوسات ، وهي بمثابة ضغوط سيكولوجية وحوافز ومنبهات ، ويؤولها إلى منظومة دلالية في بنائيتهِ ، وهي بمثابة تقابلات صورية ، مكثفة بأشكال رمزية أو دلالات علامية . وهذهِ الآليات الفكرية المستندة إلى التجريب، ساهمت بفاعلية في تكامل الخبرة الفكرية ، وبدأت تعمل كمحركات مهيمنة في بنائية الفكر الحضاري في سياقاتهِ العامة . واجهت بنائية الفكر الرافديني ، العالم الكوني . وهو منفصل إلى عالمين . عالم الصورة الأرضية الفانية ، وعالم المثل العليا المفعم بالقوى الفاعلة المتحكمة بالظواهر. الأمر الذي أكسب السايكولوجيا الرافدينية ، نوعاً من القلق الميتافيزيقي . الذي أكسب صورة المغيب اللامرئي ، حضوراً فاعلاً في بنائية الفكر ، على حساب تدني الحضور البشري . وقد تمكن بهذا من تصنيف الظواهر وإدراك ما بينها من علاقات ، فجعل لكل قوة رمزاً ، وعلى هذا النحو تحولت الظواهر إلى رموز ومفاهيم هي بمثابة تكثيف للأفكار بخطاب التشكيل . وهذا هو التفسير العقلاني ، باتجاه خلق موازنة بين الأحساس الداخلي (الذات المنفعلة) وعالم التجربة الخارجي (قراءة الموجودات) حيث تكون مهمة التشكيل إدراك هذه الموازنة . ذلك إن صلة التشابه المادية المنظورة ، قد تمت الاستعاضة عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلة الرمز . حيث ترتفع المدلولات فوق الظاهرة الطبيعية المنفردة ، وبنوع من التضايف بين المادي والروحي وبين الطبيعي والرمزي . إن سمة مثل هذه الأشكال الرمزية ، تكمن في وجود عدم توافق بين المدلول ونمط التمثيل . بحيث لا يكون القصد أن تمثل هذهِ الأشكال ذاتها بما فيها من خصوصية فردية . ولا أن تعرض للوعي مباشرةً ، الميتافيزقي المتضمن فيها بل تكون إشارة إلى السماوي وتلميحاً إليهِ . باعتبارها نسق علامي ، يرتبط بالفكرة وبكيفية تمثيلها ، وبنوعية الخطاب المفعم بالتجريد والترميز . طالما إن الرمز ، ليس مستقلاً قائماً بذاتهِ ، وإنما دلالة أي رمز هي في صميمها ، دلالة موضوعية تتحدد بالسياق الذي ترد فيهِ . وإزاء تغييب محاكاة تعقيدات الطبيعة ، وجد الفكر في بنائيتهِ الجمعية ، إن بإمكانهِ قلب العالم الخارجي باتجاه العالم الداخلي . فمن صفات الفن العظيم ، أن يحمل بداخلهِ التوتر والتناقض ، فهو لا يصدر من معاناة للواقع فحسب ، بل لابد له من عملية تركيب ، لابد له أن يكتسب شكلاً موضوعياً . فالتأمل المايثولوجي الذي يشكل الجوهر في نظام الصورة على أرض الرافدين ، هو نوع من طريقة حدسية للإدراك، ليس مجرد انشراح طليق للذهنية يتجاهل الواقع ، إنه يسمو على التجربة ، كونه يحاول تفسيرها وتنظيمها وتوحيدها . إنه يقوم على إعادة بناء العالم في حالتهِ السرية الداخلية، بحيث لم يعد لطبيعة الأشياء من دلالة ، إلا بقدر تحولاتها لتعكس وضعاً إنسانياً . لقد كان الشكل الكتابي والتشكيل الرافديني ، يتحرك في دائرة ثقافية قوامها الرمز فهناك المضمون والغاية والمدلول ، ومن الجهة الثانية التعبير والتظاهر والواقع ، وما بين هذين المظهرين تشابك وتداخل . بحيث إن الخارجي أو الخاص ، لا يكون له من مُبرر وجود ، إلا أن يكون