هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2212 - 2008 / 3 / 6 - 11:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمارس مهنة الطب إلا طبيب درس العلوم الطبية نظريا وعمليا, وتسجل بنقابة الأطباء التي تحمي المهنة. و لا يمارس الأعمال المتعلقة بكل فروع الهندسة إلا المهندس, بعد التخرج والحصول على كل الشروط لممارسة المهنة المحمية. وهذا ما ينطبق على الصيدلة والصيادلة...
وفي العلوم التي تسمى إنسانية, أو اجتماعية, أو نظرية, أو لا تُعطى صفة العلوم التجريبية, لا يقوم بمهنة التدريس إلا المؤهلين لذلك من معلمين ومدرسين وأساتذة, كل حسب المجال أو المادة التي تخصص فيها, ومستواه في التحصيل العلمي والتربوي. ولا يحق إلا للقاضي ممارسة القضاء, لا نتحدث عن القضاء العشائري والتحكيم .., المتحصل على كل الشروط المتعلقة بدراسة القانون, والتخرج من معاهد القضاء, أو بطرق تعيين أخرى منظمة من قبل الدولة. ولا يمارس مهنة المحاماة, وحسب القوانين والأنظمة المنظمة للمهنة, إلا المحامي. ويعاقب كل من يتعدى على اختصاص غيره أو ينتحل صفة ممارس تلك المهن.
ولكن فيما يتعلق بالسياسة هل يُطلب من ممارسيها ومسؤوليها المرور بعلم السياسة والتخصص فيه, أو الاطلاع على العلوم السياسية بأنواعها, أو الحصول على شهادات في ذلك, وهل العمل في السياسة حكر على فئات متخصصة, وتنظمه وتحميه نقابات؟ هل هي مهنة؟ أم أن الكثير الكثير من العاملين فيها, وفي أماكن عديدة, هم خارج دائرة كل أنواع العلوم والمعارف بما فيها العلوم السياسية, وحتى فنونها؟. هل الكفاءة والأهلية غير مطلوبتان في السياسة, وعدم توفرهما لا يرتب المسؤولية على فاقدهما؟.
قد يخطئ الطبيب في تشخيص مرض, أو وصف دواء, وقد يُلحق ذلك أذى خطيرا بصحة أو حتى بحياة مريضه, و يحاسب عليه في الدول التي يهمها المواطن والإنسان, و لا يُسأل عنه في غيرها إطلاقا, ويُسجل على انه قضاء وقدر. مكتوب. وقد يخطئ المهندس المدني, على سبيل المثال, وتتسبب أخطاؤه في تدمير منزل أو بناية وما يتبع ذلك من أضرار, وقد يحاسب, وحسب الدولة, على ذلك, أو يُنسب كذلك للقضاء والقدر وسوء الحظ والطالع. وقد يرتكب القاضي خطأ قضائيا يضر بمصلحة احد المتقاضين أو بعضهم, ويمكن إصلاح الخطأ وتعويض المتضرر وتترتب مسؤولية القاضي في ذلك.
ولكن هل يخطئ السياسي؟ (ونقصد به هنا المسؤول الأول عن السياسة في دولته, في الدولة الشمولية) وهل يُحاسب على خطئه ؟ وهل يمكن الإشارة إلى القضاء والقدر وسوء الطالع هنا أيضا؟ هل خطأ السياسي اقل ضررا من خطأ الطبيب أو المهندس أو القاضي أو غيرهم من أصحاب المهن والحرف؟ أم أن أخطاءه خطايا كثيرا ما تطال ليس فقط مصالح فرد أو أفراد محدودين, وإنما مصير شعوب بأكملها, في طرق معيشتها, وحرياتها, وكرامتها. وترهن حاضرها و مستقبلها للمجهول. وتمس وحدة إقليمها واستقلاله, و ترتب علاقات تبعية وارتهان للخارج بعيدا عن كل دور, ولو استشاري, للشعوب صاحبة المصلحة أولا وأخرا..
