|
تلاقح الأجناس الأدبية في رواية - حبل السُرّة - لسميرة المانع
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2216 - 2008 / 3 / 10 - 09:09
المحور:
الادب والفن
يلعب الاستهلال دوراً مهماً في تحديد ملامح النص الروائي، ورسم أبعاده الفنية والفكرية. ومَنْ يقرأ رواية " حبل السُرّة " لسميرة المانع سيكتشف من دون عناءٍ كبير أن هذا النص الروائي قائم على ثنائية الجلاد والضحية، والقامع والمقموع، أو المُطارِد والمُطارَد، وما الى ذلك ثنائيات معروفة في العراق على وجه التحديد، والعالم العربي بصورة عامة. فالشخص القادم من بغداد، ليس جلاداً حسب، وإنما هو شرطي سرّي، ومُطارِد، وكاتب تقارير على جيرانه، وربما على أهله وذويه. هذه الشخصية المنحرفة أخلاقياً والمضطربة ذهنياً هي التي جاءت من بغداد الى لندن، على الرغم من أورامها السرطانية وصديدها الفكري، لتتجسس على عراقي نجا بجِلده، خشية أن يكون مُنتظِماً في " صفوف المعارضة العراقية " المناوِئة للنظام الدكتاتوري السابق. أي أن الشك يحتّل مكان الصدارة في بنية هذه الرواية. فلا غرابة أن تتوجس " مديحة " خيفة من الطارئين أو المتطفلين الذين يستفسرون عن كل صغيرة وكبيرة. فهاجس الخوف ظل مهيمناً على الشخصية العراقية سواء الهاربة من جحيم الأنظمة الفاشية، أو التي تحتل منصباً وظيفياً كبيراً في الدولة مثل البرلماني الذي لا تتجاوز شخصيته حدود " الدمية المتحركة " وطبيعة أدائها المدوزن من قبل رأس السلطة. لم يفق هذا الرقيب حتى عندما نبّهته المترجمة الى ضرورة إيقاف تحرياته خصوصاً بعد أن تناولا مع أهل " الضحية " الزاد والملح. يبدو أن الروائية قد انتقمت " لا شعوريا " من هذا الشرطي الجلاد الذي فارق الحياة في الصفحة الثالثة من النص الروائي، وكأن لسان حالها يقول بأن عُمْر الجلادين قصير، وأن مصيرهم واضح لا يكتنفه أي غموض. وإستكمالاً لعنصر التشويق وتواتره في النص فإن الروائية تفاجئنا في الفصل الثاني " فقط " بأن ما تسرده بصوت الراوي العليم هو محض قصة قصيرة لا غير، لكنها تنطوي على دلالات عميقة تغني النص كثيراً، خصوصاً وأن الشخص الإيطالي في القصة يتحدث عن أشياء مشتركة من بينها الخسارة في الحرب، والهجرة الجماعية الى أمريكا وأوروبا الغربية، وتناول المشروبات الروحية من أجل نسيان الهموم، وتأثير الأنهر الصافية على المأزومين الذين يستعيدون بعض توازنهم إذا ما أطالوا النظر إليها، و " كأنّ حركة النهر تزيح الحقد والكراهية عن القلوب ". عبر تداعيات هذه القصة القصيرة المعبِّرة تتيح سميرة المانع المجال لشخصية أساسية أخرى لكي تأخذ مكانها الطبيعي في النص الروائي وهي " عفاف " طليقة " جلال " الذي سيلعب هو الآخر دوراً مهماً في أحداث الرواية، ويكشف عن حقبة زمنية خطيرة في حياة العراقيين في الداخل والخارج. ومن خلال هذه القصة أيضاً نعرف أن عفافاً تحب شخصاً مدمناً على الكحول، وكانت تتمنى لو أن القاصة مديحة قد قلصت من المساحة الشاسعة التي هيمن عليها الإيطالي في النص، وتعاطفت بعض الشيء مع المخمور، ولم تقدِّم المرأة كشخصية جبانة ومذعورة من كل شيء. قد لا أغالي إذا قلت إن الروائية سميرة المانع تسيطر بإحكامٍ شديد على حركة