|
أسطورة التأله الجزء الأول
صالح محمود
الحوار المتمدن-العدد: 2210 - 2008 / 3 / 4 - 07:13
المحور:
الادب والفن
الإهــداء :
إلى ابنتي نور إلى أبنائي القادمين إلى الفراعنة العظماء أهدي أسطورة التألّه
التـــوطئــــة : لم تكن هذه التوطئة وليدة اللحظة، بل جاءت بطلب من أحد النقاد ، إذ ولما قدمت له هذا العمل لقراءته وإبداء رأيه فيه، طلب مني أن أكتب لهذا النصّ مقدمة أبيّن فيها ما أريد أن أقوله وأذكر فيها ما اعتمدته من مراجع، وهذا ما كتبته : تبدو نادرة تلك اللحظة التي تنسجم فيها النفس مع الوجود، تتوافق وتتناسق، تسري متحللة متنامية، مضمحلة متعادمة، فائضة طاغية، تغمره وتحتويه. قد نكون في -تلك اللحظة- انفصلنا عن عالمنا وانسلخنا، انتقلنا عابرين، نافذين إلى عالم آخر نقي شفاف، صاف هفهاف، عالم تفنى فيه الأطر وتنتثر، تضمحل وتندثر واتصلنا عبر التصاعد والانتشار القدرة والاقتدار –بالحقيقة والتي تبدو من خلال اللحظة وعلى خلفية جمالها الأخاذ وسحرها الآسر،كالطيّف الشفاف المتموج- من العسير علينا بناءها وتحديد تفاصيلها ورسم ملامحها. للوهلة الأولى يسود الاعتقاد بأن الانسان محظوظ بهتكه لستائر سميكة تلفه وتحول بينه والحقيقة. والحقيقة لا يعود الأمر للحظ أو للصّدفة بل لجوهر الانسان الذي طمر في غيائب الظلمات وطمس. ولا يعود الفضل في وعي الإنسان بالأصفاد التي يرزح تحت أوطابها كالسجين الذي يرزح تحت أغلاله الحديديّة الثقيلة- للصدفة بل لجوهره الذي يسعى للتحلل من تلك الأصفاد عبر اللحظة وهذا ما يجعل مسيرة الإنسان في الانسلاخ عن عالم الفناء والظلام لا تزال في بداية البدايات أو في أولى الخطوات كذلك الرضيع الذي بدأ يحبو للتوّ وقد كان مقعدا عاجزا. أذكر ذلك المشهد من خلال التلفاز، الذي لازال راسخا في ذاكرتي، وكان قد استحوذ على تفكيري وقتها، مشهد زنجي صغير يرعى أبقاره في قلب سافانا افريقيا، يمسك بيده عصا يهش بها على أبقاره بين الفينة والفينة، غير بعيد عنه ومن حوله الوحوش من أسود وسباع، ذئاب وضباع رابضة تلتفت إليه كلما علا صوته بالغناء. قلت في نفسي هل تمكن الانسان من التعالي على الطبيعة متبجحا بذلك على رؤوس الوجود، الوحوش وبقية الكائنات المسحوقة التي لا تعدو أن تكون فريسة للضواري والتي هي بدورها لا تستثنى من دورة الحياة معزوفة الطبيعة الجنائزية المظلمة، وليست تلك الكائنات بجميع فصائلها سوى نوتاتها؟ هل تمرد الإنسان على أنساق الطبيعة وأعلن العصيان ؟ يبدو ذلك واضحا للعيان، فالإنسان قد كشف النقاب عن الشدو الذي لا يشبه بأي حال من الأحوال زئير الأسود الفج المهوج بما فيه من قسوة ممزوجة بالشهوة، أو صوت الفريسة وما فيه من إنكسار وخوار ممزوج بتحطيم الهياكل- من خلال اقتحامه- عبر اللحظة- عالم الشدو، عالم الأحلام والأنغام على نقيض عالم التوحش عالم الفناء والظلام. وبذلك قد يكون الإنسان أمسك طرف الخيط. فالشدو الذي تفتقده الوحوش القُصّر، التي تسير في منهاج مؤطر مستقيم ومسطّر مكوّنة بذلك معزوفة الطبيعة الجنائزية شأنها شأن عناصر الطبيعة الخاوية كالزلازل والبراكين، العواصف والأعاصير، الفياضات والانهيارات- هو مسار الانسان الوحيد على الأقل في الوقت الراهن- نحو عالم الحقيقة، عالم الشدو. رغم أن شدو الانسان نسخة مشوهّة لعالم الحقيقة المتحرر من الأطر والحدود السجون والقيود لأن جوهره التصاعد والانتشار القدرة والاقتدار – لأنه مقيّد بالوزن والإيقاع. وعلى أي حال قد تمكن الإنسان بمختلف أفراده – وإلاّ ارتدّوا إلى التوحّش- من الشدو أو قل لامسوا الشدو. ومن هذا المنطلق وباعتبار الشدو الركن الأساسي لكل فرد من البشر للتخلّص من وصمة التوحش، فإن اللحظة بدورها تصبح متاحة لكل بني البشر أينما كانوا وكيفما كانوا، مما يمكنهم من النفاذ إلى عالم الشدو، عالم الانتشار قدرة والاقتدار. على أن هذا النفاذ لازال لحظاتيا لأن الإنسان على ما يبدو لم يتحلل بعد من أصفاد الطبيعة وأغلالها على غرار الوحوش، ولم يتنصل. ولذلك نبكي حينما نسمع أنغاما تمس جوهرنا المتوثب للتحرّر الذي يترصدنا عبر اللحظة التي تنفذ بنا إلى عالم الحقيقة، عالم الأزل، فيدعونا بإلحاح إلى تخليصه من سجون، مما يجعلنا نذرف الدّمع، وفي ذلك إقرار بعجزنا عن ذلك. يبدو تمثل الحقيقة أمر صعب المنال، وما محاولات