* منذ عقود من تاريخ الفكر العربي، لم تتوقف بعض الأصوات عن المناداة بضرورة إعادة قراءة الفكر الديني وجعله أكثر ملاءمة مع الشروط الجديدة للإنسان العربي.. لكن هذه الرغبة عرفت مواجهة قوية وعنيفة من طرف أصوات لا تؤمن بالتطور التاريخي ..في نظركم لماذا فشل مشروع تجديد الفكر الديني؟
كل شيء في الحياة الدينية العربية يناضل ضد تجديد الفكر الديني. حاول الأفغاني وعبده وإلى حد ما رشيد رضا القيام ببداية إصلاح ديني محتشم فرد عليهم الفقهاء التقليديون والفقهاء الغلاة بإصلاح مضاد أي بثورة دينية مضادة. لماذا؟ لأسباب عدة ومعقدة داخلية وخارجية في مقدمتها سببان مركزيان:عجز النخب العربية عن الدخول إلى الحداثة لا في القرن التاسع عشر قبل الاستعمار ولا في القرن العشرين بعد الاستقلال، والسبب الثاني هو صدمة إلغاء أتاتورك للخلافة التي أفقدت الفقهاء العرب رشدهم. حتى إن رشيد رضا "النهضوي" تحول إلى عرّاب للإخوان المسلمين في مصر. حسن البنا كان ابنه الروحي.
منذ البداية كان الإخوان المسلمون بعيدي النظر فغزوا التعليم والإعلام الدينيين لتحقيق هيمنتهم الثقافية كمقدمة لتحقيق هيمنتهم السياسية لاحقاً كما كان يحلم غرامشي بالنسبة للطبقة العاملة الإيطالية. وهكذا تحالف التعليم والإعلام الدينيان في كل بلد عربي لقطع الطريق على كل محاولة لتجديد الفكر الديني وهمش المحاولات السابقة من المعتزلة إلى عبده.
*لماذا وصفتم الإصلاح الديني الذي قام به الأفغاني وعبده .. بأنه محتشم؟
بالقياس إلى الإصلاح الديني البروتستانتي الذي سبقه بأربعة قرون والذي قطع مع المؤسسة الكاثوليكية بأشخاصها ولاهوتها وشعائرها. رفض الإصلاح البابا الذي كان الوحيد المؤهل للإفتاء في أمور الدين، ووزع سلطانه على جميع المؤمنين الذين غدوا أفراداً قادرين على التفكير بأنفسهم في النصوص الدينية. وهذا مهم إذا قسناه بالدمار الهائل الذي ألحقته وما تزال فتاوى فقهاء الإرهاب الأصولي. شنق الفيلسوف والمتصوف محمد محمود طه كان بفتوى من الترابي، قتل فرج فوده ومحاولة قتل نجيب محفوظ كانت بفتوى من عمر عبد الرحمن وقتل السادات كان بفتوى من هذا الأخير أيدها راشد الغنوشي في كتابه "الحريات العامة ص 184" ومأساة 11/9 كانت بفتوى من الشيخ السعودي شعيب إلخ. دور الفتوى هو تحويل عضو الحركة الأصولية إلى صاروخ موجه وفضلاً عن ذلك قتل ضمير القاتل الأخلاقي برفع الحرج عنه وتحويل القتل من جريمة إلى إقامة حد شرعي يستحق من يقيمه من الشباب المحروم جنسياً أن يدخل الجنة ويتمتع بحورياتها بغير حساب.. الترابي كان كلما قتل بعض من أعضاء مليشياته "المجاهدين" في الإحيائيين والمسيحيين يعقد لهم قراناً على حوريات الجنة ليضاجعوهن في يوم موتهم لأن "الشهيد" لا يموت بل يمر من الدنيا إلى الجنة. انتحاريو حماس يضعون واقياً فولاذياً على أعضائهم التناسلية ليتمكنوا يوم قتلهم من مضاجعة الحوريات.. إذن إلغاء الإصلاح الديني لمنصب الإفتاء البابوي كان حدثاً تاريخياً قطع مع ستة قرون كانت فيها الكثلكله محكومة ببابا. واعترف الإصلاح أيضاً للفرد المسيحي بأنه مخير لا مسير. وهذا مبدأ نادت به المعتزلة قبل ذلك بستة قرون.كما ألغي الإصلاح شعائر عبادة القديسين و"الحضور الحق" للمسيح دماً ولحماً وروحاً وألوهية في القربان..
أما الإصلاح الذي حاوله عبده فإنه بقي رغم كثير من إيجابياته رهينة لفقه القرون الوسطي،"لا اجتهاد في ما فيه نص" بينما الاجتهاد الحقيقي المطلوب اليوم هو في النص نفسه. أما رشيد رضا فكان ابن تيمية مرجعاً أسمي له.
*كيف يلعب التعليم والإعلام اليوم دوراً في إعاقة تجديد الفكر الديني؟
لأنهما يغسلان يومياً أدمغة التلامذة والطلبة والقراء والمستمعين والمشاهدين بالهوس بالماضي وبالنرجسية الدينية وبعداء المرأة وغير المسلم والعقل والحداثة. تلامذة الأزهر في السنوات الثلاث الأخيرة من التعليم الثانوي يدرسون كتاب "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" تأليف الشربيني المتوفى سنة 550 هـ.ماذا يقرأون فيه؟ قتل تارك الصلاة عمداً قياساً على المرتد وقتل تارك الصلاة كسلاً حداً لا كفراً"..كيف لا يكفرون المجتمع وهم يرون ملايين المصريين لا يصلون ويجب حسب الكتاب الذي درسوه أن ‘يقتلوا لتركهم الصلاة كسلاً" لكن الدولة لا تفعل شيئاً لإقامة الحد عليهم؟ كيف لا يكفرون المجتمع والدولة؟! مثال الأزهر ينطبق على معظم مؤسسات التعليم الديني باستثناء التونسية التي تم تحديثها وترشيدها منذ 1990 فقد تم تطهير البرامج من النصوص المعادية للمرأة ولغير المسلم وللعقل وللحداثة. أما حقوق الإنسان فقد غدت مادة تدرس في المدارس. ولا شيء كقيم حقوق الإنسان الإنسانية الكونية لإعادة صياغة الوعي الإسلامي التقليدي الذي لا يعترف إلا بقيمتي الحلال والحرام. الحفاظ على البيئة غدا أيضاً مادة تدرس في المدارس لتوعية الأجيال الصاعدة بضرورة حماية بيئتهم التي يدمرها الانفجار السكاني كل يوم أكثر. أيضاً الفلسفة تدرس في السنتين النهائيتين من التعليم الثانوي.وتدرس في جميع الاختصاصات العلمية كالطب مثلاً. لماذا؟ لأن هذه الفروع العلمية تزود الحركات الدينية المتطرفة بالكادر والجمهور المهيء للتعاطف معها. لأسباب عدة من أهمها افتقاد خريجي هذه الاختصاصات العلمية للفكر النقدي أي فكر التساؤل والشك والنسبية والاعتدال أي المحاولة الدائمة للوصول إلى حل وسط بين ما يريده المرء وما يستطيعه ورفض اليقين الأعمى واحتكار الحقيقة واحتقار العقل والمرأة وغير المسلموهي كلها من خصائص الفقه التقليدي والأصولي.
الفلسفة _ مع العلوم الاجتماعية _ هي التي تخصّب عقول الأجيال الصاعدة بهذا الفكر النقدي وتعلمهم كيف ‘يعطوا لحياتهم معني في الحياة لا بعد الممات.وكيف يفكرون بأنفسهم في شؤون الدين والدنيا.
برنامج الفلسفة التونسي هو البرنامج الفرنسي. أما في معظم الدول العربية الأخرى ففتاوى الغزالي وفقهاء الحنبلية بتكفير المنطق والفلسفة مازالت سارية المفعول.حتى في المغرب والجزائر مازالت الفلسفة في الباكالوريا أقرب إلى علم الكلام.