وهل لا تُحسب من الأخطاء والخطايا السياسية, التجارب غير المنتهية منذ عقود, المبنية على الخطأ والصواب, التي يمارسها هذا السياسي أو ذاك, دون رقابة شعبية, أو برلمانية أو قضائية, ودون أية مسؤولية أو إحساس بها, على شعوب كاملة ؟. مثاله, و إن كان لابد من مثال للتوضيح ( رغم تحريم, وثيقة وزراء الإعلام العرب, ما هو محرم أصلا, من تعرض لكل المعصومين بذواتهم, وأفعالهم, وأفكارهم , ودعائمهم المعصومين معهم , بالتبعية, حتى ولو كانوا في الدرجات الدنيا من السلم غير الثابتة أو المتوازنة أو الكاملة درجاته, وحتى ولو كان التعرض لقول اتقوا الله في شعوبكم و أوطانكم ) يُشار فقط , احتراما للوثيقة المذكورة, احترام الخائفين على حياتهم , لتجارب أحد الزعماء من بين من صال وجال في الوحدات العربية, الشاملة, والرباعية, والثلاثية, والثنائية, والمغاربية, والإفريقية. وأبدع في عرض الاشتراكيات ونماذجها, وفي فن التنظير, وفن التخلي, لمجرد (" زعل أو "حردة" ), والانقلاب على نفسه بنفسه ــ بعد انتهاء عهد الانقلابات على الغير ــ و في التسلح, ونزع السلاح, وتسليمه طوعا وطمعا بالسلامة. وكل ذلك أمام استحسان أو فرض استحسان المجرّب عليهم وبهم, والتصفيق, أو الأمر به, في كل الأحوال, ولكل الأفعال الثابت منها والمتغير, و المُعد للمستقبل. وهذا حال كل الحكام العرب وان اختلفت الوسائل والأهداف ــ عدا هدف البقاء في السلطة المطلقة ــ.
هذا دون التعرض لمن ادخلوا دولهم في حروب عبثية, وفي منازعات بينية انعكست عقودا على حياة شعوبها, الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.. وحولوا هزائمهم إلى انتصارات كلامية وخطابية أمام سخرية العالم واستغرابه. متعمدين إبقاء هذه الشعوب خارج التاريخ الحديث, وخلف البشرية والتضحية بأجيال.
ولكن ألا يحمي التكوين العلمي, بشقيه, النظري والعملي, الطبيب والمهندس والصيدلي, والمدرس, والقاضي والمحامي, وكل أصحاب المهن, من الكثير من الخطأ. كما تحميهم أدبيات تلك المهن من الانزلاق خارج قوانينها وأصولها؟
ماذا يحمي السياسي ــ القادم من خارج معاهد التكوين العلمي, بأنواعه, بشقيه العملي والنظري, والملتجئ للسياسة, واطئة الأسوار, وهو غير المنتظم في مهنة لها أدبياتها وأخلاقياتها , ويملك قوة السلطة المطلقة ــ من الانزلاق خارج كل الأدبيات, ليس بمعنى الأخلاق فهذه فصلها ميكافيلي عن السياسة منذ قرون ولم تزل مفصولة إلى يومنا هذا, وتعزز الفصل بشكل خاص في منطقتنا, إلى درجة تدهش ميكافيلي نفسه لو قُدرت له إطلالة من خلف القرون السحيقة.
هل كل هذا, ولم نذكر منه إلا القليل, يصنف على انه أخطاء؟, خطايا؟ جرائم؟ ولا ترتب مسؤولية سياسية تفرض على الأقل الاستقالة؟ ومسؤولية جزائية تنزل عقوبات جزائية؟.
ماذا يحمي السياسة من الانحطاط بها إلى مستويات منحدرة, يترتب عليها, كما نرى يوميا وبالعين المجردة, الفساد والإفساد والإضرار بقيم المجتمعات وعاداتها وتقاليدها, وتفتت وحدتها الوطنية, لما فيه خدمة مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة المُفترض في السياسة حمايتها.