تعبيراً عن الداخلي . فطبيعة التفكير ، كانت ذات خصوصية، تميل إلى تمثيل الأشكال في كلياتها ، في أشكالها العامة الموحية بالمعنى المترابط بالشكل . وهنا يمكن أن نصل إلى نوع من الرمزية الواعية في توظيف مظاهر الأشكال باتجاه ذائقية الوعي الجمعي . إنه الفن المتحرر من الطبيعة ، ببنائية أشكاله الجوهرية الخالصة . هذا التحقق التاريخي لعالم المُثل بوعي الجمال الروحي في اللانهائية المتحققة بخطاب التشكيل نحو المطلق . هو فلسفة الحياة والفكر برمتها على أرض الرافدين . إن مفهومية السياق باعتباره حلقة نارية تحدد دلالات الخطاب في الفكر الرافديني. هو نظام من الجدل المتفاعل بين المادي والروحي ، حيث يتسامى المادي إلى مقام الروحي ، بعد أن يحّل بهِ الروحي حلولاً . وهنا تَتسامى أنظمة الأشكال نحو التجريدية الرمزية ، إنه فعل الفنان المُبدع في آليات إظهار الشكل ، والذي يتجاهل الحكائية نحو الصورية ، ذلك إنه بمثابة الشفرة التي يبثها الفكري من خلال خطاب التشكيل المُعلن . وهذا هو التفسير العقلاني الأكثر خصوصية لأنظمة الأشكال الرافدينية في الفنون التشكيلية ، والتي تعمل بفاعلية لخلق موازنة بين الإحساس الداخلي وعالم التجربة الخارجي ، حيث تكون مهمة التشكيل إدراك هذه التقابلات . ذلك إن بنائية الشكل لابد أن تجيء بشكل تقابلات تسمو على الوقائع ، وإلا فقدت كل مالها من قيمة باعتبارها حقيقة . لقد كان هدف الفن ليس التقليد ، بل الكشف عن الصيغ التي تساعد الفكر الإنساني في الدخول بصلات وثيقة مع عوالمهِ الحاضرة والمغيبة .
2. أنظمة الكتابة الرافدينية : حققت الحضارة الرافدينية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد ، قفزة معرفية من النوع الكوبرنيكي ، وأسست أول مجتمع متحضر في التاريخ ، مؤسسة تاريخها من خلال نشاط حركة الأفكار المتحولة بشكل متسارع مليء بالمستجدات والإبداعات. ففي مدينة الوركاء عاصمة البطل كَلكَامش ، جاء اختراع الكتابة ليُعلم البشرية الحرف. وبقدر ما تمثله الكتابة من انتصار معرفي عظيم ، حفظ تاريخ الإنسانية من الضياع ، فإن بنيتها نظاماً من العلاقات الجمالية ، بصدد تسطيرها وانتظام خطوطها، إنها التفعيل الأول للفكر الإنساني حبن حفر على الطين مادة الخلق الأولى ، ذاته حفراً وحتى أعمق مناطق الروح . حيث يعمل الخط في منطقة المتخيل خارج مساحة التكوينات العينية ، باعتباره تفسيراً حدسياً للامرئيات بقوالب المرئيات . ذلك إن العلاقة الكتابية تشبه ذاتها في القصدية الطبيعية ، لكنها خارج حضورها الواقعي ، فهي عبارة عن تلخيص للدلالات التي تمثلها . فهي المفردات التي تشكل الجزء الخاص من الفكرة، والتي تُشّفر عن مغزى دلالي كامن خلفها في مدلولاتها في بنية الفكر الاجتماعي . ومن هنا اكتسبت عظمتها عبر التاريخ ، وبدت كمفاهيم أزلية الحيوية . كان المعبد باعتباره أهم ركائز المؤسسة الدينية ، حيزاً مكانياً ذي دلالة قدسية ، تفوق كثيراً حضوره المرئي . مكتسباً حضوره القدسي بفعل حلول الروحي فيهِ حلولاً. وهكذا قد لا يقل الفكر الرافديني نجاحاً عن الفكر الحديث بهذا الصدد ، إلا