تقي الوزان
الحوار المتمدن-العدد: 2215 - 2008 / 3 / 9 - 09:04
المحور:
سيرة ذاتية
" كرجال " وادي حجري مرتفع شمال بيارة وطويلة في محافظة السليمانية , يتوسطه طريق حجري لايكفي في بعض مواقعه الا لعبور شخص واحد , او حيوان واحد , ينحدر الطريق الى اعالي مصيف وشلال احمد آوه.
كانت تتوزع على جانبيه مقرات بيشمركة الحزب الشيوعي العراقي , والحزب الديمقراطي الكردستاني . وبعكس التوجه لأحمد آوه يصعد الطريق الى جبل ايراني ويهبط على مدينة ايرانية . كانت مواقع الجيش العراقي على الجبل اليمين وانت تتوجه الى احمد آوه , وعلى الجبل اليسار مدافع الجيش الايراني , وعندما يتم تبادل اطلاق النار بين الطرفين في المدفعية فأن الكثير من القنابل تسقط في ارض الحرام ( وادي كرجال ) . وفي الطريق النازل الى قرية احمد آوه بين اشجار المصيف , توجد منطقة طولها خمسين متراً مكشوفة لربايا الجيش العراقي وهي الاصعب في الاجتياز والوصول الى القرية , لانها مرصودة من قبل ربايا الجيش طيلة الاربع وعشرين ساعة , وسقط فيها شهداء وجرحى .
كان للحزب الشيوعي مقرين في كرجال . الاول مقر قاطع السليمانية ويتبع له ثلاثة بتاليونات ( افواج ) , الفوج التاسع ومقره باني شهر , ويشرف على قضاء سيد صادق ومركز المحافظة وبعض مناطق سهل شهرزور , وعنده ثلاث سرايا وفصيل مقر , والفوج الخامس عشر ومقره دربندخان ومناطق عمله تصل الى ديالى , والفوج السابع ومقره يبعد عن مقر القاطع ما يقارب مائتي متر , ولايمكن الوصول بين المقريين الا عبر الطريق في وسط الوادي , لوجود قطوع عمودية بدل السفوح بينهما .
كان القائد العسكري للفوج السابع الشهيد علي كلاشنكوف , وهو من القيادات الميدانية المعروفة ببسالتها في تاريخ البيشمركةالكردية . وبسبب المعيته ونشاطه غضب المستشار السياسي للفوج سلام على شقيق علي الصغير الخامل وسأله بعصبية : لك انت شنو عكس بلوعة ؟! وذهبت هذه التسمية عليه ونسي اسمه الحركي , ولانعرف اين هو الآن عكس بلوعة . وسلام ( يوسف هادي) من عائلة كظماوية شيوعية عريقة , وتجري في دمائه حمية الشهيد سعيد متروك الذي قاد مقاومة قطعان الحرس القومي عام 1963 في الكاظمية .
سلام الذي يعمل الآن في الدنمارك كان بين مجموعتنا الحميمة التي دعاها الرفيق كاوه . وكاوه من اهل البصرة , التحق بنا مؤخراً, اسمر طويل , خريج جامعة البصرة قسم الفلسفة , ودون الثلاثين عاماً . استلم عن طريق احد المعارف مبلغ جيد من اهله ليعينه على الخروج واكمال دراسته في الفلسفة الالمانية , ولانعرف هل تمكن من اكمال مشواره الدراسي ام لا. دعانا كاوه بمناسبة استلام المبلغ لحفلة صغيرة نشوي فيها الدجاج وثلاثة قناني من الخمر.
واخترنا مكان يليق بترف هذه الدعوة , وكان بجانب شلال احمد آوه الذي يدفع بمائه من علو ثلاثين متراً الى وسط غابة من الفواكه تقع في نهايتها قرية احمد آوه . كان الحزب يساعدنا شهرياً بعشرة دنانير كمصرف شخصي لكل نصير , وهي لاتكاد تكفي سكائر للمدخنين , ودعوة كاوه لها وزنها , وجبروتها في تحضير كل مستلزماتها بأختيار دقيق لاتتوفق في ممارسته مع اقرب الاحبة في الظرف الاعتيادي .