هل تستطيع السياسة حماية نفسها من نفسها عن طريق تأصيلها في علوم تتقيد بقواعدها, وتلفظ من لا يصلح لها, وتهتم بالتجارب الإنسانية منذ فجر التاريخ والى اليوم. الم تفعل ذلك في أماكن عديدة من هذا العالم, ولم تفعله بعد في أماكن أخرى منه؟ ولكن باعتبار أن السياسة حركة لا تنتهي أو تتوقف هل يمكن بناء علم ثابت عليها؟ وهل والحالة هذه أن السياسة ليست بمجملها, في النهاية, مجرد فن وليس علم؟ وما مصيرها في غياب العلم بعلمها وإتقان فنها من قبل ممارسيها ؟ ليس بطبيعة الحال هنا مجال التعرض لذلك.
هل يمكن انتشالها من مفاهيم الأمن, امن السياسيين وانظمتهم, وإعادتها سياسية تدير الأمن نفسه, وتحدد مجالاته وأهدافه. وتجعله امن الوطن من كل اعتداء خارجي واغتصاب لأي جزء منه. وامن المواطن في حياته وحقوقه وحرياته وأمنه الغذائي والصحي, والثقافي والتعليمي. وامنه من الخوف الذي افقده إنسانيته؟ والأمان في حاضره ومستقبله ومستقبل أبنائه, والأجيال القادمة المصادرة شروط وجودها سلفا؟
اعتبر أرسطو (384 ـ 322 قبل الميلاد) الإنسان حيوان سياسي لانه لا يمكنه أن يعيش في عزلة, منطو على نفسه, وإنما يسعى ليتقاسم وجوده وحياته مع المجموع الذي يعيش بينهم. ويطمح إلى تنظيم هذه الحياة بعقل وحكمة.
وكان أفلاطون ( 428 ـ 348 قبل الميلاد) قد حذر من تعاليم السفسطائيين في اليونان القديمة الذين كانوا يقدمونها للمرشحين للسياسة والمتمثلة بالخطابة وفن الإقناع. ومن التجميل في السياسة. لان في ذلك سلاح الطغاة. كما كان يرى ان " السفسطائيين في تعاليمهم تلك, يداعبون بخداع آراء مستمعيهم, بمناسبة تجمعهم في كتل. و يمكن مقارنة السفسطائي بمروض حيوان, فهو يعرف الوسائل المهيجة لغضبه, وتلك المثيرة لرغباته. ويعلم كيف ومتى يخفف منها أو يذكيها". (الجمهورية).
وقد ظهر ما حذر منه أفلاطون في الأنظمة الشمولية الحديثة من استعمال لفن الخطابة وتجميل السياسيين واللجوء إلى الخداع والتلاعب بآراء ورغبات وأماني, وحتى عقول, الجماهير التي يحشدونها للتأثير المباشر فيها ــ وان كان في منطقتنا العربية لم يظهر السياسي الخطيب صاحب الشخصية charisme المؤثرة بذاتها (باستثناء جمال عبد الناصر) والموهبة القيادية الحقيقة , فهم في غالبيتهم عاجزون عن صياغة جمل مفيدة أو قراءة كلمات معدة لهم, مشكّلة, مثيرين شفقة المحشودين كرها للاستماع لهم ـ مما يهبط حتى بفن الخطاب السياسي, لغة وضمونا ــ فليس هذا من السياسة.
جرى التفريق بين السياسة التي هي الميدان الاجتماعي لتناقض المصالح, أو تقاربها الجزئي أو الكلي, والتي تسوى بواسطة السلطة المحتكرة للإكراه بالوسائل المشروعة. وهي السياسة التي يعبر عنها
باللغة الفرنسية بكلمة le Politique بصيغة المذكر.
وبين السياسية التي هي المسرح الذي يتقابل فيه الأفراد والمجموعات في تنافس للوصول إلى السلطة في الدولة. فالحياة السياسية تتصف بمناظرات دائمة بدوام المشاكل الناتجة عن المجتمع بكامله ومتطلبات هذا المجتمع. وهي السياسة la Politique بصيغة المؤنث, وهو ما استحدثته التقنية اللغوية الفرنسية لعدم وجود كلمتين منفصلين, مثلما هو الحال عليه في اللغة الانكليزية, للتميز بين المفهومين عند الحديث عن السياسة.