*ماذا تقترحون لتعويض التعليم والإعلام السائدين الآن؟
أن تقوم النخب الواعية بتوعية القطاعات الأكثر تطوراً من الرأي العام والنخب الأكثر تنوراً بضرورة إصلاح التعليم الديني على الطريقة التونسية التي برهنت خلال 14 عاماً على جدواها. أما في الإعلام فعلى القطاع المستنير من المجتمع المدني أن ‘يبادر إلى إصدار صحف حديثة وعقلانية وعميقة على غرار "الأحداث المغربية"التي لا مثيل لها في يوميات العالم العربي كله في حداثة وعقلانية خطابها الإعلامي.أين هم رجال الأعمال المتنورون في العالم العربي لتمويل فضائية كـ"الجزيرة" التي سيطر عليها القرضاوي أو "اقرأ" التي يمولها ظلامي سعودي كدس ثرواته من الاستغلال المكثف لعرق العمال فضلاً عن المضاربة.
عصر النهضة الأوربية قام على كواهل الأمراء والتجار الأغنياء محبي الأدب والفن والفكر الذين مولوا الترجمات اليونانية واللاتينية، ألا يوجد في العالم العربي كله عشرة منهم لتغيير الخارطة الإعلامية؟ أم أنه في:عصر قاز الزيت يطلب كاتب صدقة / وترفل في الحرير كلاب كما قال نزار قباني؟
*ما هي في اعتقادهم السبل الكفيلة بجعل قراءة النص الديني منسجمة مع حاجات الإنسان العربي؟
السبيل إلى ذلك هو إحياء القراءة الكلاسيكية: التأويل. والقراءة التاريخية. النص الديني مفتوح على التأويل لغياب الوحدة البنيوية منه. في القرآن 6232 آية لا يوجد فيها من الآيات البينات التي لا تحتاج إلى تأويل، في نظر الأرثوذكسية إلا حوالي 6 %، أما الباقي فآيات متشابهات لا يعلم تأويلها "إلا الله والراسخون في العلم" كما تقول الآية، الراسخون في العلم اليوم ليسوا فقهاء الإرهاب الذين هم أكثر رسوخاً في الجهل بعلوم التأويل الحديثة. إما عن سؤ نيتهم وخراب ضمائرهم فحدث ولا حرج كما تشهد على ذلك فتاوى إهدار دماء المسلمين وغير المسلمين. راشد الغنوشي برر اغتيال محمد أنور السادات بقياس فاسد قاس به حالة إيعاز النبي باغتيال أحد زعماء اليهود لحي بن أخطب، على حالة "اغتيال الإسلامبولي للسادات"(الحريات العامة ص 184). وعزز شرعية اغتياله بفتوى تقي الدين النبهاني مؤسس حزب حرب التحرير الإسلامي الذي يكفر جميع الدول الإسلامية إذ أن الدولة الشرعية الوحيدة في نظره هي دولة الخلافة وأيضاً ببعض "فقهاء الخوارج" يعني الأزارقة الذين أفتوا بقتل الإمام علي وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..
أعطي النبي مثلاً للراسخين في العلم بابن عباس الذي قال داعياً له:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" تأويل القرآن قطعاً.وفعلاً فقد وفق مثلاً في تأويل "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (117 هود)قائلاً:" أن الله لا يعذب على الشرك بل على الظلم" وهو تأويل جدير بأن يكتب بماء الذهب على كل كتاب مدرسي وفي واجهة كل مدرسة أو جامعة دينية.لأنه عوض ثنائية الكفر والإيمان بثنائية الظلم والعدل كنقطة ارتكاز للمعايير الإسلامية، أما الراسخون في العلم اليوم فهم أخصائيو تاريخ الأديان المقارن والسسيولوجيا الدينية وعلم النفس والهرمنوطيقا (علم التأويل) والأنثروبولوجيا والألسنية وطبعاً النحو والبلاغة ..إلخ.
*إذا كانت الآيات المتشابهات قابلة للتأويل فما العمل مع الآيات غير المتشابهات؟
من وجهة نظر اللسانيات كل نص في الواقع تنَاصّ أي ملتقى لعدة نصوص سابقة له. القرآن نفسه يخبرنا بأن النص القرآني تنَاصّ :" إن هذا لفي الصحف الأولي صحف إبراهيم وموسى" (19 الأعلى) وهذا صحيح تماماً كما أثبت ذلك علم الأديان المقارن. فخلق آدم من صلصال أصلها أسطورة سومرية ترجمها أحبار اليهود في القرن السادس قبل الميلاد خلال الأسر البابلي في سفر التكوين وكذلك أسطورة خلق العالم في سبعة أيام وأسطورة طوفان نوح وأسطورة لوط ترجموها من ملحمة جلجامش .. حتى إنه يمكن القول أن أسفار التوراة هي ترجمة أو اقتباس للديانة الوثنية البابلية والديانة المصرية. وهذا ما أثبته أعمال جان بوطيرو أستاذ كرسي الديانات المقارنة بالكوليج دو فرنس ومنها كتابه"بابل والكتاب المقدس" الذي نشرته (دار كنعان) [دمشق] كتبت له مدخلاً شوهته للأسف الأخطاء المطبعية، وكتاب فراس السواح"مغامرة العقل الأولي"إلخ. إذن لابد لمفسر القرآن اليوم من التسلح بعلوم الحداثة لتفسيره وفي مقدمتها علم الأديان المقارن الذي يجب أن يدرس في جميع مراحل التعليم الدينى.
ابن عباس فسر القرآن على ضوء تاريخ الأديان في عصره. يروي الطبري في تفسيره أن الصحابة قرأوا "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة" قرأ البعض"حامية" والبعض الآخر"حمنة" فاحتكموا إلى ابن عباس الذي لجأ إلى "إخصائي" في العهد القديم، كعب الأحبار،اليهودي الذي أسلم وسأله:"ماذا في الكتاب يا كعب؟" فأجاب:"تغرب في عين فيها تأط" أي طين أسود فقال لهم ابن عباس:"إذن اقرأوا "حمئة"لا حامية". لو كانت الألواح البابلية أو ملحمة جلجامش قد اكتشفت في عصره لاحتكم إليها أيضاً لتفسيره آيات خلق الكون وآدم وقصة نوح ولوط وهابيل وقابيل..إلخ.ثقة المسلمين الأوائل في أنفسهم أعطتهم شجاعة دينية وفكرية نادرة.وانهيار ثقة التقليديين والأصوليين بأنفسهم دفعتهم إلى محاربة العلم خوفاً على إيمانهم المهتز.
إذا كانت اللسانيات تقول لنا اليوم إن كل نص قابل للتأويل. فإن الفقهاء القدماء لجأوا في الآيات البينات التي كانت حسب علوم ذلك العصر غير قابلة للتأويل إلى سبيلين لتيسير أحكامها. السبيل الأول هو الشروط التعجيزية التي تجعل تطبيق حكمها شبه مستحيل آية حد السرقة من البينات" السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما". عمر علق حكمها عام الرمادة[=المجاعة] رغم اعتراض بعض الصحابة الأغنياء. أما الفقهاء فقد اشترطوا لقطع اليد 16 شرطاً من الصعب توفرها. السبيل الثاني أكثر انسجاماً مع سوابق القرآن ومنطقه ومقاصده وهو القراءة التاريخية للنص القرآني.