أن بنية النظام هناك لا تُقرر بالمقاييس الموضوعية ، بل بإدراك عاطفي حدسي للقيم . الأمر الذي فعَّل سيطرة المعبد على معظم الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية ، وغدى المعتقد الديني كحقيقة تفرض نفسها على العقول ، لها صفة الفضيلة الآمرة . وبفعل هذه الهيمنة المعبدية ، جاء اختراع الكتابة في بؤرتهِ ، ووصفها المرحوم الأستاذ طه باقر : " بأنها كانت صورية ، تعتمد على تمثيل صور الأشياء المراد كتابتها " (طه باقر ، ص241). كان تحقيق الدلالة في نظام الكتابة الصورية ، يتكون من ثلاث جزئيات . الشيء المشار إليه وهو المعنى ، والإشارة وهي الإشارة الكتابية والتشابه المفترض بين الاثنين. لقد كان التشابه ضرورياً في بنية النظام الصوري الأول . ذلك إن المعرفة في زمانها ومكانها ، يصعب التأكد من صحتها دون رابطة حقيقية بين الإشارة والمشار إليهِ. فالتعبير في الكتابة الصورية ، لا يتظافر إلا بعقد صلة الارتباط الحيوية ، بين المضمون والشكل الذي ينظمه ويظهره ، حيث يدعم كل منهما الآخر ، داخل كل مترابط ، هو البنية الكلية للنص المكتوب . فماهية الكتابة ، تعيش هنا في محيط ذو مدلولات ثقافية واجتماعية واقتصادية ، تتبادل معها الأثر والتأثير بطريقة دينامية متفاعلة ، من خلال إطار نوعي أكتسب مضمونه من الخارج ، وهو مرتبط بالحالة العامة للتفكير . وهو بمثابة مرجع تسترشد به الجماعة ، باعتباره خطاباً تداولياً ، ليصبح حصيلة الفكر الحضاري الذي تبثة الجماعة للأجيال القادمة . وكأي اختراع ، يبدو في البداية بسيطاً رغم كونه انتصاراً ، ومن ثم يخضع لمفهوم التطور بفعل تعاظم الخبرة المستندة إلى التجريب . حيث أعقبت الكتابة الرمزية الكتابة الصورية ، ليتعاظم هرم المعرفة في مرحلتهِ النهائية بالكتابة الصوتية - المقطعية المستندة إلى أصوات المقاطع في كتابة الكلمات . وذلك لعمري أعظم نصر فكري في تاريخ المعرفة . ففي المرحلة الرمزية ، وجد الفكر إن صلة الشبه المادية المنظورة غير كافية لتدوين شتى الأفعال المجازية . فاستعاض عنها بصلة روحية غير مرئية هي صلة الرمز ، حيث تتجسد قيمة الرمز الجوهرية الروحية بالتحول من الفردية إلى التعميم المطلق . ذلك إن العلامة الكتابية في طورها الرمزي، مفرغة تماماً من وجودها المادي كأيقونة معاشه ، ومرحّلة بفعل ضغوط البنية الفكرية العميقة إلى منطقة تتوسط الشعور واللاشعور . حيث التحرر من قيود السطحية والمباشرة ، سعياً لتأكيد وجود حقيقي وجوهري ، ذلك إن الرمز ، يحمل معنى أكثر تحديداً من الشيء الذي يرمز إليهِ ، فيستفيد الشيء المرموز إليهِ من المعادلة ، ويحصل على دلالات جديدة أكثر تحديداً من المرموز إليهِ أصلاً . فالشيء هو معنى إشارتهِ ، بيد إن الرمز هو معنى شيئهِ . وبفعل تداول هذه الرموز الكتابية في ذهن الجماعة ، نتيجة استمرار الممارسة والفهم ، إن غدت مثل هذه الرموز حقيقية اصطلاحية ، لا تتطلب استغراقاً ذهنياً من قبل الفرد والجماعة ، في استيعاب دلالاتها ، ضمن حدودها الزمانية والمكانية المحددة، باعتبارها أداة تواصل ، بواسطة ضرب من التناغم في الوجدان ، وقد وجد بنائيته بشكل تمثلات ذهنية ثابتة . وفي المرحلة المقطعية – الصوتية ، اكتسبت اللغة تماسكها الداخلي المنظم والخاص بها . فلم تعد الكتابة تتكون فقط من ممثلات وأصوات تقوم بدورها بتمثيل الممثلات ، ذلك إن الكتابة تتكون الآن من عناصر شكلية تنظم داخل نسق يفرض على الأصوات والمقاطع تنظيماً ليس تمثيلياً . أي إن الكتابة تحولت من وسيط تمثل فيه الكلمات الأشياء التي تشير إليها دون زيادة أو نقصان ، إلى أنساق خاصة تكتسب دلالاتها من علاقتها الداخلية كل منها بالآخر . فالعملية ليست تمثيل الكتابة لأشياء موجودة – في تطورها الأعلى – لكن النقيض هو الصحيح . 3. جذور الكتابة الرافدينية : إن خارطة تطور الفكر الحضاري على أرض الرافدين ، تمثل سلسلة متصلة الحلقات من التقاليد والموروث الحضاري ، نوعاً من السلسلة التاريخية الأصيلة ، تتبادل التأثر والتأثير في التاريخ الإنساني . وبفعل هذه التواصلية في بنائية الفكر الرافديني ، يمكننا أن نرجح ، إن العلاقة الكتابية الصورية والرمزية الأولى ، التي كتبت على ألواح الطين في الوركاء حاضرة العالم المتمدن ، تستند بمرجعيتها إلى نظم علامية كتابية ، كانت قد رسمت بالألوان على سطوح الفخاريات من عصر سامراء في الربع الأخير من الألف السادس قبل الميلاد . فرسوم الفخاريات السامرائية ، كانت نوعاً من الترجمة الرمزية لمفاهيم الإنسان ومعتقداتهِ باعتبارها إبلاغاً لغوياً ، مكَّن الفكر الإنساني في زمانهِ ، أن يوّصل ما لديه من خبرات وأحاسيس داخلية وخارجية ، لذا فإنها وسائل حيوية الفهم لكل من المبتكر ومجتمعهِ . إنها بمثابة الشفرة التي يبثها الفكري من خلال خطاب التشكيل المُعلن . باعتبارها بنائية تتشكل من دوال شكلية ، ومن مغزى دلالي كلي ، هو المفهوم الروحي الكامن في الذهنية الجمعية لدورها الاجتماعي . إن بنية الفكر في عصر سامراء العظيم (أواخر الألف السادس قبل الميلاد) ، كانت وليدة تألقها الحضاري الجديد ، ونقلتها الاقتصادية الكبيرة ، وفعل مجتمعها ووعي إنسانها وأفكاره الروحية ، التي ولدت على أرض الرافدين أول مرة . فتحولت الجماعات إلى مجتمعات مستقرة ، واستبدلت صفة التفكك الاجتماعي بصيغة الوحدة الاجتماعية . وهنا بدأت سيرورة خلاص الفكر الإنساني من الآنية ، تتخذ شكلها نحو مرحلة التخطيط المستند إلى التفكير العقلي . وأصبح بمقدور الفكر أن يعمل بآليات شعورية واعية ، بإدراك عليات إبداع الأشياء ، ليست بطبيعتها المادية فحسب ، بل ماديتها مضافاً لها ما يرتبط بها من أفكار ، ذلك إن إبداع المنجز الحضاري تسبقة كل مرة فكرة المنجز ذاته . فالشيء هنا ، أكتسب وجوداً مزدوجاً ، أي وجوداً فيزيائياً وآخر يدركه العقل . وهكذا ما أن بدأ إنتاج الأشياء ، حتى بدأ إبداع الأفكار ، وقد وجد إنسان وادي الرافدين في هذا العصر ، إن سلطته على الطبيعة ، واستقلاليته عنها ، تتحدد تماماً بمثل هذه الخصوصية من التصورات الروحية ، التي وضعها بمثابة وسيط بينة وبين العالم الخارجي . الأمر الذي قاد الحضارة الإنسانية نحو أقدم مجتمع متحضر بشكل حقيقي . لقد كررت الجماعات النامية