محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 2212 - 2008 / 3 / 6 - 09:36
المحور:
الادب والفن
كان الليل مخيما, وصوت فيروز يغني وكأنه قادم من وراء البحر البعيد , ينبعث من جهاز تسجيل وضع على رف علق على زاوية خشبية تتوسط أحد جدران غرفة الجلوس التي احتوت أريكة استلقى كليهما عليها جاورتها طاولة صغيرة وضعت عليها صينية يتوسطها دلة قهوة وفنجانان , وبعض من لوحات لورود متنوعة توازعت جدران الغرفة , والنعاس يحاول جاهدا أن يقفل جفونها بالنوم اللذيذ , ما تكاد الأحلام , وهي تتأرجح بين الصحو والغفا , تداعب جفونها عن شيء يشبه قصص ألف ليلة وليلة , تتسلل شهرزاد خلسة إلى مكمن الرغبات في ساحة لاوعيها حتى أوقظها شهريار , فانتبهت لتوها أنه قد توقف عن الكلام المباح .
صمت ثم استطرد فجأة على طريقة من يوصي أهله وصحبه وصيته الأخيرة بعد أن أكمل رحلة العمر المفعمة بحلوها ومرها ليضع بين أيديهم تجربته ويصارحهم بما خفي عنهم منها .
هب أن يقول لها شيئا مهماّ عندما مرت في خاطره ذاكرة تراثية قد أسست لقضية الخلاف الجوهرية للمذاهب الإسلامية المختلفة , مازال أصحابها يجترونها ليتقاتلوا على أساسها بالرغم من مرور 1500 عاما عليها , عندما وقف الرسول بالقرب من الغدير بعد حجة الوداع في طريق العودة إلى المدينة ليلقي في أصحابه خطبة الوداع , وبعد أن أخبرهم بأن الله في هذا اليوم قد أكمل عليهم دينهم وأتم عليهم نعمته انتقل بالحديث ليوصي لعلي من بعده على ما جاء في رواية الشيعة , و للخير لهذا الدين والمعاملة الحسنة لآل بيته من قبل أصحابه ومعشر المسلمين على ما جاء في رواية السنة .
تلكأ برهة ثم استطرد يوصيها والكلام يتباطأ على شفتيه:
-أشعر أني قد استنفذت طاقتي بالكتم , وأنت الآن شاهدة على ما أقول , ليس أمام أحد ولا ضد أحد , بل أمام المستور مني وأمام ما كتمته عن العالمين , وقد عجزت عن البوح به لكي لا أورط نفسي بما لا أقدر عليه ولألاّ أعذب من أحبني وأحببته , ما دفعني إلى السكوت عنه , بالرغم من كل الشكوك التي ساورت الناس بي , التزامي بأصوليات ترعرعت بشرائعها في أحضان أمي الطبيعة فآمنت بها بكل جوارحي , وسعيت وعلى مدار عمري الذي مضى أن أنشرها بين الناس .
عاد وألقى برأسه في حرجها ثانية , وعادت تعبث بشعره العواهن بكلتا يديها , وتدفقت ذاكرته تسيل في حضورها .
كانت تشعر بأنفاسه تختلط بأعصابها وتتداخل تفاصيل سرده بتفاصيلها هي لتكون حكايتها , بل لقد أصابها شعور وكأنها كانت إلى جانبه طوال حياته . تتخلل الرغبات المؤجلة لديه الفواصل ما بين النزف والوصية , ولما وصل بوحه قمة الذاكرة تشبثت بأهداب الحكاية وأخذت وضعية الاستعداد تتأهب للانتحار على أطلال الندى المترقرق في عيونه , تلألأت , تلعثمت , ارتجفت , ثم انسابت على جبينه .
وقفت على شاطيء رذاذها المتساقط , وما أن همت لتلقي بحطامها على صدره تثبت النظر في عينيه العسلييتين المترقرقة حتى صمت الكلم , وخلا المكان إلا من صوت فيروز يداعب هدوء اللحظة الفاصلة ما بين الصمت والصمت : بتذكر آخر مرة شفتك فيها....تعتل همي.......قال عم بيقولو صار عندك ولاد........