الوسيلة الثانية لتنزيل الآيات البينات في التاريخ أي تكييف النص الديني مع متطلبات الزمان والمكان أي مع حاجات الناس وقيم العصر وعلومه ومؤسساته وحقائق موازين القوى والأعراف الدولية والقانون الدولي، هو القراءة التاريخية للنص. مع محمد عابد الجابري كل الحق عندما يقول إن القرآن هو الذي دشن هذه القراءة التاريخية بالناسخ والمنسوخ فيه. فكلما جد جديد، في مجتمع المدينة الذي تسارعت وتائر حركته التاريخية بالرسالة المحمدية، تجاوز حكم آية قرآنية قديمة حكم آية أخرى مثلها أو أحسن منها جديدة لتجعل حكمها متكيف اً مع حاجات الأمة الإسلامية وموازين القوى داخلها وخارجها"وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"(106 البقرة) [لأن الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فإذا ‘شرع حكم في وقت ما لشدة الحاجة إليه ثم زالت الحاجة في وقت آخر فمن الحكمة أن ‘ينسخ الحكم ويبدل بما يوافق الوقت الآخر فيكون خيراً من الأول أو مثله في فائدته من حيث قيام المصلحة به ](الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره هذه الآية في المنار) والإمام ينسب هذا التعليل للنسخ إلى " القول المختارة للجمهور":جمهور المفسرين. علة النسخ عند جمهور المفسرين هي إذن المبرر الذي اعتمدته القراءة التاريخية للنص من قرآن أو سنة منذ أبو بكر الصديق إلى الشيخ الطاهر الحداد.
• هل بإمكانكم تقديم مثال على النسخ في القرآن؟
سأقدم مثالين دلّالين على مرونة النص القرآني وقدرته على تكييف أحكامه مع المستجدات وتغييرها استجابة لحاجات الناس وتقديمها على النص. لكن الفقهاء المتزمتين وفقهاء الإرهاب عكسوا الآية حقيقة لا مجازاً فقدموا النص على حاجات الناس ومصالحهم ومتطلبات واقعهم. هذه القراءة المتزمتة والإرهابية التي سادت منذ قرون ومازالت سائدة هي سبب أسباب عدم تجديد الفكر الديني وفشل محاولات الإصلاح أو محاصرتها لكي لا تشع خارج حدودها كما حصل لتجربة الإصلاح التونسية التي بادر إليها الشيخ الطاهر الحداد بكتابه"امرأتنا في الشريعة والمجتمع"(1930) الذي طالب فيه بإلغاء تعدد الزوجات والمساواة بين الذكر والأنثى في الإرث إلى شيخنا العلامة الفاضل بن عاشور، أول مفتى للجمهورية التونسية، الذي صاغ فصول[مواد]قانون الأحوال الشخصية التونسية سنة 1956 .ما فعله المتزمتون وفقهاء الإرهاب بالواقع والنص يذكرني بما فعله قاطع الطريق الأسطوري الإغريقي السادي"بروكست" فقد كان يملك سريرين طويل وقصير يشد وثاق المسافر الطويل إلى السرير القصير ويشرع في قصقصة أطرافه لتكييفه مع قياس السرير وبالمقابل يوثق المسافر القصير إلى السرير الطويل ويأخذ في مطه لتكييفه مع طول السرير..وهكذا حتى يلفظ كل منهما أنفاسه تحت التعذيب.
هذا بالضبط ما فعله ومازال الفقهاء المتزمتون وفقهاء الإرهاب الذي يقصصون أطراف الواقع المعيش أي مصالح وحاجات المسلمين لتتلاءم مع سرير النص القصير أو يمططونها لتتلاءم مع سرير النص الطويل. وفي كلتا الحالتين الضحية هي واقع الناس ومصالحهم وحاجاتهم لأن النص عندهم لم يعد معبراً عن هذه الحاجات بل تعالي عنها أو قل أنفصل واغترب عنها أي ارتد ضدها، فيما كان في زمن التنزيل خادماً لها يستجيب لمتطلباتها وضروراتها .
المتزمتون وفقهاء الإرهاب خانوا مقاصد النص القرآني أو النبوي (السنة)بتناسيهم عن شعور منهم أو غير شعور لمقاصد الناسخ والمنسوخ القرآني أو مقاصد قراءة الصحابة ثم الفقهاء من بعدهم للنص قراءة تاريخية ليست في الواقع إلا استمراراً للناسخ والمنسوخ بعد انقطاع الوحي بموت النبي لأن قانون التطور والتغيير الأبدي ظل فاعلاً في الواقع كما في فترة الوحي.
لنقرأ على ضؤ هذه الإضاءة التحليلية المثالين التاليين للناسخ والمنسوخ. آية حد الزوج في قذف زوجته بالزنا:"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون"(4 سورة النور).هذه الآية التي وضعت حداً لقتل الزوج للزوجة وعشيقها الذي كان شائعاً في الجاهلية، والذي أفتى به القرضاوي السنة الماضية عندما طالب الزوج بقتل زوجته إذا وجدها متلبسة بالزنا، نزلت على رؤوس بعض المسلمين المعادين للمرأة نزول الصاعقة. إذا لم يأت بأربعة شهود على الزنا فيجلد الزوج 80 جلدة ويجرد من أهليته القانونية بعدم قبول شهادته. ما إن سمع سعد ابن عبادة سيد الأنصار الآية حتى تمّيز غيظاً كما يروي الطبري في تفسيره:"ألهذا ‘أنزلت يا رسول الله،لو أتيت لكاع[زوجته] وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أحوكه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته" أدرك النبي ما في احتجاج سيد الأنصار من دعابة سوداء وتهكم على الآية فقال بدوره محتجاً ومستنجداً بالأنصار:"يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيدكم؟ فقالوا لا تلمه فإنه رجل غيور (..)فما لبثوا إلا يسيراً حتى جاء هلال ابن أمية فقال يا رسول الله وجدت رجلاً مع أهلي فرأيت بعيني وسمعت بأذني(..)فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به هلال وثقل عليه جداً(..)وقالت الأنصار أيجلد هلال ابن أمية وتبطل شهادته في المسلمين؟!"(الطبري في تفسير الآية 3 النور). لقد لاحت ‘نذر الفتنة بين الأنصار والمهاجرين. ولابد من آية أخرى للخروج من المأزق.وهكذا سرعان ما جاءت آية اللعان تنسخ الآية التي فجرت الموقف ولتعيد المياه إلى مجاريها بين النبي والأنصار. ماذا نسخت آية اللعان؟جلد الزاني وعدم قبول شهادته. لكنها لم تعد بالمرأة إلى وضعها المأساوي في الجاهلية:القتل. بل فرقت بينها وبين زوجها بسلام بعد اللعان:"والذين يرمون أزوجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة لعنه الله عليه إن كان من الكاذبين"(6،7 النور) وهكذا نسخت هاتان الآيتان الآية 3 من سورة النور. كانت الآيتان الناسختان حلاً وسطاً بين ما كان يريده الأنصار من احتفاظ الرجل بحق قتل زوجته وعشيقها ورميها،تبريراً لجريمته، بالزنا بدون شهود وما سنته الآية المنسوخة من عقاب صارم للزوج الذي يرمي زوجته بالزنا إما تبريراً لقتلها أو لإقامة حد السجن عليها الذي جاءت به الآية 15 من سورة النساء:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً". لأن رجم الزانية لا وجود له في القرآن وإنما استعاره الفقهاء وأعداء المرأة من سفر التثنية التوراتي.يقول تفسير المنار:"فامسكوهن في بيوتهن وامنعوهن من الخروج عقاباً لهن (..) وهذا دليل على تحريم إمساكهن في البيوت ومنعهن من الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو محض التحكم من الرجال وأتباعهم لأهوائهم في ذلك كما يفعله بعضهم".
المثل الثاني على النسخ الفوري للآية عندما تثير احتجاج المسلمين عليها لأنها كلفتهم ما لا طاقة لهم به هو آية
"ميزان القوة" كما أسميها:" يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا"(64 الأنفال) يقول الطبري في تفسيره:"فلما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا [=استكثروا] أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفاً فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى"أي الآية التالية لها من السورة ذاتها مما يشير إلى أن الآية نسخت فوراً:" الآن علم الله أن فيكم ضعفاً، فإن تكن منكم مئة صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألفاً يغلبوا ألفين" (65 الأنفال).
التنازل الذي قدمته الآية الناسخة لمطلب المسلمين هائل بنسبة 80 % اقترحت الآية المنسوخة على المسلم أن يقاتل عشرة كفار، فرفض المسلمون الاقتراح فقبل رفضهم بنسخ الآية والإتيان بآية خير منها اقترحت أن يقاتل المسلم اثنين فقط من المشركين بدل عشرة فقبل الإقتراح. بعد مداولات شاقة بين النبي والمسلمين الذي "أعظموا"ميزان اللقوى الذي اقترح عليهم في البداية.