الإنسان الانصهار فيها باعتباره جزءا منها عبر استبطانها إلاّ ترهات وخرافات، فما بالك بمن يدّعي امتلاكها. إلاّ أنّه قد يتاح لنا ذلك إذا سعينا إلى تحرير الشدو من الإيقاع والأوزان فنصبح كالرسل الذين لا ينطقون عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، عبر اتصالهم بالعالم الآخر. فالرسل مثال يحتذى به في الخروج عن أنساق الطبيعة ومساراتها المحدودة بدفعهم لأتباعهم المستضعفين إلى تقويض عصورهم بتحطيم الهياكل والأنصاب من أصنام وتماثيل وسط الترهيب والتعذيب، المحارق والمشانق، مؤسسين على أنقاضه عالما جديدا، طريق الجنة بوحي العالم الآخر. ستجد صديقي القارئ في هذا العمل إشارات لبعض جوانب من الحضارة الفرعونية (الهرم الأكبر وكيفية بناءه، وفرعون وكيفية تحنيطه ...) والحضارة الفرعونية من العمق والقوة ما يجعل الحفريات لازالت قائمة في مصر تفكك رموز هذه الحضارة التي ستظلّ ملهمة الانسان على مدى الأزمان. وقد استقيت معلوماتي التي ذكرت من كتاب "مصر الفرعونية" لصاحبه أسامة عباس- نشر دار الأمل – طبع مطابع الوادي الجديد دار السّلام – الطبعة الأولى 1998 . أما في ما يخصّ تاكفاريناس الشخصية الرئيسية في هذا العمل فيذكره الأستاذ عمّار المحجوبي في كتابه "ولاية إفريقيا من الاحتلال الروماني إلى نهاية العهد السّويري" (146 ق م – 235 م ) مركز النشر الجامعي ص 97 في باب (حرب تقفريناس Tacfarinas ) واحتلال الجنوب التونسي ) : "يقول المؤرخ تسيتوس( Tacitus ) الذي يورد خبر هذه الثورة في " حولياته" (Annales) ، أن رأس الحربة وزعيم الثوار كان يدعى تقفريناس (Tacfarinas ) ، وكان ممن كسبوا الخبرة العسكرية في التشكيلات المساعدة (Auxilia) المعاضدة للجيش النظامي الروماني. وقد فرّ من الجيش وشق عصا الطاعة وعكف على حشد الثواّر وتمرينهم. ثم تمكّن، بعد نجاح غاراته الأولى، من الظّفر بزعامة القبائل المزولامية (Musulamii) المنتشرة في بلاد نوميديا، من مدينتي أمّيدرا (Ammaedara) ومدوروس Madauros) حاليا امْدَوْروشْ (إلى مدينة توست( Theveste ، تبسه). وظفر كذلك بمساندة القبائل القينيتية (Cinitii) المنتشرة بخليج السرت الصغرى، من جنوب طينة (Thaenae) إلى مدينة جغتيس (Gigthis ، بوغرارة)، وتحالف تقفريناس أيضا مع قبائل القرامنتاس (Garamantes) ومع القبائل الماورية (Mauri) الثائرة على ملك موريطانيا، بقيادة مزيبا (Mazippa) ، بينما ضمّت قوات يوبا الثاني إلى الجيش الروماني.فامتدت رقعة الثورة من جنوب موريطانيا غربا إلى خليج السرت الصغرى شرقا، وشملت بلاد نوميديا. وأطنبت تسيتوس في وصف وقائع الحرب، وذكر تطوراتها. وقد دارت حوادثها سجالا، فكان الغلبة للرومان في المعارك الكلاسيكية التي اصطدم فيها الثوار بالجيش الروماني. ونجح الثوار كلما تمكنوا من فرض حرب العصابات، وهاجموا العدو فجأة وضايقوه بالتحرّك السريع ونصب الكمائن من ذلك أنهم حاصروا حصنا رومانيا، وكبّدوا الكتيبة (Cohors) المرابطة به هزيمة مزرية ...". ثم يذكر الأستاذ عمار المحجوبي في صفحة 98 " وقام تقفريناس بهجوم على تبرسقوم (Thuburscum ( التي لا تزال مجهولة الموقع رغم الشبه بين اسمها، الذي ورد في المصادر، واسم مدينة تُبرسُقُوْ نُوميدَارُومْ ) Thubursicu Numidarum ، خميسة) في شرق بلاد الجزائر، أو تٌبٌرسِقُومْ بوري ( Thubursicum Bure، تبرسق) في حوض وادي مجردة. ومن المؤرخين من افترض أن موقعها كان قرب تُبُوسُقْتُو (Tubursuctu) في جبال القبائل بوادي الصمام. لكنّ الجيش الروماني هبّ لنجدة القلعة، وفشل تقفريناس في اقتحامها، فتقهقر ولجأ إلى قلعة أوْزَايَا (Auzea) التي افترض بعض المؤرخين أنها كانت في موقع أوزِِيا (Auzia ، حاليا سور الغزلان) في جنوب مملكة موريطانيا حيث تمكن الجيش الروماني في مستهلّ سنة 24 م من مفاجأة الثوّار ليلا ومن قتل تقفريناس، فأذن مصرعه بنهاية الثورة ..." ومن الشخصيات العرضية "أبو هريرة " وهو أبو هريرة المسعدي الكاتب التونسي في كتابه " حدث أبو هريرة قال ..." إنتهت التوطئة نوفمبر 2005 صالح محمود
مقدمة المؤلف
يا أيها المغناطيس يا من سريت متصاعدا منتشرا قادرا مقتدرا، هالة متوهجة زرقاء كالنور الوضاء، هاأنذا مفتون بك، إذ انسلخت عن التوحش برفض الفناء، و ارتقيت إلى التأله بشدو الغناء.