النص، فكل شيء فيه مُبرر، الأمر الذي منح النص تدفقاً سلساً، وحركة إنسيابية رشيقة لا أثر فيها للمصدّات والعوائق المزعجة. فحينما تتحدث عن طلاق شاكر الملحس من زوجته الروسية تذكِّرنا بالقرار رقم " 196 " الصادر عام 1968 من قبل الحكومة العراقية آنذاك، والذي يُحْرَم بموجبه أي عراقي من حق التوظيف في الدوائر الرسمية وشبه الرسمية إذا كان متزوجاً من أجنبية! كما أن الروائية تغتنم هذه الفرصة للحديث عن جانب مهم من جوانب شخصية " شاكر " الإستعراضية المتطوّسة التي يتحدث فيها عن نجاحات أولاده وكأنهم يجترحون معجزاتٍ كبيرة، ويأتون بالمستحيل. لم تنتظر المانع طويلاً لكي تكشف عن فكرة الرواية الأساسية، على الرغم من تعدد الأفكار الجانبية التي تحلِّق في مدارات النص وفضاءاته المتعددة. ففي الفصل الثالث تعترف المانع بأن العراقيين مهما تبعثروا وتغرّبوا وتشرّدوا فإنهم يظلون مشدودين بـ " حبل السرّة " الى العراق، هذا البلد الذي ترتفع فيه نسبة الممنوعات الى الدرجة التي تغطي فيها مساحة مئات الكيلومترات المحرّمة التي لا يستطع المواطن العادي أن يقترب منها أو يطأها بقدميه. ثمة مشهدٍ موجِع في هذا الفصل يثير المشاعر الداخلية ويحرّك الوجدان، ألا وهو مشهد الحمامة الجريحة التي رماها أحدهم بعلبة كوكا كولا فارغة فشجَّ عينها اليمنى وتركها تدور في دوامة لا نهائية وسط آلامٍ فظيعة. تستثمر المانع بذكاء حركة الشخصيات في النص الروائي كي تبرر الثيمات المتعددة التي تعالجها في مدوّنتها السردية. فمجيء خال عفاف الى لندن هي فرصة مناسبة للحديث عن معاناة الشعب العراقي في ظل الحرب العراقية- الإيرانية وما يتخللها من مآسٍ وفواجعَ كثيرة بحيث يصبح تحويل مبلغ بسيط من المال تلاعباً بالإقتصاد العراقي أو تدميراً له. تتوالد الأحداث بعضها من بعض. فالخاتم اللازوردي يحيل الى الأذهان قصة زوج أخت عفاف الذي رُحِّل الى إيران بحجة تبعيته الإيرانية ومات بسرطان الدم بسبب الحسرة والكمد. تقنية الإستعادة الذهنية تحاول المانع الإفادة كثيراً من الزمن الدائري خصوصاً حينما تستعمل تقنية الإستعادة الذهنية حيث تنتقل بعفوية وسلاسة الى أكثر من حقبة زمنية في آنٍ معاً. فبواسطة خال عفاف تعود بذاكرتنا الى حقبة الحرب العالمية الأولى وإنهيار الدولة العثمانية كقوة متجبِّرة وهيمنة المملكة المتحدة على مساحاتٍ شاسعةً من العالم. كما أن الروائية لا تني تذكرنا بالعهد الملكي، وتنحي باللائمة على نوري السعيد وسياساته القمعية وكأنها تريد القول بأن كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق كانت ظالمة ومستبدة طالما أنها تفتقر الى الأجواء الديمقراطية الحقيقية. وعلى الرغم من تصفية النظام الملكي بطريقة فظة ووحشية إلا أن نبرة الكاتبة قد خفت بعض الشيء، وبدأت تتماهى مع الخطاب السياسي الجديد الذي فرضه الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بما تنطوي عليه من تحديات خطيرة لعل أبرزها قانون الأحوال الشخصية ومساواته لميراث المرأة مع الرجل، ورضوخه للعبة صراع الديكة التي حرضه عليها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. في هذه الحقبة الزمنية على وجه التحديد تعلقت أهداب