فما هو المغزي من النسخ؟ أن نتعامل نحن الآن مع النص القرآني بعد 15 قرناً من نزوله على الأقل بالطريقة ذاتها التي تعامل بها معه مسلمو فترة التأسيس:‘نسائله ونناقشة ونفرض عليه مصالحنا وحاجاتنا ومؤسسات وعلوم وقيم عصرنا كما فرضها عليه الصحابة لـ "يعلم أن فينا ضعفاً" كما علم أن في الصحابة ضعفاً وقرأ له ألف حساب.
• أليس هذا علامة على مرونة وواقعية النص القرآني وتقديم مصلحة الناس على النص؟
بالتأكيد.فالنص القرآني على الأقل في الآيات الخاصة بالمعاملات لم يكن نصاً فوقياً مفروضاً فرضاً بل كان محصلة للحوار والتشاور بين النبي والصحابة أي أنه كان نصاً تاريخياً وليس نصاً عابراً للتاريخ أي صالحاً لكل زمان ومكان مثل الأسطورة. الأساطير وحدها هي التي تزعم التحليق بجناحين سحريين فوق التاريخ، فوق مصالح وحاجات الإنسان المتغيرة بتغير العصور والبلدان.
*كيف واصل الصحابة بعد انقطاع الوحي عملية النسخ؟
أعلم الناس بمقاصد الوحي هم الصحابة خاصة من يمكن أن نسميهم الحلقة المقربة من صنع القرار في الأمة الإسلامية الناشئة مثل الخلفاء الراشدين. هؤلاء واصلوا قراءة النص القرآني كنص تاريخي خاضع لمتطلبات الزمان والمكان لا كنص متمرد على التاريخ كما تزعم القراءة المتزمتة والإرهابية المعاصرة التي تصر بعناد ‘عصابي على تقديم النص على الواقع والعقل ومصلحة وحاجات الناس وضرورات العصر التي لا تساوى في موازينهم مثقال ذرة.
قرأ أبو بكر الصديق آية المؤلفة قلوبهم _ وهى من الآيات البينات _ قراءة تاريخية أي ناسخة لحكمها الذي تجاوزه الزمن ولم يعد متكيفاً مع المستجدات. لقد كان الإسلام في مرحلة الاستضعاف في حاجة إلى تقديم حوافز مادية لبعض العرب للدخول فيه أو عدم الخروج منه. لكن في خلافة أبي بكر تغيرت موازين القوى.لخصها أبو بكر عندما قال"قوى الإسلام لا حاجة لنا فيهم" وهو شرط غير موجود في الآية لكن أبا بكر استشفه من مقاصد القرآن. تقول الآية" إن الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم".
كما كان نسخ آيات القرآن الخاصة بالشؤون المدنية والعسكرية موضوع مفاوضات صاخبة أحياناً بين النبي والصحابة كما رأينا في نسخ الآيتين السالفتين كذلك كان نسخ أحكام الآيات من الصحابة أنفسهم ، بعد موت النبي وانقطاع الوحي، محل مفاوضات بينهم لا تقل صخباً . فقد روي لنا الاخباريون أن المهاجرين والأنصار اجتمعوا ثلاثة أيام بلياليها للتداول في اقتراح الخليفة عمر بن الخطاب نسخ حكم آية الفيء: "واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول"(41 الأنفال) والأربعة أخماس الأخرى توزع على المقاتلين كغنيمة وملكية خاصة بهم وهذا ما طبقة النبي على فيء أرض خيبر. نحن إذن أمام آية بينة وسنة مؤكدة. لكن ذلك لم يردع عقل عمر بن الخطاب عن التفكير في النص الديني على ضوء المصلحة العامة وتقديم هذه الأخيرة على النص.وهكذا اقترح على المهاجرين والأنصار نسخ الآية والسنة التي أكدتها. أسفرت المفاوضات بين الصحابة على نسخ الآية بالأغلبية فقد ساند اقتراح النسخ على ابن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعارضه بلال والزبير. برر عمر في رسالته لجيشه في العراق نسخ الآية بمصلحة الأجيال القادمة:"إذا أخذتم أرض السواد[ العراق] ماذا سيبقي للذين سيأتون من بعدكم؟". بارك جميع الفقهاء نسخ الآية وإلغاء الملكية الخاصة للأرض التي جاء بها القرآن والسنة واعتبروا _ تقليداً لعمر _ أن المالك لا يملك الرقبة أي العقار ذاته بل فقط حق استغلاله ويجوز للأمير أن ‘يصادره منه إذا رأي في ذلك مصلحة .. لكنه كان دائماً يصادره حسب أهوائه مما أعاق مراكمة رأس المال التي تتطلب الأمن.
* قلتم أن الفقهاء واصلوا بعد القرآن والصحابة نسخ أحكام الكتاب والسنة استجابة للمصلحة العامة فهل من أمثلة على ذلك؟
هنا أيضاً سأقدم أربعة أمثلة دلالة على نسخ الكتاب والسنة استجابة لداعي تقديم المصلحة العامة وحاجات الناس على النص الديني. نسخ الفقهاء بالإجماع حكم آية كتابة الدين:" وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمي فاكتبوه" محتجين بأن الأمية سائدة في الأمصار أي البلدان المفتوحة واشتراط كتابة عقد الدين يلحق ضرراً بمعاملات الناس . أيضاً باسم مصلحة وحاجات آل البيت نسخ الفقيه المغربي المالكي أبو العباس أحمد الونشريسي في فتاواه"المعيار المغرب في فتاوى إفريقية ةالمغرب" الحديث النبوي الذي يحرم على آل البيت، حفظاً لكرامتهم، استحقاق الزكاة. لماذا؟ لأن المستجدات التاريخية أرغمت آل البيت في القرن التاسع الهجري على التسول في الطرقات والمنطق يقتضي أن تكون الزكاة احفظ لكرامتهم من التسول . وهكذا نسخ الفقيه المالكي الونشريسي حكم الحديث معللاً ذلك تعليلاً عقلانياً بامتياز:"الوقت قاض بجواز إعطاء / آل الرسول من مال الزكاة قسطاً". بالمثل رأي الشيخ التونسي المالكي الأشعري الطاهر الحداد في القرن الرابع عشر الهجري أن"الوقت قاض" بوجوب نسخ رخصة تعدد الزوجات ونسخ حكم آية التمييز بين الذكر والإنثي في الميراث فسوي بينهما في كتابه"امرأتنا في الشريعة والمجتمع"(1930) المؤسس للمساواة بين الجنسين قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بـ 18 عاماً وقبل إعطاء الجنرال ديغول المرأة الفرنسية حق التصويت بـ 14 سنة . وفضلاً عن ذلك فكتاب الحداد أعاد تأسيس القراءة التاريخية للنص بعد أن أَهَالَ عليها فقهاء التزمت التراب. في ما يخصني أعتبر هذا الكتاب، بعد كتابات الحنبلي الفذ نجم الدين الطوفي، تغييراً نوعياً للثقافة الفقهية الإسلامية ومنهجها، مازال الباحثون في الفقه والفكر الديني والعلوم الإنسانية لم يستوعبوه بعد. أدرك الحداد عبثية حصر الاجتهاد في ما ليس فيه نص قطعي الدلالة كما قال فقهاء القرون الوسطي، الذين تشربوا عبادة الأسلاف أي حكموا نصوصهم، المحدودة بواقع زمانها ومكانها، بالواقع المتغير أبداً في كل زمان ومكان، هذا الاجتهاد هو حكم بالإعدام على عقول المسلمين وتحويلهم إلى محض كائنات آلية تجتر أقوال الأسلاف بعينين مغمضتين. وهكذا أدخل الحداد الاجتهاد إلى ما فيه نص قطعي الدلالة كما فعل القرآن بالناسخ والمنسوخ وكما فعل الصحابة بعد انقطاع الوحي بالقراءة التاريخية للنص وكما فعل من بعدهم فقهاء بعيدو النظر مثل نجم الدين الطوفي والونشريسي .