كنا اربعة مع كاوه لشراء مستلزمات الدعوة من القرية , يتقدمنا فاخر ( ملازم علي ) آمر سرية حلبجة في الفوج السابع , وتم انتخابه آمر للسرية من قبل الرفاق الاكراد وهو العربي الوحيد بينهم , لما يتمتع به من جرءة , وتخطيط عسكري اذهل السلطة وجحوشها في السليمانية , وكانت مفارز الجحوش تتحاشى الاصطدام بسريته وهم في عز قوتهم , ووضعوا جائزة كبيرة لمن يستطيع قتله . الاثنان الآخران كانا من اشد المتضررين عندما نمر بجانب محل للحلويات , وتتثاقل خطواتهم حالما يشاهدان صواني البقلاوة . احدهم ابو مناف اقترح على كاوه : البقلاوة طيبة بعد الشرب . اجاب كاوه : لابالعكس , الحلاه بعد الشرب تسبب التقيؤ . اكمل ابوحاتم : يا اخي هو عاجبة بقلاوة , وانت صاحب الدعوة . كاوه : آني على موده , أخاف يتقيأ ونصير فضيحة . ابو حاتم بعصبية : العن ابو موده , آني راح اشتريله . الا ان كاوه لم يحرك ساكناً , ابو حاتم التفت لابو مناف واشر له بيده ( ماكو فائدة ) .
ابو مناف ( سبهان ملا جياد ) تكريتي ابن تكريتي , كان مسؤول قوة مقر قاطع السليمانية . وبعد سقوط النظام اصدر صحيفة " القاسم المشترك " وبعدها موقع الكتروني بنفس الاسم . عند سماعي زواج ابو مناف من الرفيقة ( نغم ) , بعثت مع احد الريفيين رسالة وضعها في البريد الرسمي , معنونة الى اذاعة بغداد قسم مايطلبه المستمعون اطلب فيها اغنية " آني المسيجينة " , واهدائها : من ابراهيم صوفي في قاطع السليمانية الى ابو مناف في قاطع بهدنان بمناسبة زواجه . والرفيق ابراهيم صوفي ( ابو تاره ) المسؤول العسكري لقاطع السليمانية , ويرغب ان يجد نقيصة علينا, فكيف ان وجدنا في حالة سكر , وهي من الكبائر في الانصار , في الوقت الحالي هو مسؤول السليمانية وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكردستاني . ولا اعرف هل ان اذاعتها من اذاعة بغداد كان الغرض منه استدراجنا لامكانية استخدام وسائل الاتصال الحكومية بهذه السهولة للايقاع بنا في مسائل اكبر , ام اذاعتها كان طبيعياً , لان لايوجد في قواطع الجيش قاطع باسم بهدنان . المهم ان سبهان ملا جياد ضحك كثيراً عند سماعها من الاذاعة , ولم يتهم غيري بها . عرفت هذا بعد ثمانية عشر عاماً عندما التقينا بعد سقوط النظام , وسبق لهم الخروج ( هو وزوجته وابنه الذي ولد في السجن ) من زنزانات انتظار تنفيذ حكم الاعدام بعد ان قضيا فيها عدة سنوات نتيجة القاء القبض عليهما وهما يعملان في اعادة تنظيمات ( الداخل ) للحزب الشيوعي العراقي .
والآخر ابو حاتم ( مناف الاعسم ) يمتلك لحد الآن رقم قياسي عراقي باسمه في السباحة الحرة . كان آمر فصيل ويحمل سلاح RBK ومعها ثلاثة مخازن , لايستطيع حملها الانسان الاعتيادي , وكان يدعي انه لايسمع لانفجار قذيفة هاون قربه مزقت طبلة اذنه , ولكنه يسمع صراخ النمل كما يقول ( المثل العراقي ) , ولايسمع الا ما يرغب بسماعه , ويتكلم بطلاقة اربعة لغات ( عربي , انكليزي , كردي , فارسي ) .
كاوه كان كريماً , وابتاع كل ما نحتاج اليه , وقد اشترى كيلو ( لقم ) بدل البقلاوة التي اعيد فتح موضوعها . اخذنا نتسلى باللقم ونحن نتوجه للمكان المتفق عليه لاحياء احتفالنا البسيط بجانب الشلال . سرعان ما وصلنا ووجدنا في انتظارنا سلام ومنير . جمعنا حطب يابس لايقاد النار , وعملنا اسياخ من اغصان رفيعة اقتطعناها من الاشجار لشي قطع الدجاج , الكل يعمل بهمة , ولم تمضي ربع ساعة حتى اكتمل كل شئ , واخذت الكؤوس تدور , وكلمات المجاملة تلطف الجو وتحث للتحدث عن الرغبات والآمال , وكشف بعض الاسرار المكشوفة اصلاً واهميتها بسبب تأثير شرب بعض الكؤوس . كان العرفان يفيض من الكلام , خاصة لكاوه وموقفه النبيل بهذه الدعوة , وشرح ابو حاتم لسلام ومنير حجم المبلغ الذي صرفه العزيز كاوه , وكاوه اخذ يبالغ بالاريحية والبرمكلغية , و يشعر بأمتلاء جربته اكثر من الآخرين .