المثقفين العراقيين بموسكو، وظنوا أن الطريق الى الإشتراكية، والعدالة الإجتماعية، وتكافؤ الفرص لا بد أن يمر بتلك المدينة الحمراء، غير أن هذا " اليقين الثابت " لم يكن أكثرَ من برقٍ خُلَّب سرعان ما أيقظ الحالمين مُبدداً إياهم في المنافي العربية الموجعة، غير أن بعضهم حمل عصا ترحاله ويمّم وجهه شطر أعدائه وخصومه الفكريين. وتأكيداً لتقنية الإستعادة الذهنية التي تتبناها سميرة المانع فإن بعض الشخصيات تظهر وتخفي ثم تعاود الظهور مرة أخرى لكي تتيح للقارئ أن يلتقط أنفاسه أولاً، وأن يتخلص من الرتابة السردية ذات الإيقاع الواحد. فطلال الخفاف الذي ظهر في الفصل الأول، وكان مَثاراً للشك والريبة، يطل من جديد في منتصف الرواية تماماً ليسجل حضوراً آسراً لن ينساه ضيوف مديحة الذين إعتادت أن تدعوهم مرة واحدة في كل عام. وعلى الرغم من ياقته المهترئة التي كانت دليلاً على براءته من التجسس لمصلحة النظام القمعي، إلا أن الشخصية العراقية جُبلت على الخوف من الآخرين بعد أن نجح النظام الدكتاتوري في نسف مجموعة القيم الأخلاقية التي كانت سائدة في العراق بحيث بات الأب يخشى من زوجه وبنيه، ولعل حادثة تقليد أب عراقي بوسام الرافدين لأنه قتل إبنه الهارب من الخدمة العسكرية هي أنموذج غريب لما حلَّ بالشخصية العراقية التي فقدت توازنها بسبب الأوضاع النفسية والإجتماعية الشاذة التي خلقها النظام الدكتاتوري الساقط. وربما يحيلنا حوار طلال الخفاف مع مديحة في الفصل الأول الى طبيعة الجُمل الإعتراضية التي تذكرِّنا بالأجواء المسرحية الشكسبيرية التي تتألق فيها " الحوارات الجانبية التي يُفترض ألا يسمعها الممثلون الآخرون على خشبة المسرح " وهي تكشف مدى الخشية التي كانت تعانيها مديحة من شخصيات مألوفة لها في الأقل، ولم تشفع لها حتى الياقة المهترئة التي تشي بالبراءة المُسبقة من تُهمة التجسس التي شاعت خلال العقود الثلاثة المنصرمة. ثمة معلومات تاريخية كثيرة مبثوثة في سياق النص غير أنها ليست معلومات قارّة جامدة، وإنما مرّرتها الكاتبة في مصفاتها الروائية، وأخذت منها الخُلاصة فقط. مَنْ يقرأ الفصل الثامن الذي ورد تحت عنوان " الخليج " مجرداً من المُضاف إليه سواء أكان عربياً كما كان يريده الدكتاتور العراقي، أو فارسياً كما كان يتمناه الدكتاتور الإيراني. فثمة إعجاب وإنخطاف بالتاريخ السومري القديم الذي بُني فيه أول قارب قصب مخرَ فيه السومريون عباب البحر القُلّب، ثم جاء البحار النرويجي هيردال لكي يعيد بناء ذلك القارب، ويبحر فيه أربعة آلاف ميل، ثم يحرقه في عرض المحيط إحتجاجاً على صراعات الديكة الجُدد في أقدس منطقة جغرافية في العالم قيل إن إسمها " إستراحة جنة عدن " وعلى مقربة منها " مسكن آدم وحوّاء " وفي أسطورة أخرى تقول إن النبي إبراهيم " ع " قد صلّى في الموقع ذاته، أو كما يقول الكتاب المقدس بأن النبي إبراهيم قد وُلِد في مدينة أور التي لا تبعد عن هذا المكان الأسطوري سوى بضعة أميال. لا تترك سميرة المانع روايتها عفو الخاطر، فثمة حبكة تتخلل سياق النص السردي، وتلملم أطرافه، وتضبط إيقاعه. فـ" رحلة دجلة " الكتاب المخططة حواشيه بالذهب لم تكن إستعراضاً لأدب الرحلات، وإنما هي صياغة