• لماذا لم تنتشر فلسفة الحداد الإسلامية في الوطن العربي؟
انتشرت في تونس فـ"مجلة" (مدونة) الأحوال الشخصية مستلهمة من كتابه.الشيخ الزيتوني المالكي الأشعري محمد الصالح العياري، رئيس محكمة النقض والإبرام، استلهم القراءة التاريخية للنص عندما أفتي في السبعينات بنسخ حكم آية تحريم التبني كما نسخ أبو بكر آية المؤلفة قلوبهم وعمر وعلى ومعاذ آية الفيء والفقهاء آية كتابة عقد الدين والونشريسي حديث تحريم الزكاة على آل البيت والطاهر الحداد نسخ آية رخصة تعدد الزوجات وحكم آية التمييز في الميراث. والجدير بالذكر أن معاوية، كاتب الوحي، سبقه إلى نسخ حكم آية تحريم التبني عندما إستلحق بنسبه اللقيط زياد ابن أبيه وباركت أم المؤمنين عائشة نسخه للآية عندما كتبت إلى زياد كتاباً تعترف فيه باستلحاقه:"إلى زياد ابن أبي سفيان"..
أما في الفضاء العربي الإسلامي فيعود عدم انتشار إعادة تأسيس القراءة التاريخية للنص إلى إرتداد الوعي الإسلامي بعد صدمة إلغاء الخلافة إلى السلفية التي ظلت في الواقع سائدة منذ ابن تيمية ثم امتدادها اللاحق، الوهابية. السلفية مغلقة. فقد كفرت العقل ممثلاً في المنطق والفلسفة. ولم تلتزم بالنص فقط بل التزمت فضلاً عن ذلك بظاهر النص رافضة التأويل الذي دعا النبي الله في حديث البخاري أن يعلمه ابن عباس. عند السلفية"التأويل يورث التضليل". هذه السلفية النصية الظاهرية والمكفرة للتأويل هي التي تبنتها الأصولية المعاصرة بغلق الباب أمام كل قراءة عقلانية للنص الديني وتركه مفتوحاً لفقهاء الإرهاب وحدهم لقراءته قراءة دموية أسماها حسن الترابي "فقه الضرورة". يقول الغنوشي :"السلفية هي اتجاه داخل المدرسة السنية. هذا المنزع أو الاتجاه [قائم] منذ ابن تيمية وقد تدعم بالعمل الإحيائي الذي قام به محمد بن عبد الوهاب ورجال الإصلاح من بعده الذين ساروا على نفس المنهج الذي خلاصته التأكيد على أولوية النص على ما عداه من المصادر الأخرى والتأكيد في النص على الظاهرة بدل التأويل. فالمنهج الأصولي "لحركة الاتجاه الإسلامي"[النهضة حالياً] متأثر بهذا المنزع الإصلاحي العام الذي يؤكد على أهمية النص وعلى منع التلاعب به أو التحكم فيه من خلال التأويل العقلي الذي لا يؤمن أن يكون متأثراً بضغط الغرب أو ما يسمي بـ"الحداثة" أو"الحداثة المتغربة" على عقل المسلم، لاسيما في بيئة مثل البيئة التونسية حيث للتغريب أسس وتراث"( راشد الغنوشي، الفصلية"الإنسان" ص 131، باريس فبراير 1994) تسأل محاورة الغنوشي سوسن الصدفي هذا الأخير :"هل نفهم من هذا أن الحركة كانت راضية عن هذا المخزون الثقافي(..) دون أن تنظر بجد في ما أثاره بعض المفكرين الإسلاميين (..) من أمثال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والأستاذ علال الفاسي ومن قبل الإمام الشاطبي؟" يرد الغنوشي:" كان هناك قصد من وراء هذا العمل، فهو لم يولد من فراغ ولا هو ترف فكري إنما كان حاجة مطلوبة للحركة الإسلامية في تونس[نظراً] لوجود منازع فكرية متعددة بلغت من التاقض حداً بعيداً انعكس على التعامل مع نصوص الشريعة فقد ‘وضعت الشريعة _ خاصة ما يتعلق منها بالتنظيم الاجتماعي والاقتصادي وبقانون العقوبات _موضع تساؤل من خلال منهج أصولي ‘سمي بـ"المنهج المقاصدي" الأمر الذي أحدث في الساحة الإسلامية نوعاً من الارتباك لمدة دامت أكثر من خمس سنوات. فعندما خرجت من السجن سنة 1984 وجدت عدداً لا بأس به من الطلبة، خاصة في كلية العلوم الإنسانية، يدور النقاش بينهم حول مدي إلزامية النص ومدي إلزامية الشريعة المعبر عنها بنصوص قطعية في الدين،فهالني الأمر وأدركت أن هذا الأمر لا يمكن أن يحسم بمجرد حوارات عادية"(نفس المصدر) فوضع كعادته حداً لهذا الحوار الخصب الذي كان يمكن أن يقود شباب الحركة إلى اكتشاف القراءة التاريخية للنص. وتسأله محاورته عن موقفه إذا تناقض النص مع المصلحة العامة فيجيبها :"إذا كان المقصود بالنص هو الوحي _ وهذا هو المقصود به _ فموقف المسلم إزاء النص ليس المناقشة أي موقف الند والمحاور والمجادل، إنما يكون موقفه:"سمعنا وأطعنا" فالمطلوب تفهم مراده من أجل الخضوع له، فدور العقل اكتشاف معني النص والتعرف عليه عبر الصيغ اللغوية (..) فالأصل إجراء النصوص وليس تعطيلها" متناسياً أن موقف الصحابة كان "موقف الند والمحاور والمجادل" والناسخ للنص.
لكن سلفية الغنوسي لم تمنعه من مباركة تعطيل الخميني للنص. يواصل قائلاً:"الخميني رحمه الله عطل شعيرة من شعائر للإسلام، عطل الحج بسلطته كرئيس دولة فلم يحج الإيرانيون لثلاث سنوات بفتوى دينية ترى بأن ظروف الحج غير متوفرة. أما نحن فلم نكن لنقبل مثل هذه الفتوى أن تصدر عن بورقيبة مثلاً، لأنه لا ينطلق من موقع العزة الإسلامية ولا من موقع العلم الإسلامي وإنما من موقع التذيّل لأعداء الإسلام. فنحن نرفض ما يصدر منه دينياً لأنه ليس مؤهلاً لأن ‘يفتى في الدين حتى وإن نطق صدقاً، فهو متهم في كل ما يصدر عنه"(نفس المصدر ص 33).
لاحظوا"حتى ولو نطق صدقاً". كتعبير عن العناد العصابي وسؤ النية الشائع بين زعماء الأصولية. الخميني الدموي الذي قتل أكثر من مئة ألف معارض دون محاكمة قائلاً:"هم مذنبون ولا حاجة لإضاعة الوقت في محاكمتهم" "ينطلق من موقع العزة الإسلامية" أما بورقيبة ..