كانت حفلتنا هذه في نهاية نيسان عام 1984 , الجو في المصيف في احسن حالاته , واكتمل تفتح البراعم والزهور , ورائحة تدفق الحياة تملئ الوجدان بالوجود . تذكرنا آلام ومأسي ضربة البعث للحزب وقد مضى عليها خمسة سنوات , واخذ البعض يصف معاناته في وقتها , وكيفية تخلصه من تلك الكوابيس الجهنمية ووصوله الى كردستان . كانت قصة سلام اكثر ايلاماً من الآخرين , حيث القي القبض عليه ومعه اثنان من رفاقه وهم في طريقهم الى السليمانية , واودع في الامن العامة لعدة اشهر , ذاقوا خلالها مختلف اصناف التعذيب , وبعد اصرارهم على انهم كانوا في سفرة اعتيادية الى السليمانية اطلق سراحهم . واعادوا الكرّة ثانية , ونجحت هذه المرّة .
كان منير مولعاً بالسيارات , ولا يزال , يمتلك الآن مطعماً في مدينة مالمو السويدية , وكان مع شقيقه قبل ضربة الحزب في عام 1978 يملك معرضاً للسيارات في الاعظمية . كان حاله كحال الآخرين , يعتقد ان وجودنا في الانصار مسألة وقتية , ولابد ان ينتهي صدام بأسرع وقت . خاصة وان خسائر جيشه مع الجيش الايراني اخذت بالازدياد , وحدثت عدة انهيارات كان اهمها انهيار جبهة العمارة ( الشوش ) , والهروب المخزي لجيش صدام حتى دخوله ( الفتحة ) العراقية المقابلة لمدينة العمارة . كان للشرب تأثيره في زيادة مناسيب الرغبة في سقوط صدام , وتخيل منير ان يذاع الآن نبأ هذا السقوط , وما علينا الا ان نذهب الى احمد آوه ونركب سيارة لاندروفر الى حلبجة , ومنها نأخذ سيارة تويوتا موديل 80 حديثة , ويؤكد منير انه خلال ثلاث ساعات سنكون في بغداد .
سلام كان يبدو عليه انه كان صاحياً , ومن طريقة كلامه ناقش الصعوبات بكل جدية , واعترض على منير كون السيارة لاتحمل الا ستة راكبين ونحن سبعة , فكيف سيحل هذا الاشكال ؟! واصر سلام على ان لايذهب الى بغداد بدون حل هذه المشكلة , وزاد من تعنته بأن رفض الركوب حتى في اللاندروفر من احمد آوه . ابو مناف توسل اليه , وحاول اقناعه بأننا عندما نصل الى حلبجة يمكن ان نتوزع على سيارتين ,المهم بس اركب هسه . سلام رفض هذا الحل بعصبية . منير ابتسم وقال : بسيطة آني أحلها , بس اصعد هسه ويانه . سلام رفض الصعود مالم يعرف الحل , فاجابه منير : بسيطة نصعد احنه الستة , ونعوف كاوه ياخذ تكسي وحده لان عنده فلوس . . . كانت كلمات منير اشبه بالزيت المغلي وسكب على رأس كاوه . وقف واخذ يرتعد ويتألم , والكلمات تتصادم عند اندفاعها منه : حقراء , تفهه , كنت اعلم انكم متفقين ان تتركوني وحدي بالكراج , آني عرفت من ابو حاتم غمز لسلام , لايوجد بينكم شريف , العتب ليس عليكم بل على الذي دعاكم . وقف فاخر وقبله وقال له : ولا يهمك آني انتظر وانت اصعد , فقط لاتصير عصبي . دفع فاخر بعصبية وقال : انت لاتختلف عنهم. . اخذ سلاحه من على الارض وذهب صاعداً الى المقر .
في اليوم الثاني سألني بخجل : ها أشو مارحتوا ؟ اجبته : باننا لانذهب من دونك ايها العزيز . فقال : اغسلوا ايدكم , بعد كل عزيمة ماكو .
#تقي_الوزان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