صالح محمود أفريل 2004
1- المحاكمة - تاكفاريناس !! كيف تدّعي بأنّ الإنسان ارتقى إلى الألوهية بعد أن استلهمها وأنت تعلم كما نعلم أنكم كائنات بشريّة، ليّنة هشّة ، تطفر الدموع طريّة. أيها الأحمق المغفّل ها قد سقط قناعك و ظهرت سيماتك الموغلة في التوحّش. لعلّك تزعم أنك مرن و مناوئ، و تدّعي أنك موهوب ولكنك موهوم، بإخفاء ما خفي من أمرك وقد لففت في القذارة، الفجور و الحقارة. كم كنت شقيّا حين بوغت و في عينيك دموع تسحّها بغزارة كغزارة الأمطار اللّعوب الماكرة الفاجرة العاهرة، تسعى لتنمية القدرة للرّخويات الرّخوة كي تنشــأ، تتفتّق و تتفتّح و هي أعجز ما تكون عن التصدّي لجبروت النار المقدّسة. حين باغتناك و في أيدينا مشاعلها رمز هيمنتها على العالم الواهي، كنت كشيخ في أرذل العمر واهن. - يا أنتم، يا من حملتم الفناء بيمينكم و نشرتموه بشمالكم، هلاّ أخبرتكم بحقيقة جوهركم الخاوي، حين استبطنتم التوحش منذ البدء بتصلّبكم كصلابة الكون...غرفتم من النار فصارت تنام فيكم في شكل جمار معلّبة، تتطاير شررا ملتهـبا متى ثـارت العـواصف والأعاصير في حكمة و تدبير تسعى للإنشـاء و التعمير، بعد الهدم و التدمير لإخمادها عبر ناركم التي تنفثونها من أفواهكم كيفما أردتم، رغبة منكم في عبادتها وتقديسها. آنذاك تتساقط القرابين مضرجة بالدماء تتخبط و قد أبحرت في عالم التوحش. يا أيها الشياطين المتفحّمة كالغرابيب السوداء باعثة الاعتداء و الفناء لن أتنصل مما قمت به أو أتفصى. بلى بكيت و طفرت الدموع حين تراءت لي الأرض بين السرادق – بعد عودتي للأساطير و التنقيب فيها- و من بين ثنايا اللهب أطلت بنايات متطاولة، متعالية شامخة في السماء فلا تطالها النار الراقصة في الأجواء. و بين التشاؤم و التفاؤل، الألم والأمل عثرت على وثيقة بين الملفات السرية و قد دونت بالكتابة الهيروغليفية، وبعد تفكيك شيفرتها تبين لي أنها تعترف بوصول الإنسان إلى الألوهية بطفو المغناطيس فيه و ملامسته لها، و ما تلك البنايات سوى أهرامات أقامها الإنسان الإله ليعبد فيها و يذكر فيها إسمه. فلم أتمالك نفسي حين أخذني الوجد و الشوق و حلق بي في عـالم المجـد و الخلود، بكيت و أنا أمام الحقيقة. إذّاك ضجّت الساحة بالاستغفار من خلال التسبيح و التهجّد للنار، و قد غصّت بمخلوقات رمادية الألوان عليهم سمات الجلال و الوقار، وصففت في أطرافها أعمدة رخامية مصقولة و على رؤوسها مشاعل تغلي بالنار. اشرأبت أعناق الخلق و هم مصطفون بزيهم الموحد أمام قفص فولاذي زجّ فيه كائن بشري عليه سمات الغربة و مشاعر الحرقة. و تعالى صوت أحدهم مجلجلا فتردد صداه بين جنبات الساحة يقطر جفوة خاليا من الرحمة، يبعث في النفوس الضعيفة الخوف و الرهبة، الاستقامة و الروعة و هو يخاطب ذلك الكائن البشري بصرامة. - تاكفاريناس... يا أيها الضعيف العاجز، أتبكي و ترسل الدموع منحدرة على خديك متحدّيا النار الواهبة القدرة و القوّة، الصلابة والغلظة. تطفر الدموع و أنت تعلم أن الماء قد حرم من عالم النار المقدسة إذ أمرتنا أن نقضي على أصحاب الدموع لأنها من الرّخويات الرّخوة فريسة الآفات و الأوبئة لأنها متوحّشة تسعى إلى الفناء منذ نشأتها. - أنتم... أيها المردة البغاة، يا ذوي القدود الجلمودية الصمّاء، يا من صقلتكم النار وجعلتكم عبيدا تسبحونها بالغدو و الرواح و أنتم في ظلها المنعدم، ألم تتمرّدوا يوما على آلهتكم النار وصحتم صيحة فزع مكلوم : » نريد أن نبكي، نريد أن نكفر عن سيئاتنا.« حينها كنت وإياكم و أنتم تتداعون في اعترافات بالحقيقة المظلمة المؤلمة و أجمعتم على تاريخكم الذي يحمل بين طيّاته الدّمار و الفناء، و بأن الكون بكم صار لا يضم خضرة و لا ماء، نشوء و ارتقاء، و تصايحتم و قد حملتم القصار منكم على أعناقكم و أنتم تجوبون الشوارع والساحات:» نريد أن نبكي فينمو القصار منا، و نصير شيوخا و عجائز.