من ملامح الشخصية النفسية لفقهاء الإرهاب تماثلهم في الجمود الذهني والتعصب وسياسة الوجهين كتعبير عن انفصام الشخصية حتى ليجوز القول حسبك أن تقرأ لواحد منهم لتقرأهم جميعاً. الغنوشي الذي أكد أن موقفه أمام النص هو"سمعنا وأطعنا" لم ‘يبح للخميني تعطيل النص وحسب بل وأيضاً أباح لنفسه نسخ جميع النصوص الدينية الآمرة بـ"كسر السيف" لعدم إثارة الفتنة النائمة. لنستمع إليه:" جملة الأحاديث الكثيرة التي تأمرنا بالإعراض عن رفع السيف في وجه حكام الجور بل تأمرنا أحياناً بكسر السيف جملة ينبغي أن لا ‘تقرأ معزولة عن الروح العامة التي تسري في الشريعة والعاملة على تنشئة أمة (..) لا تتميز بالخنوع (..) الإطار الذي تتنزل فيه النصوص المنفرة من استعمال القوة هو إطار إسلامي اعترته بعض الانحرافات (..) دون مس بهوية الكيان العقائدي السياسي للأمة (..)فالأمراء المتحدث عنهم في النصوص هم أمراؤنا (..) ولا يمكن اعتبار الحكام المفسدين [المسلمين المعاصرين] المتمردين على شريعة الرحمن واردة الشعب[الذين] هم في الحقيقة أولياء الشيطان وأذناب أعداء الإسلام(..) لا يمكن اعتبارهم أمراءنا وأولياء أمورنا وإلا لزمت طاعتهم(..)فالاستنكار [لرفع السيف] الذي تنص عليه النصوص الآنفة إنما هو لتصحيح انحراف في إطار المشروعية الإسلامية أي طالما ظلت تعاليم الإسلام محترمة (..)والأحاديث المانعة لسل السيف ضد الحكام المنحرفين الذين لم يبلغوا حد الكفر البواح أي التمرد علي الشريعة" (راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص 183، بيروت 1993).
الغنوشي الذي لا يمل من اجترار "لا اجتهاد في ما فيه نص"، عندما يكون المقصود حقوق المرأة والمواطنين غير المسلمين في المساواة في الكرامة لكن عندما يكون المطلوب ثورة إسلامية دموية كثورة إيران الخميني أو سودان الترابي أو أفغانستان المجاهدين أو طالبان، عندئذ يبيح لنفسه نسخ "جملة النصوص التي تأمرنا بالاعراض عن رفع السيف"!
* هل من المعقول أن نظل سجناء لقراءات وتفاسير محترفي الاجتهاد في العصور الوسطي أو"المجتهدين" المغرضين المعاصرين؟
نعم سنظل أسراهم ورهائنهم إلى أن ‘نحيي القراءة التاريخية للنص في التعليم والإعلام. استمرارية القراءتين الهدامتين لمقاصد الشريعة عائدة إلى استمرارية التعليم الديني السلفي والإعلام المكمل له اللذين يحملان التعصب والإرهاب كما يحمل السحاب المطر.
• ما هي المجالات التي تحتاج إلى إعادة القراءة والتأويل داخل النص الديني؟
هي كل مجالات الحياة الحديثة بكل تعقيداتها التي تطرح على الوعي الإسلامي المعاصر تحديات لا قبل له برفعها من الاقتصاد إلى الاستنساخ مروراً بالحداثة السياسية أي الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن. لكن أولوية الأولويات هي الاعتراف للمرأة ولغير المسلم بحقوق الإنسان والمواطن كما جاءت بها مواثيق حقوق الإنسان وتبني العقلانية الدينية التي لا تقبل من الدين، خاصة في كل ما يتعلق بتنظيم شؤون الدنيا، إلا ما اتفق مع العقل أي مع القيم الإنسانية ومصالح وحاجات الناس وحقائق العلم. مثلاً العقوبات البدنية الشرعية "القصاص" التي ترجمها اليهود خلال الأسر البابلي من مدونة حامورابي تتعارض مع قيم حقوق الإنسان وكذلك اللامساواة بين المسلم وغير المسلم وتعدد الزوجات والطلاق خارج المحكمة واعتبار المرأة قاصرة أبدية و"تناكحوا تناسلوا" وتحريم التعامل بالفوائد المصرفية تتعارض مع مصالح المرأة والمواطن والناس وحقوق الإنسان .وتكفير نظرية التطور والفلسفة والعلوم الإنسانية والجغرافيا والفزياء الفلكية ونظرية تكون الجنين والتاريخ لأنها مناقضة لما جاء في القرآن دعوة تجهيلية للعودة بالمسلمين إلى ما قبل العلم الحديث الذي ظهر في القرن السابع عشر. حتى الشاطبي اعترف باستحالة أن يخاطب القرآن الناس بخطاب علمي دقيق ومثله الطاهر بن عاشور في تفسيره.لكن التعصب الأصولي يريد للقرآن أن يكون موسوعة قانونية وتاريخية وطبية وفلكية فزيائية حتى يظل المسلمون وحدهم في الدرجة صفر في العلوم.
* عندما ‘طرحت قضية تجديد الفكر الديني بعد أحداث 11 سبتمبر المؤلمة، اعتبرت بعض الأقلام أن الولايات المتحدة تقف وراء هذه الدعوة. فكيف يمكن تفسير ذلك؟
عقدة الاضطهاد جعلت الأصوليين الإسلاميين لا يرون تفسيراً آخر للظواهر الاجتماعية وأحياناً الطبيعية إلا أصابع"المتآمرين اليهود الذين يحكمون العالم" فهم الذين قاموا بالثورة الفرنسية وبالثورة الروسية واستقطعوا الخلافة الإسلامية بواسطة "اليهودي" مصطفي كمال أتاتورك وهم الذين ابتدعوا جميع "بدع" الحداثة من ماسونية وشيوعية وديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الجنسية وتحديد النسل والإلحاد .. يهدف"الكيد للإسلام وأهله". وهو تخييل هاذ مستورد من أقصي اليمين الغربي الذي أسس عليه عداء السامية. أضاف الأصوليون الإسلاميون اليوم لطابور المتآمرين أمريكا والغرب بزعم أن اليهود هم الذين يصنعون القرار فيها". لا ينبغي أن ننسي عندما نتعامل مع الهذيان الأصولي أنه هذيان مستورد من الفقه العنصري والتجهيلي:وجوب مخالفة الكفار.
أمام الهذيان، العاقل يعتصم بالعقل. العقل يعلمنا أن معايير الحقيقة موضوعية وليس منها الابتزاز بالتكفير أو التخوين أو التطابق مع أمريكا أو الغرب أو اليابان أو الصين"أو أية "أمة كافرة" أنا في هذه النقطة مالكي حتى النخاع. فقد قال إمام دار الهجرة :" نحن لا نعرف الحق بالأشخاص بل نعرف الأشخاص بالحق". أي لا يهمنا من يقول الحق لأن الحق أحق بأن ‘يتبع سواء جاء من إسرائيل أو من أمريكا،من الغرب أم الشرق .. الموقف الراشد والسؤال الوحيد الجدير بالطرح هو هل ما يطالب به الغرب وأمريكا صحيح أم لا. وهو موضوعياً صحيح. سأعطي مثالين من برنامج التعليم الديني السعودي طالما أن السعودية هي المستهدفة للضغوط الغربية لإصلاح تعليمها الفاسد في"شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب" الصف الأول المتوسط يدرس التلميذ مثلاً: "الأديان التي يتبعها الناس(..) كثيرة لكن الدين الحق واحد وهو دين الإسلام أما الأديان الأخرى فهي باطلة(..) العالم كله من جن وإنس يجب عليه أن يدخل في الإسلام ويترك أديانه الباطلة"(الدرس 12 ص 33،34) أليس هذا تثقيفاً للنشء السعودي بالتعصب الديني وبضرورة الجهاد إلى قيام الساعة لإدخال الجن والإنس في الإسلام؟! وفي كتاب الحديث للصف الخامس ابتدائي يدرس الطفل:" عن أبي هريرة .. عن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم، يا عبد الله،هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود"(الحديث، الدرس الخمسون، رواه البخاري) يعلق شارح الحديث:"شجرة الغرقد شجر كبير فيه شوك واليهود يكثرون من زراعتها في فلسطين في هذا العصر"(ص 122) وهي كذبة بحجم جبل أحد. أليس هذا الحديث غسلاً لأدمغة الأطفال بالحقد على اليهود وحشواً لرؤوسهم باللاعقلاني الهاذي من نطق الحجر والشجر وقيام الساعة؟ ألا يستحق هذا التعليم الإصلاح؟ أمراء السعودية الذين أفقدهم الفساد الأسطوري كل شرعية وكل شجاعة سياسية لم يغيروا هذا التعليم الإرهابي الذي يجنون الآن ثماره المرة تفجيرات عمياء في الرياض وجدة تعاموا عن حقيقة سياسية معاصرة:كل مشكل قومي إذا لم يحل في الوقت المناسب يتحول إلى مشكل دولي.
النخبة التونسية أصلحت تعليمها العام والديني سنة 1990 دون أن يطالبها الغرب أو الشرق بذلك وإنما استجابة لحاجة داخلة ماسة: تجفيف ينابيع الإرهاب الديني الذي كانت البترودولار السعودية تموله وحماية لمشروعها الحداثي. بعد عقد سيكون قد مضي جيل (25سنة) على إصلاح التعليم الديني وسيساعد ذلك تونس على الاندماج في الحضارة الكونية بمؤسساتها وعلومها وقيمها بدون ‘عقد أو شعور بالذنب أو معارضة ماضوية قوية لأن الوعي الإسلامي التونسي سيكون بفضل جيل إصلاح التعليم الديني قد تصالح مع وعي عصره.مصالحة الوعي الإسلامي مع الوعي الكوني لعصرنا هي ما ينبغي أن يكون الهدف الأول والأسمى لكل إصلاح للتعليم والإعلام الدينيين.
تحدي إصلاح التعليم مازال مطروحاً على النخب الخائفة من الأصوليين المستأسدين القادرين على استنفار الشارع بصيحة "الإسلام في خطر". الاتجاه الحامل للمشروع الحداثي مقصر في صراعه الفكري مع الأصولية لأنها هي التي تمثل بمشروعها الديني العتيق والظلامي خطراً فعلياً على الإسلام. وهذا ما برهنت عنه التجارب الأصولية الثلاث الإيرانية والسودانية والأفغانية. إيران الأصولية شجعت الإيرانيين على ترك المساجد خاوية. 75 % من الشعب و86 % من الطلبة تركوا الصلاة. في بريطانيا تبيع الكنيسة 800 كنيسة كل سنة لتتحول إلى محلات تجارية وقد تكون الجمهورية الإسلامية أول دولة مسلمة تبيع المساجد المهجورة .. فهل بعد هذا الإفلاس إفلاس؟ أعترف بأنني أخطأت عندما ظننت سنة 1979 أن انتصار الأصولية في إيران كان تدشيناً للعودة بالعالم الإسلامي إلى القرون الوسطي والحال أني لو كنت منطقياً مع نفسي بما فيه الكفاية لاعتبرتها خطوة حاسمة لتجاوز الإسلام التقليدي والأصولي للانتقال إلى الحداثة تطبيقاً لمبدأ فلسفة التاريخ الهيجلية "التجاوز شرط التحقيق". في حقبة الحداثة المعولمة لا مستقبل للأصولية خاصة إذا أتيح لها أن تحكم العالم الإسلامي بضع سنوات ستكون كافية لتخليص الوعي الإسلامي التقليدي من أساطيره الماضوية مثل عودة المهدي والهوس بالعودة إلى العصر الذهبي للإسلام "الخلافة الراشدة" وأسطورة الأساطير"الإسلام هو الحل"الذي هو شعار الإخوان المسلمين المركزي المستورد من شعارات محاكم التفتيش:"لا خلاص خارج الكنيسة" ..
• هل معني ذلك أن الأصولية لم تعد تشكل في نظركم خطراً على المجتمعات العربية؟
تشكل خطراً عندما تكون مجرد جماعات ضغط (لوبيات) تخيف النخب الفاقدة للشرعية والشجاعة السياسية فتردعها عن إصلاح التعليم والإعلام والقانون والدستور، فتدفعها إلى تطبيق الأصولية من دون أصوليين. إستيلاء الأصوليين على السلطة هو مقتل مشروعهم وفي وقت قياسي في قصره. ديناميك الحداثة جارف وهو قادر على هضم أصوليات العالم واجهاض مشروعها.تشكل الأصولية أيضاً خطراً عندما تستجيب النخب لابتزازها بأن أمريكا تملي عليها إصلاح التعليم إلخ، الفرضية التالية تبرهن على تهافت هذا الابتزاز. لنفرض أن شارون طلب من أخصائي دولته في شتي المجتمعات العربية أن يزودوه بقائمة بجميع الأولويات الموضوعية المطروحة على هذه المجتمعات من إصلاح التعليم إلى نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني مروراً بمكافحة الفقر والتهميش والبطالة وتدمير البيئة والتصحر وانخفاض إنتاجية القطاعين الزراعي والصناعي والأمية وضرورة الانتقال التدريجي إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان .. ثم طالبنا بتحقيقها في أفضل الآجال الممكنة .. طبقاً لمنطق الابتزاز الأصولي سوف ‘نعقد قمة طارئة تطلب من عمرو موسى أن يرد على شارون قائلاً: كلا أيها الماكر لن نحقق مكيدة واحدة من مكائدك الصهيونية بل سنحقق عكسها ونقيضها "لأن مخافة أمة اليهود والنصارى من أصول ديننا" كما قال شيخنا راشد الغنوشي. والسيناريو ليس سوريالي. ألم يصرخ الغنوشي :"لن نقبل أن تصدر هذه الفتوى عن بورقيبه (..) حتى ولو نطق صدقاً". لماذا؟ ابحث عن التعصب الذي يعرف الحق بالأشخاص ولا يعرف الأشخاص بالحق عكس الإمام مالك وابحث عن الدرجة صفر في الموضوعية وفي السياسة وفي الدين وابحث أخيراً عن العناد العصابي الذي يفعل بضحيته ما يفعله العدو بعدوه ..معزي ولو طارت ..كاذب ولو نطق صدقاً..!
* بمناسبة مؤتمر القاهرة الثقافي في يوليو الماضي الذي أسال حبراً كثيراً هاجمتكم الصحافة الأصولية متهمة لكم بالدعوة إلى إعادة كتابة القرآن إرضاءً لمطالب أمريكا فما تعليقكم؟
قد يقول عني تاريخ الأفكار أني من القلة من معاصريّ الذين لا يخشون النقد لأن نرجسيتي ككاتب هي في الدرجة صفر. منذ مطلع الشباب قرأت سيرة غاندي بقلمه وما علق منها بالذاكرة هو"أمام الحقيقة كن تراباً". لكن الأصولية لم تهاجمني إلا بالأكاذيب كتب رفيق بوشلاكه صهر الغنوشي رداً على مقالي في الحياة"تجفيف ينابيع الأصولية شرط لتحديث التعليم"(1/11/1997) لم ينقد فكرة واحدة فيه بل قذفني وبالأكاذيب التي وصلت إلى إدعاء كوني "منظر للأجهزة الأمنية واستحققت على ذلك الأوسمة والنياشين" وزع أصدقائي في مقهي باريس بتونس العاصمة المقال على المثقفين الذي فاز لديهم بجائزة :"أكذب مقال لهذه السنة". لم أكن قد سمعت من قبل بالجهاز الأمني الذي سماه فكتبت إليه فوراً طالباً التوسط لدي الأجهزة الفرنسية لحمايتي من إمكانية اغتيال إرهابي "النهضة" لي.