الأولى في عصر سامراء فعاليتها الاجتماعية عشرات المرات ، فوجدت بتراكم الخبرة ، صوراً مباشرة للتعبير عن كل آمال وطموحات ومعتقدات الإنسانية في زمانها ومكانها . وبشكل علامات تؤدي فعلها ، أشبه بالهرمونية الإيقاعية ، فهنا يستطيع كل فرد أن يصدر صيحة أو يؤدي حركة أو يؤشر رمزاً ، أو ينجز إبداعاً تشكيلياً في النحت أو الرسم . عندئذ يصبح مؤشراً يروده الجميع ، باعتباره تعبيراً عن عواطف مشتركة له وظيفة تنظيمية اجتماعية . إنه نوع من المقولات اللغوية الاجتماعية ، تزود ميكانزم الحياة العملية بتيار عاطفي ليسيرها ، ذلك إن وسائل التعبير الرمزية كالإيماءة أو الصوت أو الصورة أو الكلمة، ما هي إلا أداة لغوية ، شأنها شأن الفأس اليدوية ، وهي وسيلة فاعلة في بسط سيطرة الإنسان على الطبيعة . باعتبارها نظاماً تقابلياً صورياً ، يحيل التأملي والخيالي والمايثولوجي في بنائيتهِ السوسيولوجية إلى لغة تواصل ، اجتازت بإبلاغها الدلالي ، أعمق نقاط الفهم الاجتماعي . إن حقيقة الرموز الكتابية كما تظهر في الشكل رقم (1) في رسوم الفخاريات في عصر سامراء ، هو حالة مفاهيمية رابطة بين بنية الدوال (العلامات المرسومة) ومضامينها الكامنة في نسيج الفكر الاجتماعي . وبمعقولية تستند إلى فهم بنية الفكر في زمانهِ ومانهِ . يمكننا أن ننشئ أول مرة قراءة تزامنيه أفقية لبنائية النص اللغوي المرسوم . يَظهر في الحقل العلوي مجموعة من الأشكال النسوية تؤدي رقصة طقوسية ، ومثل هذه الأشكال الرمزية كانت تؤدي دورها بتداعي الأفكار . لذلك يمكننا أن نقيم نظام من العلاقة الدلالية بين تطاير شعور النسوة والجو العام للحدث ، والذي نرجح إنه يجري بعاصفة رطبة من النوع الذي يسبق سقوط المطر ، وهو الفعل الطبيعي لإدامة فعاليات الزراعة . وهنا يمكننا الربط بين غائية الرقصات وفكرة استسقاء المطر . ذلك إن المظهر الحركي للنسوة وصرخاتهن ، لا تفيد إلا في جعل الفرادة ذاتية في خصوصية الروح ، كوسيلة للإيحاء بالبنية المضمونيه للعلاقة . إنها الرغبة والإرادة والطموح في التقاط القادم قبل حدوثهِ حرصاً على تحقيقهِ . لذلك يشير النص الكتابي الرمزي وفي الحقل الثاني إلى تمثيل رمزي لأشكال قطرات المطر وقد انهمرت تواً ، والتي مثلت وفق إيقاعها الكامن في خزين الفنان الذهني ، فمثل هذه التمثلات الرمزية ، تتجاوز المدلول الظاهري للتمثيل الشكلي ، إلى بنائية تتسم باستذكارات أو استدلالات عن الشيء المدرك حسياً . إنها الرمزية التي تحّمل المفردة العلامية تأويلاً وتفسيراً وكشفاً لنظم العلاقات التي تميز الظواهر . لقد كانت الزراعة ، الرافد الأساسي للاقتصاد والإنتاجي في عصر سامراء ، ومن هنا جاءت أهمية الماء في بنائية الفكر الحضاري لهذا العصر العظيم . فكان تمثيل فكرة الماء في الحقل الثالث من هذه البنية اللغوية الخالدة . إن مضاعفة عدد الخطوط المتموجة ، لهو إبلاغ لتناسل العلامة كي تعبر تأويلاً عن الكثرة ، والخط المتموج هنا، هو الانطباع الكائن في ذهن الفنان عن حركة الموج على سطوح المسطحات المائية والسواقي ، وبشكل يدعو إلى التحرر من قيود المظهرية