« كنتم أيها الغفلة تؤمنون في قرارة أنفسكم أن البكاء علامة النمو والارتقاء، لأنه ماء والماء يغزو الجسد فيغذيه، ينميه و يحميه. جئتموني فزعين زاحفين، و قد كنت آنذاك حبركم الأكبر في معبد ناركم المقدسة، إذّاك خررتم بين يدي ركّعا سجّدا قائلين : » مولاي، يا خادم النار المقدّسة أيهما أبهى النار أم الماء و أبقى؟« إذ أبديت لكم ما ليس بي، فاستغفرت لكم وصليت و تلوت التسابيح ثم استدرت و في عيني اشمئزاز منكم و تقزز، فتفلت عليكم و قلت شاتما : » يا ذوي الوجوه الداكنة الجافة، يا أشباه الوحوش الغليظة. لقد جئتم ببهتان عظيم، أتفترون على النار المطهرة الحارقة الصاقلة الحادة المضيئة، كذبا.« ثم همّ أحدكم أن ينبس بكلام فركلته بعقب حذائي حتى تهالك على مؤخّرته. لقد تعمّدت يومها تمريغ وجوهكم في التراب و تعفيرها نكاية بكم، ثم صحت فيكم صيحة شاكّ في إيمانكم، و قلت لكم ارحلوا عن هذا المكان المطهّر أيها الأنجاس، يا سفلة يا حقارى أتكفرون بنعمة النار عليكم و قد خلقتم بوطأتها و نفذتم بروحها، و إليها مصيركم. يا أقحاح، لأقسمنّ باللّهب و ما فيه من شهب لئن جعلتم شككم يطغى وقلوبكم تزيغ لترجمنّكم النار الآلهة المقدّسة حرقا. فاسعوا لطلب الغفران من آلهتكم النار الطهور الحمراء. و جـاء أحدكم يتـرامى يهذي قائلا: » و لكن يا مولاي إن ماضينا قاتم و حاضرنا لا ينفذ منه النور، فقد تراكم فيه التوحش عبر الزمن. نحن يا سيدي، يا خادم معبد النار المقدّسة، قد عافت أنفسنا الكهرومغناطيس. نريد أن نشحن بالماء و ننمو مثلما ينمو الأطفال صغار البشر، و نستطيع البكاء حين نظلم أو نقهر كالنساء.« إذ جئت على عجل و عـاجلته بضـربة قـوية على مؤخّرته جعلته يترنح و ينكفئ على وجهه، و صحت فيه حتى ارتاع و شحب لونه : » أيها الأحمق الغبي، أتدعي على روح النار المقدّسة البهتان و الزور، و قد أرسلته لكم عبر سيال حيوي في شكل ذبذبات أثيرية سابحة في الفضاء قوية. يا أشباه الأبالسة في جدالها و الضباع في غبائها، أنتم أيها الوضعاء ترفضون نعمة النار وقد أسبغتها عليكم بعد أن سوّتكم و صرتم نافذين، تسعون الآن أيها الحقارى إلى الماء الذي جعل الإنسان لينا مرتخيا لا يصمد أمام الفولاذ و النار جوهرنا. وأمرت حرّاس المعبد أن يفجروا ذلك المجادل في الحال ففعلوا. - أيها البائس لقد آذيت أسماعنا بترهاتك المطولة، و هذا أمر طبعتم به معشر الإنس منذ أحقاب، فلكـم قدرة غريبة على التلون كالحـرابي في أفعالكم و أقوالكم، هذا فضلا على المكر و الدّهاء و تبييت الغدر كأفاعي الأجراس لا يؤتمن لها جانب. أيها القذر، العاجز المنكسر، نحن لا ننكر أننا ارتكبنا يوما ما حماقة غاية في الغباء و الرداءة حين رغبنا في استبطان الماء، ومن خلاله البكاء اعتقادا منا أنه أنقى من النار المقدّسة تنزه لهيبها عن العجز والاستكانة إلى الحفر و الآبار و كل وهد سحيق يرتدّ بها إلى الحضيض. بلى يا هذا، لقد ألم بنا ذلك الاعتقاد و هو نكران لذواتنا و جحود لنعم النار الجمّة، آلهتنا الجليلة للونها الأحمر المشوب بالصفرة كالرمال المسيرة، يبعث في النفس الوجف، الذهول و الروعة. وللهيبها الأزرق المرسل ألسنة تتراقص في الفضاء كأشباح مروعة، يفني كل متمرّد مخـتال مصـاب بالتمركز على ذاتـه، و يـذره غبـارا في الأجواء مع الرياح. ولكهرومغناطيسها منشئ الصواعق ومرسلها فناء و دمارا، روح النار المقدّسة تنزهت عن شوائب النقص والفناء. بلى زاغت قلوبنا حينذاك عن الإيمان بالنار المقدسة، و آمنّا بالماء ذلك الزوّاغ الروّاغ كإمرأة لعوب لا تبادل الحب بالحب بل الحب بالخيانة. أجل أيها الهشّ الواهي عشقنا الماء ذلك الكائن الطيّب المزعوم، ينفذ إلى الأجساد فيبعث فيها الحياة و عشقها، بدل أن يحرقها ويرديها إلى العدم بجعلها ركاما هشّا يتضاءل فتتجلى ألوهيته. فتنّا