أيضاً في يوليو الماضي لم تناقش الصحافة الأصولية فكرة واحدة من الأفكار التي عرضتها في مداخلتي التي ‘نشرت في 12 موقع انترنت وتسع صحف بينها"الأحداث المغربية" بعنوان:"من أجل تعليم ديني تنويري" بالمثل كتبت الأسبوعية المصرية "الأسبوع":"العفيف الأخضر المفكر التونسي سابقاً والمفكر الفرنسي حالياً" والرسالة: من يغير جنسيته يغير هويته الدينية والحال أني إلى الآن مجرد مقيم في فرنسا ولم أفكر جدياً في تقديم طلب الجنسية إلا بعد قراءة هذا المقال وقد قدمته منذ بضعة أسابيع .. عجز الأصولية عن النقد الموضوعي يعبر عن عجزهم عن التفكير الذي يعوضونه بالتكفير والتخوين. حملة الأكاذيب الأصولية لم تقتصر علىّ بل طالت أيضاً زملائي في المؤتمر جمال البنا وأدونيس وعبد المعطي حجازي وحسن حنفي وحيدر إبراهيم .. جميعنا متهمون في محكمة التفتيش الأصولية بالدعوة إلى "إعادة كتابة القرآن" والحال أني طالبت في مداخلتي باعتبار آيات الجهاد ودونية المرأة تاريخية أي خاصة بزمن تأسيس الدعوة وقد سبق لرشيد رضا أن اعتبر آيات السيف خاصة بيهود ونصارى ومشركي عصر النبوة وأيده في ذلك فهمي هويدي واعتبر الصديق جمال البنا _ شقيق حسن البنا _ الجهاد مقتصراً على زمن النبي. أما الفتوح العربية بعده فهي فتوح إمبراطورية مثل جميع فتوح عصرها."علماء الأزهر" كانوا أقرب إلى الموضوعية عندما شكلوا لجنة للرد على مقترحاتي بإصلاح التعليم والإعلام الدينيين ومطالبتي وزملائي بتجديد الخطاب الديني الإسلامي الوحيد الذي مازال عتيقاً وفي خصام مع مؤسسات وعلوم وقيم عصره التي تصالحت معها جل وربما كل الخطابات الدينية الأخرى. الرد على خطاب بخطاب وكتاب بكتاب هو النقاش المتعارض الذي نحن في أشد الحاجة إليه في شؤون الدين والدنيا عسي أن نساعد بذلك أنفسنا على الخروج سالمين من أزمة الحداثة العاصفة التي نخوض غمارها.لكن الأصوليين عاجزون عن النقاش البرهاني سلاحهم الوحيد هو التكفير بـ"عدم مخالفة أمة اليهود والنصاري"
• أنتم طالبتم منذ 1956 بغلق الجامعة الزيتونية لأن تعليمها الديني كان في نظركم متخلفاً ..؟
نعم كنت منذ بواكير الشباب إلى خواتيم الشيخوخة أطالب بتحديث التعليم الديني لأنه يشكل العائق الأكبر الذي يحول دون تحديث الوعي الإسلامي العتيق المعادي للمرأة وغير المسلم والعقل والحداثة. تعليم الزيتونة الديني كان متخلفاً ولكن لم يكن إرهابياً. أما التعليم الديني المعاصر فهو متخلف وإرهابي معاً:معادي للذات وللأخر، شر علينا وعلى البشرية التي من حقها أن تطالبنا بتغييره لأنها مستهدفة منه.إنها في حالة دفاع شرعي عن الذات.
مرة أخرى سيقول تاريخ الأفكار عني أنني أن الذي نبهت أمريكا والغرب والعالم إلى ضرورة مساعدتنا على تغيير تعليمنا الديني الذي غدا على الأقل منذ 11/ 9 خطراً علينا وعليهم سواء بسواء. سأقتصر على الإشارة إلى نقدي لهذا التعليم منذ التسعينات. مثلاً سنة 1993 كتبت أن أحد مصادر الشعبوية الأصولية هو :"انحطاط التعليم، فبرنامج التعليم يستل إستلالاً من رأس المتعلم كل نفس نقدي وكل قدرة على التفكير بنفسه ويزرعه بالأساطير (..) سسيولولجيا الأديان وتاريخ الأديان المقارن غائبان أو يكادان فالدين يفسر للناشئة بالدين لا بالتاريخ لصياغة مخيلة أصولية ماضوية مؤثثة بعبادة الأسلاف وفانتزمات استعادة ماضيهم"("قضايا فكرية" القاهرة، اكتوبر 1993) وفي 1997 كتبت مقالاً بعنوان:" تجفيف ينابيع الأصولية شرط لتحديث التعليم":
"مسائل ثلاث لها الأولوية على جميع الأولويات في البلدان العربية والإسلامية: تحديث الاقتصاد، تحديث شرط المرأة وتحديث التعليم(..) في تونس جففت التربية الإسلامية الجديدة الينابيع المدرسية التي كانت الأصولية تتصيد فيها ضحاياها (..) ممن جعلتهم ميولهم السادية _ المازوخية مهووسين بتنظيمات كاميكازية كتبت على راياتها شعار الفاشية الأسبانية: يحيا الموت (..) اكتمل تجفيف الينابيع التقليدية والأصولية بتحديث وترشيد َنوعيْين حقاً للتعليم الديني في الجامعة الزيتونية وكلية الشريعة (..)فبات الطالب الزيتوني يدرس علوم الحداثة: السوسيولوجيا ، علم النفس، سسيولوجيا الأديان، تاريخ الأديان المقارن، اللغات الأجنبية (..)أي الأدوات المعرفية الحديثة التي تساعده على فهم تاريخ الديانات التوحيدية". (الحياة 1/11/1997) في هذا التاريخ كانت المخابرات السعودية والباكستانية والأمريكية قد نجحت في تنصيب طالبان حكاماً في أفغانستان ..
منذ ذلك التاريخ وأنا لا أدع فرصة تمر دون المطالبة بتغيير التعليم الديني. قبل مأساة 11/9) بثمانية شهور نشرت مداخلتي في "النادي الثقافي اللبناني بباريس":" الأصوليون جلادون وضحايا (..)ضحايا لأنهم تلقوا تعليماً دينياً قديماً وعقيماً لم ‘يخصب بعلوم الحداثة (..) مثل هذا التعليم غرس أو رعي في وعيهم كراهية الحياة والأحياء وبالتالي الانغلاق عن العصر وتكفيره وهم أيضاً ضحية إعلام ديني لا يقل عن التعليم إياه في تخويف مستهلكيه من معانقة الحياة الحديثة بوعدها ووعيدها" ("الملاحظ" 24/1/2001 تونس) فمن أملي علىّ هذه المواقف غير عقلي؟ غداة مأساة 11/9 كتبت :"في العمق الإرهابيون جلادون وضحايا (..) ضجايا لأنهم هم أنفسهم منتوج أخطاء وخطايا صناع القرار القومي والدولي المصابين بقصر نظر مخيف في شتي الميادين لنأخذ التعليم مثلاً لا حصراً ..الإرهابيون تشربوا منذ نعومة أظفارهم تعليماً قرووسطياً يشوه وعيهم ومفهومهم للعالم وللأخر ولمعني وقيمة الحياة إذا كان إسلاميو السودان استرقوا أطفال الإحيائيين والمسيحيين فلأنهم مازالوا يدرسون أحكام الرق بعد إلغاءه بقرنين وإذا كان الطالبان ينكلون بشعبهم وشعوب العالم فلأنهم تعلموا في مدارس باكستان التي يشرف عليها الإسلاميون أن العالم ينقسم إلي دار الإسلام ودار الحرب المستباحة وإذا كان إسلاميو باكستان قادرين على تعبئة الألوف للتظاهر دفاعاً عن ابن لادن وطالبان فلأنهم درسوا أن الجهاد ضد الكافر فرض عين إذا ‘هوجمت دار الإسلام سواء كانت ظالمة أم مظلومة .." (الحياة: 23/9/2001) أي بعد 12 يوما فقط من الفاجعة. وقد ترجمت المقال الأسبوعية الفرنسية"البريد الدولي" وبعد بضعة أسابيع وجهت في "الحياة" رسالة مفتوحة إلى طوني بلير حرضته فيها على التدخل لمساعدتنا على تحديث التعليم والتعليم الديني ..فمن الذي أملىّ على الآخر؟ أنا أم أمريكا والغرب ضرورة تغيير التعليم؟ أدع للقارئ ومؤرخي الأفكار مسئولية الحكم.
الآن أيضاً اعتبر عدم تغيير الدول العربية وفي مقدمتها السعودية لتعليمها الديني سبباً موجبا للحرب لأنه تعليم جهادي وإرهابي، عندما تعجز النخب السائدة عن تحديث مجتمعاتها فلماذا لا تطالب هذه المجتمعات العالم بالتدخل لتحديثها وهو ما يطالب به اليوم المجتمع الإيراني بشجاعة تثير العجب والإعجاب.والبقية تأتي ..
أجري الحديث / وريغ لحسن