يعود الكلام ينساب متعثرا وكأنه يعترف أمام راهبة تجللها رهبة اللحظة , وهي قد استهواها أن تلعب دور الراهبة دون غطاء بينهما , يتابع كشف ما استقرأته مسبقا من خلال العلاقة التي ربطتهما منذ سنوات بنبوءاتها الأنثوية عبر التعامل معه على مدار فترة العلاقة بينهما , لم تكن تعجبها بقدر ما كانت تدهشها شجاعة الاعتراف وثقله , إنها المرة الأولى التي يطلعها على هذا الكم من سرية سريرته ذات الحجم الصغير التي ألمت به منذ شتاته الأول , مرورا بلجوئه حتى لقائها به في المنفى الأخير . خصوصيات كثيرة أجابت على تساؤلات مباغة بذلت بواسطتها كل جهود الأنثى كي تستنطق جذور الذكورة فيه , وكثيرا ما أذهلها قريحة يستحضرها غالبا في استنتاج ما أرادت أن تقول قبل أن تكمل سؤالها .
وفيروز تغني : قالوا العدا قالوا , شو خبروا قالوا وعدو الصبايا وما أجو....ع العين لاقيتوا...
عندما راحت تعبث مابين الشعرة الأولى من خصلة الشعر المنسدلة على جبينه الكنعاني وحتى الشعرة الأخيرة في أخمص قدميه , مستسلما لها على اعتبارها الصديقة الأخيرة والأوفر حظا في حياته , كان الكلام ينزف بكل ما لم تنجح قصصه القصيرة و خواطره المنشورة أن تقوله على مدار اسمه الحقيقي .
حاولت بكل طاقتها الأنثوية أن تستدرجه إلى المساحاة الخضراء المخفية التي تطبع شخصيته , حاولت كثيرا .
استدرجته لسر عشق الياسمين ورائحة الزعتر البري , ولم تجد محاولاتها نفعا ليبوح بسر الوجه الذي لم تكتمل بعد ملامحه .
لما فاجأته بسؤالها المباشر أي أنثى من اللواتي داعبت يديها تضاريس وجهه الكنعاني وحاكت بوجهها الوجه الذي لم تكتمل ملامحه قاطعها : أشعر أني مللت وأتمنى أن أموت , ثم صمت .
ساد الصمت إلا من صوت فيروز بأغنيتها : خليك بالبيت .
باغتتها ما بين الفواصل أمنيته فسألته :
_أليس من المفروض قبل أن تموت أن تباشر بكتابة سيرتك الذاتية كما يفعل الآخرون؟أعتقد أنها جديرة بالكتابة فهي تزخر بالأحداث وهي جديرة بالاطلاع كتجربة شخصية.
-هذا مستحيل لأن جزءا من سيرتي هي أحجيات قد سقطت مني في طريقي إلى هنا حيث التقيتك , وجزء منها لغز حلها غير مرئي , وجزء كعود لوز لا تستطيعين التخمين إن هو أخضر أم قرمزي أم ما بينهما قد زرعته هناك بالقرب من عريشة الياسمين حيث كان لجوئي الأول , وجزء كشمس الشتاء لا تتمكني من رؤيتها لاحتجابها خلف السحاب , وجزء كريح تقتلع أسباب غدي , وجزء لا يرى بعين واحدة بل بآلاف , وجزء هو عظيم عظيم يطل على غربتي ويكثف الحزن الثقيل في قلبي ويبكي زمنا اغتيلت فيه شريعة الحب , وجزء هو بين يديك يمكنك أن تقرئيه في قصصي القصيرة وخواطري فإني أمارس كتابتها لإصلاح خلل يلم روحي ونفسي . ألا تعتقدين أن كتابات أي كاتب لكافية أن تحكي سيرته الذاتية؟ . ثم أنا لا أطيق أحيانا تذكر الكثير مما حصل معي من تفاصيل . ألأنها مليئة بالأحداث المتنوعة والحكايا يجعلها جديرة بالاهتمام؟ , إن حياة أي مواطن , آسف أي ساكن فنحن لم نحصل بعد على صفة المواطنة في شرق متوسطنا العظيم , لجديرة بأن تكون سيرة ذاتية مكتوبة...قال متهكما ثم استأنف : حتى لو توفرت الرغبة فأنا لا أستطيع.
_ولماذا؟هل بسبب الحماقات الكبيرة التي ارتكبتها عبرسيرورتها أم أن فيها ما يخجلك؟
_وهل هناك أحد منا لم يرتكب الحماقات الكبيرة في حياته ؟ و من لايوجد في حياته ما يخجل منه؟ وقد أطلعتك على الكثير منها .