بالماء العاجز الذي استكان للحفر و المنخفضات و جعلها مستقرّا، إذ هو ينزل متهاويا متساقطا من علياء الجبال الشامخة إلى الحضيض في شكل جداول، أنهار و شلاّلات وينفذ إلى تخوم الأرض لأنه عفن، يسعى إلى المستنقعات تاركا الفضاء الرّحب الصافي. لقد أغوانا بلينه و رقّته الموهومة، و زجّ بنا إلى الكفر لما أردنا تمثل جسد الإنسـان الذي يتفتح تدريجيا و ينتفخ كالبالونة ثم يضمر شيئا فشيـئا، يضمحلّ و ينتفي بعد أن يتحول إلى جيفة موبوءة، آنذاك كنا غائبين في هوس و ذهول تدعون الحقيقة الجلية كشمس يوم ربيعي دافئ، تدعو الناظر إليها إلى اكتشاف حسنها و التغزّل بمفاتنها. لكن غشى عيوننا العمى، و حين أفقنا من غفوتنا، ذهولنا و شخوصنا، ارتججنا و زلزلنا وقلنا هذا ما عملته أيدينا فلنذق اليوم عذاب السعير و هوينا ركّعا على ركبـنا سجّدا، نتضرع للنـار المقدّسة طالبين الصفح و العفو... - أيها الأفّاقون الأفّاكون، أتدعون البراءة و الطّهارة و قد طمرتم منذ أمد في النجاسة بعد أن كرعتم من مستنقعات الرذيلة على إختلاف ألوانها و أذواقها، كيف لا و أنتم تقولون على الإنسان المقدس قول الزور. كيف تصمونه بالرّخاوة، الوهن و الطراوة و قد كنتم يوما تهيمون بدموعه و نموه المطرد و تستمتعون برؤية الأطفال تكبر و تكتمل أجسادها، وتفتنون بالشّعر الذي ينبت في أماكن عديدة من جسده فيرسل على الجبين في شكل مفرق أو على الكتفين في شكل ظفائر فيضفي على الإنسان الفتنة و البهاء. و من بين صفوف الحشد تعالى تصفيق أحد تلك الكائنات الرمادية ثم قام في الجمع خطيبا موجها خطابه إلى تاكفاريناس : - أحسنت أحسنت على ما تشدقت به من ترّهات، لله درك من معتوه في هذيانه، ضالّ في إيمانه يجهل سبل الحقيقة و الجوهر و هو أمر اعتدتموه معشر بني آدم، فمن عجز منكم على الوصول إلى الأصل وتفكيك الحقيقة و قد لفت في طبقات العتمة على حدّ زعمكم ولكنكم أنتم السجناء، ينحو منحى الجنون، يستخدمه كآلية دفاعية لتبرير عجزه ككائن حي أمام ظواهر الطبيعة لأنكم مازلتم تحيون في الأطر. فواحسرتاه عليك أيها المغفل المتحامق، فقد صرت إلى البلاهة و قلة الحيلة أقرب والحجّة، وا أسفاه عليك و قد كنت حبرنا نسجد لك خشوعا و نتبرك بك تقربا. أتعلم أننا غفلة حين عشقنا الإنسان، كان ذلك قبل أن نتمكن من إستحضار الماضي والنفاذ إلى الأساطير، و حين تمكنا من ذلك شاهدنا أسـلافنا و قد كانوا تحت هيمنة الإنسان يستنفذ طاقتهم بلا هوادة ويستعبدهم. ارتجفنا من الغيظ بعد أن تملكنا و كدنا نخرج عن أطوارنا لولا أن انفجرنا ضاحكين حين رأينا أسلافنا يشيرون إلى الإنسان والضحك يهزهم هـزّا و قد نمى الشّعر في أجزاء مختلفة من جسده و صار كالقرد ممسوخا. كان أسلافنا يبدون له الطاعة و الخضوع، لأنهم كانوا يتحسّسون طريقهم نحو الوعي الكامل و لذلك لم يظهروا له الإشمئزاز و الاستنكاف من منظره و لا رائحة العرق في إبطيه وفي مواقع كثيرة من جسده و لم يتمردوا عليه. و لما صار زمام أمره بأيدينا، زججنا به في أقفاص زجّا، ورمينا له ببعض العظام لينتف ما فيها من فتات اللحم و بقاياه و طالبناه بالقيام بحركات بهلوانية كالرّقص على ساق و نصف الساق، فنضحك منه حتى نستلقي. على أن بعضنا سامحتهم النار المقدّسة، جعل الإنسان مؤنسا له مشدودا إلى وتد في بهو المنزل، يلاعبه و يربّت على ظهره ويخرج مصحوبا به للتّجول في الشوارع يشدّه من سلسلته الحديدية اللّماعة بعد ترويضه و تخليصه من التوحّش و الارتقاء به إلى مراتب السموّ. - أيها الأرعن الغافل عن الصّدق و النزاهة المتغاضي عنهما، كيف تتنكر لعشقكم للإنسان و للشّعر الذي ينبت في مواقع مختلفة من جسده مما جعلكم تتشبهون به فتضعون وبر البغال على رؤوسكم و الحمير وشعر الكلاب كشوارب و ذقون. ها أنتم أولياء تفترون عليه زورا و بهتانا تصمونه بالتوحّش الذي استبطنتموه