فنية لقصة قصيرة أخرى تضمنت رحلة القارب السومري الجديد الذي وصل الى المنطقة المشتعلة عند مشارف أثيوبيا والصومال، وقد كتبتها عند شجرة الدردار الوحيدة، بعيداً عن الثمِل الذي يوزع شتائمه على الآخرين، وفي منأى عن الشخص الإيطالي الذي يقترح إجازة طويلة للسياسيين والرؤساء بهدف الراحة والإستجمام علّهم يستعيدون عاطفة الرحمة المفقودة، ويكفوا عن إثارة الحروب العبثية. البطولة الجماعية تمضي سميرة المانع في رصد الشخصيات الرئيسة التي أناطتها بمهمة البطولة الجماعية في هذا النص الروائي بحيث يتعرّف القاريء من كثب الى جلال الشخصية السياسية المثقفة التي تُحسن صناعة الكلام، وتفشل في إدارة علاقة أسرية متواضعة، والى عفاف المرأة العراقية التي خرجت من شرنقة الأسر الإجتماعي لتجد نفسها ندّاً للرجل الشرقي الذي فقد الكثير من مميزاته الإجتماعية الزائفة التي منحتها إياه منظومة القيم العشائرية التي أنجبتها عصور التخلف والظلام. فلا غرابة أن تهزم زوجها المفوّه جلال وتتشبث بموقفها الى نهاية المطاف. يمكن إختصار الفصل العاشر من الرواية بأن رئيس التحرير منير أبو سيفين الذي رفض نشر قصة " الرجل ذو الساعات " لكونان دويل والتي ترْجَمتها مديحة السقاف الى العربية بسبب وجود بعض الكلمات مثل الخمرة والعاهرة والقمار، ثم نكتشف مُصادفة عن طريق سمية عبد الصمد، صديقة مديحة، بأن رئيس التحرير مقامر من الدرجة الأولى، ويُفترض بالمقامر أن يكون مولعاً بالخمرة والمومسات، ومنقطعاً الى ممارسة العهر الذهني. لم تكتفِ سميرة المانع بالثيمات العراقية التي عالجتها الرواية، وقاربتْها الكاتبة من منظور إنساني شامل، بل ذهبت أبعد من ذلك حينما تطرقت الى موضوعات عربية وإقليمية وعالمية بدءاً بالحرب العالمية الأولى ونتائجها المروّعة التي غيّرت خريطة العالم، ومروراً بالإنقلابات العسكرية في العراق، وبزوع الأحزاب السياسية التي لم تجلب للعراقيين سوى المزيد من الفقر والمعاناة والزج في السجون والمعتقلات، وإنتهاءً بالحرب العراقية- الإيرانية وتداعياتها الخطيرة على منطقة الشرق الأوسط. كما حاولت الكاتبة أن تستوعب في روايتها العديد من الموضوعات التي كانت تمثل جزءاً من وجدان الأمة العربية مثل الخطابات الرنانة للزعيم جمال عبد الناصر، ومجزرة صبرا وشاتيلاً وسواها من الموضوعات التي تمثل رصداً حقيقياً لعدد من المراحل والحقب الزمنية التي مرّ بها العراق. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه فإن الفصل الحادي عشر لا يكتفي بالإشارة الى أنموذج المرأة الكردية التي ظهرت أمام الحشد النسائي في المنفى البريطاني " وكأنها هاربة من غارة " وطالبت الحضور أن يقفوا الى جانب الشعب الكردي الذي يتعرض للإبادة الجماعية بالأسلحة الكيمياوية لا لشيء، إلا لأنه يطالب بحقوقه القومية المشروعة. وعلى الرغم من أن إحدى الحاضرات قد إختطفت منها المايكروفون، وأجبرتها على مغادرة القاعة إلا أن رسالتها قد وصلت. وفي الفصل ذاته تتعرض الكاتبة الى أنموذج آخر، لكنه ملفّق، ومشوّه ينتشر كالسرطان في جسد الثقافة العربية الذي تتسيّد فيه " بعض الأديبات العربيات اللواتي يحسنَّ عرض مفاتنهن، ويفشلن فشلاَ ذريعاً في