_ربما فعلت هذا معي لأني صديقتك القريبة جدا كما صرحت لي . إذاَ لماذا أنت لا تستطيع ؟ ألشيئ له علاقة بأولادك وحياتك الماضية؟ أتخشى أن تزعجهم أو تسبب لهم الأذى رغم كل الأذى الذي سببوه لك؟
_هذا أحد الأسباب. ثم لاذ بالصمت كعادته. تصدح فيروز أغنية ليالي الشمال الحزينة .
في الحقيقة لم تكن هي الوحيدة التي اقترحت عليه أن يكتب سيرته الذاتية فقد سبقها إليه العديد من أصدقائه , كان يكتفي بأن ينظر إليهم نظرته الشاردة و يلوذ بالصمت.
فهمت من صمته المطبق أنه قد أغلق كل إمكانية لاستدراجه , و بحكم تجربتها معه تعلم أنه عندما يتشرنق بلغز صمته هكذا فهذا يعني أنه قد اختنق بأسئلتها وأنها قد اقتربت كثيرا من حدوده الشخصية .
بدت لنفسها وكأنها راحت تحبو في دهاليز سرية لا ينفع معها أي إضاءة للكشف عن مساربها . لكنها أرادت أن تمضي للبحث عن إغماضة البنفسج الحزين في عينيه . تساءلت أمن الممكن أن يكون هذا السر الذي تقلب على جمر كتمانه طوال حياته هو في مستوى سيرة شعبه التاريخية؟ , تاريخ الشتات؟ , قصة التغريبة الأولى؟ , يخشى إن باح به أن يحدث انشقاقا بوسع ما ورد توا على خاطره من ذاكرة تراثية , تتناول متعلقاته فتنشطر روحه وأولاده؟ . إذاّ كم أنت مسكين يا رفيقي .
تغني فيروز : قالوا شلحلي وردتين وغاب.. شوفوا الكذب لوين ..وشو عرفوا أياه تختي أنا وأياه تخت أختي ..
_ولا حتى عملا روائيا تواري فيه خفايا سيرتك وجرحك؟ لا أتصور أنه ينقصك إمكانيته ؟
_يمكنك أن تلملمي قصصي القصيرة فتصبح عملا روائيا , ثم أني لا أطيق الكتابة المطولة , فأنا بطبعي ملول من كل شيء طويل كما تعرفين حتى في علاقاتي النسائية , أملّ أحيانا حتى من لقائي معك عندما يطول أكثر من طاقتي , هل تصدقين أني عندما أباشر بكتابة قصة قصيرة أو خاطرة لا أصدق متى تغادرني حتى لا تبقى تلاعبني وألاعبها فلا تطيق مللي ولا أطيق أن تفرض علي منطقها فأظل أعدل في شخصياتها حتى تكاد أن تصبح غيرها لدرجة أني أرسلها للنشر في اليوم الأول من الانتهاء منها دون الانتباه لأخطائها اللغوية التي كثيرا ما أتلقى تعليقات هازءة وجارحة بسببها . أنا أحب حريتي كثيرا , أشعر أني كحصان جامح لا يطيق لجاما فلا أطيق أن تسيطر علي شخصيات الرواية مدة طويلة , لأن الرواية تتطلب لإنجازها مدة طويلة تمتد أحيانا لعدة سنوات وهذا ما يحدث لأغلب من مارسوا كتابة الأعمال الروائية , وأنا لا أميل إلى هذا , في حين أن كل هذا لا يحدث لي أثناء ممارسة كتابة القصة القصيرة أو الخواطر .
رمقها بطرف عينه , رفع رأسه فجأة من حرجها وأصلح من جلسته , أخذ وجهها بين يديه بلطف مبالغ وقبلها قبلة أبوية على جبينها . فيروز تغني :يا قمر أنا وياك ..لونا سمانا...ضحكوا قناطرنا ...
وكمن توصل إلى قرار اتخذه بعد لأي : كفاك ثرثرة فإن القصة القصيرة تكفيني للخروج بين الحين والآخر من صمتي , وأنا متأكد أنها تفرحك عند قراءتها...
عاد واستلقى بقربها على الكنبة , ثم ألقى برأسه ثانية في حرجها و قد شارف شريط فيروزعلى نهايته عندما صدح صوتها آخر جملة من أغنيتها الأخيرة : وخلصت القصة بآخر شتوية .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