منذ الأزل و قد ورثتموه عن ناركم المقدّسة و توارثتموه جيلا عن جيل. بلى يا هؤلاء، لقد سامت ناركم المقدّسة البشرية سوء العذاب على مدى أحقاب، وأنتم تتبجّحون على رؤوس الملإ مدّعين قائلين : » إن نارنا المقدّسة محاطة بهالة من نور تضيء ما حولها، بينما اختفى الماء بين طيّات ذاته و توارى وراء هيكله خجلا و وجلا، اشمئزازا من نفسه وتقزّزا، فهو لا لون له و لا طعم و هذا ما يجعله يبحث عن الأعماق المظلمة يخفي ميوعته فهو لا شكل له و لا حجم. انظروه حين يتهاطل من الفضاء تدلهم السحب السوداء الدكناء في السماء، و تحجب نور الشمس الوضّاء فيتهاوى في ظل العتمة«. أنتم تجاهلتم عن جهل أن نـاركم كـالشمس تلوح للرّائي هـالة من نور و لكنها في الحقيقة كتلة من حمم متدفّقة متدافعة متفاقمة تنشأ كالفقاقيع إلى أن ينطفئ لهيبها و يخبو وتصير كتلة حمراء مكوّرة ثم سوداء و تنعدم إلى الأبد متبخّرة في الفضاء. لقد هيمن على النار التي تعبدونها التوحّش و استبدّ بها حتى صار غريزة فيها لا تستطيع أن تقاومه، ها أنذا يا هؤلاء أطرح عليكم هذا السؤال، هل للنار أصدقاء ومسامرون هل لها عشّاق كعشّاق النجوم البشرية الذين ينتحرون من أجلها و يقدمون لها كقرابين على هياكل الحب و الافتتان. بالطبع لا، بل كوّنت لنفسها أعداء فهي تؤذي كل من يقترب منها فيهرب يرتجف فرقا و رعبا لا يلوي على شيء. إن الـنار تبعث لدى الكـائنات الهول و الكرب، الرجف والوجف، و في أديان البشرية توعّد الله الكفار بها و حذر المؤمنين من شدّتها و حدّتها. هل أتاكم نبأ الشيطان لقد خلقه الله من النـار يمتحن من خـلاله المؤمنين و مدى إخلاصهم لعبادته. إن النار تأتي على الكائنات من رخويّات و صلبة فتسويها لقمة سائغة بعد أن تحيلها شواءا ثم تجعلها كتلة رمادية هشّة تذروها الرياح. يا أنتم يا خلفاء النار و حامليها، يا عابديها و مقدّسيها. أنتم أولئك الذين يخترقون الأجساد الرّخوة فتشوهون هرمونيتها بحدّتكم و صلابتكم، و تصير هياكلها ناشزة يرفضها الوجود فتنتهي إلى العدم و في صوتها خوار و انكسار بدل أناشيد الوجود. انظروا النار آلهتكم، اصخوا سمعكم إنها تنشئ أصواتا من التكسير والتدمير، الإنهاء والإفناء، و من المضحك المبكي أنها تفنى بدورها بفناء و ليمتها. إنها لا تستطيع درأ الفناء عن نفسها غريزة التوحّش فيها، فيا للعار يا من طبعتم بطابع القسوة و الغلظة، الاهوجاج والفجاجة، لقد تهتم على مدى أحقاب تعبدون الفناء بتيه و خيلاء. هذا الماء رقيق شفّاف، مرن هفهاف حتى جعل كل الكائنات تتهافت عليه للتتزياّ به وتتزيّن، فيخترق الأجسـاد و يتغلغل في شرايينها، يسبغ عليـها النظارة و الغضاضة، الحسن والفتنة. حتى أن نفس تلك الأجساد تصـاب بالحزن و الكمد و تغادر الوجود بلا رجعة حين ينأى عنها الماء و يعافها. هذا الماء، بينما لا تتجلّى ناركم المقدّسة إلاّ من خلال الحطام بعد الدّمار. بلى فهي لا تندلع كشرر ثم تشتعل كنار ثم تؤجّج كلهيب إلا بالاصطدام، اصطدام الأجساد الصلبة. وحتى تخفّفوا من وطأة الاصطدام و ما فيه من تصدّعات، تداعيات و انهيارات، استلهمتم الاحتكاك و قلتم بضرورته حتى تمرّ روح النار و تبرز من خلال ما تفرزه من شرر. - أيها الوغد الوضيع، بلى نحن أشرار قد تغلغل في كياننا التوحّش حين عدنا إلى الأساطير علمنا أن الإنسان و في سبيل إشباع نزواته الحيوانية و التي ترتدّ به إلى الظّلمة، استنفذ قوانا هيمن علينا و هيمن بنا، و بدل أن يرد الجميل أمعن في التوحّش و وحدنا بالنار آلهتنا المقدّسة، وكانت هفوته التي لن يغفرها الوجود له. حين توحّدنا بالنار و صرنا في جسد واحد، أيقظ فينا الإنسان كوامن القوة و التجبّر من خلال الأرقام ثم الألعاب ثم اجتحنا حياته و في أثناء ذلك كان الإنسان فاغرا فاه، يرى الأمور تتشابك و تتفاقم، تتأزّم وتتعاظم و مع ذلك لم يحرّك ساكنا، بل