تقديم نص أدبي مقنع يبرِّر وجودهن في معظم المهرجانات والأنشطة الثقافية العربية " وربما تكفي إحالة القاريء الكريم الى " القصائد " الثلاث التي كتبتها الشاعرة غزالة حميد وهي لا تفقه من الشعر أوزانه، وإيقاعاته الداخلية، وصوره الشعرية وما الى ذلك من متطلبات النص الشعري المعروفة. لا تقتصر رواية " حبل السُرَّة " على حقبة الحرب العراقية- الإيرانية، بل أنها تتمحور في جزء كبير منها على السنوات الخمس التي أعقبت الإطاحة بالنظام الملكي والتي تضخمت فيها شخصية " الزعيم الأوحد " عبد الكريم قاسم، كما هو دأب الشخصيات العراقية التي توالت على سُدة الحكم في العراق. وربما يكون الفصل الثاني عشر من هذه الرواية القيّمة التي إستنطقت ضمير الأمة العراقية ووجدانها هو خير مثال لما نذهب إليه في رسم معالم الشخصية المتورمة التي تفقد توازنها لأسباب ذاتية يساهم فيها الحاكم ذاته، وأخرى موضوعية تكشف عن دجل شرائح كبيرة من الشعب ونفاقه ورؤيته المعوّجة للأمور. وإلا كيف نفسِّر أن الجماهير التي أوشكت أن تحمل سيارة الزعيم على الأكتاف هي ذاتها التي أصابته بطلق ناري في الرأس، وهي التي هزته من شعره أمام عدسات الكاميرا، ولم تتورع من البصق عليه أمام الملأ الأعظم. وثمة حوادث مشابهة لسحل الحكام العراقيين لن يكون نوري السعيد أولهم وصدام حسين آخرهم. تلاقح الأجناس الأدبية الشيء اللافت للنظر في هذة الرواية هي مزاوجتها بين أربعة أجناس وهي الرواية التي تنحو منحاً سيرياً مبطناً، والقصة القصيرة التي تخللت في ثنايا النص غير مرة، والحوار الصحفي العميق الذي أجراه رئيس تحرير مجلة " المثقف " اليسارية، إضافة الى " فن الخَطابة " المتمثل بالبيان رقم واحد الذي كتبه الزعيم عبد الكريم قاسم، وتلاه بالنيابة عنه عبد السلام عارف، الشخصية العسكرية المثيرة للجدل، والتي وجدت نفسها بعد بضعة أشهر مُبعدة في برلين، ومُجردة من المناصب المناطة بها مثل وزارة الداخلية، ونائب القائد العام للقوات المسلحة. إن ما يلفت النظر في خطاب" الزعيم الأوحد " هو النَفَس التحريضي الذي يخوّل الشعب القضاء على " الخونة والمفسدين والمسيئين " وإستئصالهم في حين أنه هو الذي كان يردد بأن " الرحمة فوق القانون " و " عفا الله عما سلَفْ " وما الى ذلك من مفهومات إنسانية تعزز ثقافة المحبة والتسامح، وتقف بالضد من ترويج ثقافة العنف، وتكريس نزعة الكراهية والبغضاء. والأغرب من ذلك هو التحريض الذي نادى به الجواهري " شاعر العرب الأكبر " والذي يطالب فيها الزعيم أن " إبطش فأنت على التنكيل مقتدر! " أجارك الله يا عراق! تجدر الإشارة في هذا الفصل الى أهمية الأفكار التي طرحها العقيد فاضل عباس المهداوي ( ابن خالة عبد الكريم قاسم! ) وما تضمنته من رؤى إيجابية بحق طبيعة الحكم الديمقراطي المرتقب، والحياة البرلمانية التي وضعوا لها بعض التصورات الأساسية، وحقوق المرأة. وهي مفهومات جديرة بالدراسة والتحليل. ينتهي هذا الفصل بكارثة موت الزعيم إثر إرتكابه لعدد كبير من الأخطاء القاتلة لعل أبرزها محاولته لضم دولة الكويت الشقيقة الى العراق بحجة أنها كانت قضاءً تابعاً للعراق إبان الحكم العثماني. وقد أفضت هذه المحاولة اليائسة الى فقدانه زمام السيطرة على الكويت والعراق معاً، تماماً كما فعل صدام حسين وواجه المصير ذاته. يا تُرى: هل أن التاريخ نفسه حقاً؟ عقدة الخوف من الأنظمة الحاكمة برعت سميرة المانع في تصوير هاجس الخوف الذي ينتاب الشخصية العراقية في الداخل والخارج، ويكفي أن نشير هنا الى حالة الهلع التي انتابت خال عفاف في لندن إثر مكالمة مع شخص لبناني تتعلق بمقايضة نقود عراقية بعملة صعبة. وخشية من التُهم الجاهزة التي قد تودي بحياته ظل هذا الرجل خائفاً مخلوع الفؤاد. وحينما إطمأن الى أن زوجته لطيفة تجهل تماماً هذا الشخص اللبناني عاد الى رزانته المألوفة. وجل ما يخشاه أن يضطر لقتل أحد أولاده إذا ما هرب من جبهة القتال كما فعل ذلك الأب، غريب الشخصية والأطوار، حينما أقدم على قتل ولده بحجة الهروب من جبهات القتال. لقد نجحت سميرة المانع في تصوير حالة الضعف الإنساني عندما تركت هذا الرجل الطاعن بالسن يجش بالبكاء خشية أن يقدم على ما لا تُحمد عقباه مردداً بألم فظيع: " ما أهمية الوطن دون الأولاد ". كما نجحت أيضاً في توضيح الدلالة الكامنة في " حبل السُرّة " هذه المشيمة الغريبة التي تشد أغلب العراقيين، إن لم أقل كلهم، الى " بلد الرافدين " على الرغم من كثرة مصائبه وأوجاعه المزمنة. حسناً، فعلت سميرة المانع حينما أنهت نصها الروائي بدعوة صريحة للضحك بعد أن أيقنت أن مهمتها كمدرسة للغة العربية قد أخذت طريقها الى إصلاح وتقويم ألسن المغتربين الصغار وهم يتعلمون على يدها رسم الأحرف العربية ونطقها بلسان عربي فصيح.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفنان علي النجار ل - الحوار المتمدن -: غرابة التشكيل المعاص
...
-
متاهات اللون وجُزر الفراغ في ذاكرة الفنان علي النجار
-
الشاعر أحمد الصافي النجفي بين غُربة الروح وغُربة الفكر
-
السيرة الذاتية- الروائية: - غصن مطعم بشجرة غريبة - مثالاً
-
التشكيلي الكردي صدر الدين أمين . . . من البكتوغرافي الى الشا
...
-
- فهرس الأخطاء - والأنموذج المُحزِن للتيه العراقي:عبود الجاب
...
-
هيمنة الشتاء النووي في - الطريق - الى العدم
-
الروائي المصري رؤوف مسعد: أنا أقلية في المجتمع الهولندي، وأق
...
-
الروائي المصري رؤوف مسعد: أنا متمرد بالسليقة على أسرتي، وطبق
...
-
الروائي المصري رؤوف مسعد: ما أكتبه يثير القلق والحفيظة والضغ
...
-
الديناصورات: عمالقة بتاغونيا: رسوم متحركة تحفِّز الخيال والر
...
-
شعرية نزار قباني تحت مجهر صلاح نيازي: لماذا أحسَّ نزار بالشي
...
-
كيت بلانشيت . .السمكة الصغيرة التي سقطت في نافذة العنكبوت
-
غمامة زها حديد تهبط على ضفة التيمز
-
مارك والنغر يفوز بجائزة تيرنر الفنية: عمل يجمع بين المفردة ا
...
-
- متاهة بان - للمخرج المكسيكي ديل تورو: تحفة بَصَرية تؤرخ لن
...
-
- مئذنة الشعر -. . قراءات نقدية في التجربة الشعرية لباسم فرا
...
-
الروائي مجيد خضر الهماشي يستجير من الرمضار بالنار، ويتخذ من
...
-
الفنان التونسي لطفي عبدلي: الوسامة وحدها لا تكفي لخلق الجاذب
...
-
في شريطه القصير - البغدادي - لميثم رضا: عراقي وبريطانية يتقا
...
المزيد.....
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|