السطحية والمباشرة ، سعياً لتحقيق وجود حقيقي وجوهري . وعند هذه النقطة من تراجيد الحدث الفكري يمكننا التوقف قليلاً لتأويل الدلالة التي بثتها الدوال بشكل شفرات وقد أحالتها إلى بنية لغوية ، يعتمد فيها المعنى على علاقتها الداخلية المتبادلة ، فتكون المقولة : "إن رقصة شعائرية تأتي بالمطر لتمتلئ الجداول والقنوات بالماء" . وبدأ الفكر الإنساني في عصر سامراء ، يوجد لنفسهِ ، أدوات هي نظم من الرموز، ينظم بها معطيات الخبرة التراكمية التي أمتلكها . فكان الفن باعتباره لغة ، هو الوسيط أو النظام الثالث ، بين ما هو موجود في الواقع المحسوس ، وبين ما يحيا في الواقع الروحي . فلم تعد الرموز تمثيلاً لأشياء مادية وإنما تعبيراً عن أفكار ، فعملية الفهم تهدف هنا ، إلى رَدّ نمط من الواقع إلى نمط آخر . ذلك إن أشكال المثلثات والتي نظمت بشكل صفين في الحقل الرابع من أسطورتنا السامرائية ، أُريد بها التعبير عن تفعّيل العلاقة المرتبطة دلالتها بفكر الخصب في الطبيعة ، ويؤكد ذلك تماثلها مع علامة الخصب في الكتابة الصورية من عصر الوركاء (شكل –1) . إنها في خصوصيتها الشكلانية ترتبط بفكرة المثلث الأنثوي ، وبدلالتها الاعتباطية ، توحي بجميع أفكار الخصب في الوجود . معمقة الدلالة في نظام العلاقة الرامزة ، والكامنة في بنائية العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول ، لتؤدي فعلها في تعدد الإشكال الرمزية . ويمكن قراءة العلامة في الحقل الخامس ، على إنها الأرض ، بفعل تطابق بنيتها التجريدية الهندسية مع مثيلاتها في نظام العلامات اللغوية الرمزية من عصر الوركاء (شكل – 1) (بارو ، ص144) . فقد أدرك الفكر في زمانه ومكانه ، أثر قوة الأرض في الوجود ، باعتبارها ظاهرة محركة أساسية في بنائية الوجود ، وأسقطوا عليها تأويلات شتى ، ووجدوا فيها أفكار الإخصاب والنماء والتجدد وقدسوها على إنها الربة الجليلة ، مصدر الحياة والأم الأولى . ولعل في بنيتها الهندسية انتصار لما هو فكري في بنائية الرمز ، بعد أن تراجع ما هو طبيعي إلى مرتبة ثانوية ، ليعمق فكرة الدلالة في بنائية المضمون ، ويكون له بمثابة الحامل . وأوضح ( ملوان ) : " إن شكل رأس الثور ، هو رمز لعنصر التذكير في الطبيعة، وقد ظهر في رسوم الفخاريات ، بشكل واقعي في البداية ، ثم أبتعدت موصفاتهِ التشبيهية عن سلفها الواقعي ، نحو الأشكال التجريدية مع مرور الزمن " ، (Goff, p.121) . وشكل رأس الثور في الحقل الأخير وفي خاتمة الأسطورة السامرائية ، والذي يظهر تشابهاً شكلياً كبيراً مع مثيلاتهِ من رموز الكتابة الوركائية (شكل – 1) هو تعبير عن النشاط الفكري الإبداعي لإنسان أرض الرافدين ، حين يستعيد الفكر مفردات بيئته ويكسبها مضامين اجتماعية . في صيغة من التفاعل بين ظاهر الشيء وجوهرهِ والذي يرتبط مع مغزى كلي يختفي وراءه هو المضمون الروحي الاجتماعي. فإن رؤية حيوان ، ما هو إلا امتلاء بعدد لا يحصى من التأويلات الفكرية ، فتمثيلُه يوجب جمعها في شكل ، شأنه شأن الفكرة حيث يستوعبها ويغنيها . والآن يمكن قراءة النص الكتابي في بنائيتهِ الكلية بالشكل الآتي : ( إن رقصة شعائرية ، تأتي بالمطر لتمتلئ الجداول والقنوات بالماء ، ويحلّ خصب الأرض ، لتتناسل قوى الطبيعة بكليتها ) . وفي محاولتنا فهم الأنساق اللغوية الصغرى ، وصولاً لإعادة تكوين الدائرة الكبيرة للنسق اللغوي في كليتهِ . فإننا نبحث فيما وراء العلاقات العينية ، عن تلك البنية اللاشعورية ، التي تعمل كنظم علاقات وأنساق تركيبية ، وفقاً لفكرة تقاطع الواقع والخيال الأسطوري ، حيث اكتسبت اللغة تماسكها الداخلي المنظم والخاص بها. فكانت في عصر سامراء العظيم ، لغة ذات بنية اجتماعية شاملة ، وكلام ذو محدودية فردية ، وقد جاءت مثل هذه العلامات الرمزية ، لتدوين هذه البنية الأسطورية للفكر ، حيث عمل الفكر بفاعلية على اختراق الظواهر ، بغية كشف عما شعروا إنه يؤلف الجوهر الأساس في ماهية الظواهر . ذلك أن مثل هذه الأشكال الرمزية ، الكامنة في بنائية النص الكتابي السامرائي الخالد ، كانت تنتقل بالمعنى من نطاق الجزئيات إلى حيز الكليات ، وتؤل الشيء من خصائصهِ الفردية إلى التعميم . حيث تجد مثل هذه الاستعاضات الرمزية ، ديمومتها في طقوس دورية وشعائر ، قائمة على العرف الاجتماعي ، وتتجسد في العلاقات الذهنية المشتركة ، وارتباطها الرمزي بوجود الجماعة . إن العظيم في بنية الفكر الإبداعي لعصر سامراء ، هو تدوين خطابات الفن والأدب ، بشكل خطابات تقوم على الرموز والدلالات الرمزية . وبفعل المشابهة الشكلانية التي تصل لحد التطابق ، بين العلامات الكتابية الرمزية لعصر الوركاء ومقابلاتها من عصر سامراء (شكل – 1) . الأمر الذي يضعنا في الخصوصية المعقولية لأن نرجح اكتشاف الكتابة على أرض الرافدين في عصر سامراء (أواخر الألف السادس قبل الميلاد) . فالموروث الحضاري ، بين عصر سامراء وصولاً لعصر الوركاء ، ما أن يستقر وينتقل من جيل إلى جيل ، حتى تصبح له طبيعة محافظة بل ومغرقة بالمحافظة . ولا فرق لدينا هنا ، في وسيلة الكتابة ، والتي كانت بريشة أو فرشاة وقد أُشرت العلامات الرمزية الكتابية بالألوان على سطوح الفخاريات ، متحولة إلى ما يشبه القلم القصبي لتأشير العلامات الكتابية على الألواح الطينية في عصر الوركاء فالمهم هنا هو فكرة الكتابة . تُرى ما أعظم أصالة الحضارة الرافدينية ، وما أكبر دورها الحضاري في بنائية الفكر الحضاري العالمي . لقد علم إنسان العراق الأول ومنذ عصر سامراء ، العالم الحرف ومنذ أواخر الألف السادس قبل الميلاد ، وذلك لعمري أعظم نصر فكري في التاريخ . حقاً كانت أرض الرافدين مهبط الإلهام الأول .
المصــــــــــــادر :
1. باور ، أندريه . سومر فنونها وحضارتها ، ترجمة وتعليق د. عيسى سلمان وسليم طه ، بغداد ، 1977 . 2. باقر ، طه . مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة . ج1 ، مطبعة الأديب البغدادية ، بغداد ، 1973 . 3. Goff, p. L, Symbols of Prehistoric Mesopotamia, Yale University press, 1963.
#زهير_صاحب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكتابة السومرية
المزيد.....
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|