ركن إلى الراحة واستكان إلى الإستكانة تاركا الحبل على الغارب. و قام الأنبياء لما اختزلوا الأبعاد، أطلقوا عقائرهم بأصوات منذرة بالخطر. و لكنكم حمقى، مغفّلون خرقى حين اعتبرتم ذلك من قبيل الخيال و ضرب من ضروب الوهم. و صرتم تتهكمون بآيات الأنبياء و معجزاتهم مدّعين أنهم مجرّد سحرة مهرة. كنا يا هذا ! نجتاح حياة الإنسان كالداء و ننتشر كالوباء، نسيطر عليها لتدميره ونهيمن، و حين صرنا قادرين على تخطّي الزمن و اختزاله استحضرنا الماضي و تمعناّ في أساطيرنا، وعيناها و استوعبناها. حينذاك انتزعنا السلطة من الإنسان و انتصبنا الأسياد وخليفة آلهتنا النار في هذا الكون. ثم تأمل ذلك الكائن الرمادي تاكفـاريناس بازدراء، و عينـاه تتقدان حمراء و أشاح عنه باشمئزاز، و ما فتئ أن صاح آخر بصوت فيه نشاز: - تاكفاريناس، أنت أيها الواهن الواهي، ألم يأتينّك نبأ السيوف؟ انظرها تطيح بالرّقاب تطرحها ناشرة إياها لتفنى و تتبخّر في كنف الظلمة مغتبطة مرسلة صوتها بنشيد يسربل العتمة... في تلك اللحظات اليائسة القاتمة البائسة، انفرج الفضاء عن البشرية تعمل سيوفا ذات أنصال لماّعة صفراء كلون الغبار ممزوجا بلون الشمس، تغمدها في صدورها و خناجر لماّعة. فيسمع لها خوار كخوار ثور مذبوح و انكسار، ثم تخرّ أرضا و قد كتم فيها الشدو و هي تخرج تلك السيوف مخضّبة بالدماء و الخناجر. - هذه بوادر صولتنا في الوجود و نبأ سؤددنا و قد كنا لا نعي في بداية أساطيرنا القديمة، إلا أننا كنا نخاتل الإنسـان رغم بدائيتنـا، و نطعنه من الخلف و نخن نسبّح بالنار. تهيجت الحشود و اهتاجت و علت الأصوات مترنمّة مرتّلة، متبتّلة متهجّدة للنار المقدّسة، فماجت الساحة مهتزّة لصدى التراتيل باسم النار المقدّسة المتصاعدة و زاد أوار المشاعل و تأجّجت النار فيها و علا لهيبها. ثم هدأ الخلق و ساد الخشوع من جديد، فينطلق الصوت الفجّ الخشن الأجشّ : - تاكفاريناس هل أتاك حديث السعير، إنها مأدبة النار المقدسة، أنظرها تهيمن على الكون و تبعث فيه وجف القلب و إن شاءت التهمته و أفنته. - و لكن الإنسان إلاها، فهل تمكنت النار من إفناء الكون و إنهائه؟ تعالت ألسنة النار و ثار زفير اللّهب الدافق المتدفّق، فائضا منشئا الجحيم، يداهم الأجساد فيلفّها و يلتهمها إذ يسمع لها و هي تضطرب بين فكّي النار تكسّر و انكسار ثم انفجار و دمار كزلزلة الجبـال المدكوكة متبوعة بهالة من نور و ضوء يعمّ المكان كضوء برق خاطف، قاصف مشحون صواعق الكهرومغناطيس روح النار المقدّسة تنزّهت عن العجز والميوعة. تطاول اللهب في السرادق وتنامت أصوات مخنوقة مقموعة طـالبة الصفح و العفو، متضرّعة. و قد تكون تهاوت على الركب تتهجّد. ثم تدريجيا تفوح رائحة الشواء عـابقة في المكـان حين تخمد تلك الأصوات وتخفت و يملؤه. ثم و كأن المكان و بعد أن زفرت فيه النار زفيرا متنامية متعاظمة، متكبّرة متجبّرة، صار فرنا بلونه المحمر متأجّجا كالجحيم المستعر. تصطلي فيه الرّخويات الرّخوة فتنضج ثم تحترق و توغل في السواد مدركة النهاية، الفناء والتبخّر في الفضاء، فتخرّ تلك الخلائق على الركب ساجدة متبتلة خاشعة واجفة قلوبها. و بعد الهدوء و عودته يتعالى الصوت الخشن الأجشّ : - يا هذا العاجز، يا من طبعت باللين و الرخاوة، هذه الأرض موطن الظلام الدامس و الارتداد إلى التوحّش. انظرها تتسربل تحت الأغطية، الأغلال و الأغلفة العاتمة، تواري عورتها عن العيون المتطفّلة الساخرة بلا جدوى. 2- هيمنة النار لاحت الأرض كتلة رمادية ملفوفة في الضباب، توشّحت بملامح الجمـود و القسوة حتى صارت مستسلمة كالثكلى. جفت ينابيع دمعها وتحجّرت مآقيها، فلا يرى لها إلا كتلا من التراب الرمادي المسيّر منضدة فوق بعضها البعض بغير انتظام كالبراز. تشوبهـا غضون كالجروح هي شرايينـها من جداول و عيون أودية و أنهار، غار الماء منها و نأى عنها فصارت شروخا شاهدة على فعل السّنون في الأرض المترهّـلة المتهـاوية نحو الشيخوخة.