فإذا كانت السياسة بمفهوميها المشار إليهما: النشاط الاجتماعي الذي يقدم عن طريق القوة المبنية على القانون, الأمن الخارجي, والوفاق concorde الداخلي لوحدة سياسية معينة, ضامنا سيادة النظام في الصراع الناتج عن اختلاف الآراء والمصالح ( Freund Julien, ما هي السياسة؟) فهل يجوز أن يحتكر هذا النشاط أفراد قلائل وعن طريق القوة الغاشمة التي لا تخضع لحكم القانون أو تنظيمه, وبعيدا عن كل وفاق داخلي صحيح.؟
السياسي في الأنظمة الشمولية لا يحاسبه احد, هو, وبطانته, فوق كل مساءلة وحساب. يحاسب الجميع لخطأ أو لافتراض الخطأ. يحاسب حسابا عسيرا, خارج القوانين والقيم الإنسانية, يصل إلى التصفية الجسدية, والسجن المؤبد, والإخفاء, والتشريد. وقطع لقمة العيش. والإذلال اليومي لكل من يطالب بالتعددية, وبالاعتراف للمواطنين بالحريات المدنية والسياسية, وبالكرامة, وبالحق في العيش الكريم والمساواة, ومحاربة الفساد, وبالشفافية, وبإعلام حر يقول فيه المواطن ما يجب قوله. وبالمشاركة في شؤون وطن هو مواطن فيه. وبان يرقى القانون إلى مرتبة القانون ولا يكتفي بالمرور مرور الكرام من تحت الحاكم لا يسعى إليه ولا يطاله.
في غياب أي مساءلة أو محاسبة للسياسي ينظمها الدستور, وبانتهاك هذا السياسي للدستور نفسه وتعليق أحكامه ـ دون إلغاء ـ. وغياب أية رقابة مهما كان نوعها. أصبحت المحاسبة الوحيدة التي يتمناها المواطن العربي لحاكمه تتجسد في دعاء الضعيف, وبسرية تامة, وبخلوه كاملة مع نفسه ليلا, والليل استر, بأن ينتقم الله منه في الآخرة. لفقدان الأمل بوقوعه في الحياة الدنيا.
ولكن هل السياسي وحده المسؤول عن انحدار السياسة, وعن الأخطاء, والخطايا, والجرائم المرتكبة ضد شعبه, أم أن انسحاب المواطن من السياسة و صمته ــ والخنوع الشعبي, في كل ما يرى ويعلم و يعاني. والرياء, والتستر خلف موروث الأمثلة و"الحكم" في الطاعة, وقبول الذل, والصبر, الصبر الطويل بانتظار مفتاح الفرج, و بانتظار مخّلص ومُنقذ مجهول ــ يعتبر مسؤولية تقصيرية أو غير مباشرة, تصل إلى التستر على الجرائم, وعدم المساعدة في إغاثة من هو حالة خطر, وعدم الإدلاء بالشهادة, وهو يرى الظلم المعمم, والرشاوى والفساد. والتخلي نهائيا عن المطالبة بعودة حقوقه ــ التي تفرضها القوانين, والطبيعة, وأدميته , في الحياة السياسية والمدنية والاقتصادية ــ طلبا للنجاة, بجلده, التي, رغم كل ذلك, لا يحصل عليها. وقبوله المشاركة, الإجبارية أو الطوعية, في ترويج وتبرير سياسات وممارسات يعرف أنها ليست في مصلحته ومصالح الغالبية العظمى من المواطنين. أليس في كل هذا مسؤولة معنوية, ولو كانت تُحتسب في أحسن الأحوال غير مباشرة.
كما تكونوا يُولّى عليكم. آلا يصح القول, والحالة هذه, أن الوالي استطاع, وخلال عقود من الولاية المستمرة دون انقطاع, إعادة ترتيب هذه المقولة بصياغة وتكوين من تولّى عليهم ليشبهونه بعد أن كان يشبههم, وليكونوا مثله بعد أن كان مثلهم؟. د. هايل نصر.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