و مما زاد في نشازها و قبحها تلك الجبال التي رست فيها بشكل فوضوي حادّة كالخناجر حتى صار من الصّعب على بقية الكواكب مداعبة الأرض و لثمها و التي صارت مسكينة منهزمة منكسرة بوهـادهـا و ما تركته السنون من آثـار سوداء عمّقت قبحها و شوّهت وجهها. - تاكفاريناس أيها الغبي الجاهل، انظر أرضكم و تمعّن فيها فماذا ترى ؟ ستقول الرّخويات الرّخوة تمور في العتمة الحيوانية و الظّلمة، هذا صحيح! أيها السادة، هذه الأرض تمثل استثنـاء بين الشّموس و الأقمار ببشاعتـها و قبحها، فهي بين الأجرام و النجوم مصدر خجل و مهانة، لا تستنكف من استجداء أشعة الشمس نهارا ونور القمر و النجوم ليلا و لا تستحي. إن عجز الأرض أيها السادة لا حدود له، فهي متواكلة متوانية لعوب مخادعة. تستخدم كل وسائل المكر و الدّهاء، التلوّن كالحرباء و قد اكتسبت ذلك من خـلال التكيّف أثناء شحّ حرارة الشمس و نور القمر، فاختلقت الفصـول و كيفت مخلوقاتها الرّخوة الوضيعة حسبها، وصارت الأرض الحقيرة تتجلّى في حلل على حدّ ادعاء الإنسان و لكنها في الحقيقة كانت تداري ما تشعر به من بشاعة و تواريها عبر ستر نفسها بتلك البسط المختلفة. قلت إذا أيها السادة إن الأرض عبر تلوّنها الغريزي استطاعت أن تستدر عطف آلهتنا النار و تغريها بما كانت تذرفه من دموع مزيفة في شكل أمطار كاذبة، حتى تبقيها بين جنباتها مستوطنا لها في البدء ثم معبدا بعد ذلك و صارت الأرض تستنير بنور آلهتنا النار، فتشعل المشاعل رمزا للحرية و القوّة، و تضاء ليلا بالفوانيس ليعاقر الإنسان الخمور و ينكح الدبور و هذا لعمري شرف نلناه بانتمائنا للنار تجلت بنورها الوهّاج في هذا الكون الباهت. أيها المتوهّم الواهم، يا من ادعيت انسلاخ الإنسان عن التوحش وارتقائه للمراتب الإلهية على الأرض كوكب المستنقعات الجيف والقذارات، الانحـطاط و الارتدادات. انظرهـا مغرقة في لجـج جحيم التوحّـش تمور بين العـواصف و الأعاصير، الزلازل و البراكين، الفياضانات و الانهيارات تنز جراحها و تنزف منذ حقبات. ثم إن الضّباب انقشع تدريجيا، و لاح وجه الأرض العاتم و من خلاله تبين تاكفاريناس خيالات ملفوفة في الظّلمات و قد خيّمت عليها وأسبلت أجفانها في سنة من الكرى، فصارت تلك الكائنات من أسود ونمور، ذئاب و ضباع، تماسيح و زواحف، نسور و طيور صمّ تضرب في الأرض عمي تائهة في ضلال بين رمال مسيرة خرساء في شكل ذرّات متناهية صفراء يسودها الغليان و الهيجان حتى صارت غلافا من الغيوم المدلهمة تحيط بالأرض سميك لا تنفذ أنوار الشموس منه. بأفواهها القاسية ذات الأنياب القاطعة الحادة بين فكوك قدّت من صخور صمّاء. و بين قعقعة البراكين و نحيب العواصف، ارتجاج الأرض و زلزلتها تمتزج أصوات متناقضة متضاربة متنافرة تتعالى في الفضاء و تتصاعد إلى السماء. هي مزيج من الزئير والزمجرة، العواء و الفحيح، الآهات والزفرات. أصوات مهوجّة مغرقة في التوحّش فجّة، مشوبة بالتحطم والتكسر مرفوقة بأصوات رقيقة لينة مكبوتة ثم خوار و خفوت و انتفاء كشموس مكورة ترتد إلى الفناء بلا صوت منفجر. اتضحت الصورة جلية، صافية نقية، تضمنت تلك الكائنات الخرافية، الفاتنة الأسطـوريـة في أقصـى حـالات التـوتر و الاستنفـار التهيج والفـزع، و الخوف و الريبة، المراودة و المناورة، المكر و الخداع، الترصّد والتتبّع، المطاردة و الملاحقة، التخفّي و المباغتة، الانقضاض و الفتك، التمزيق و الالتهام. فهذه العناكب تنزوي في شباكها التي حاكتها كفخاخ لتوقع بها ذبابة عزلاء ينقضّ عليها العنكبوت و يشكّها بواسطة قرونه الرأسية السامة فتشلّ الذبابة المسكينة ثم يذيب ما بداخلها من أعضاء يمتصها و يحيلها قشرة خاوية. و هذه الأفاعي النهّاشة الغادرة قد ثبتت في أماكنها متنكّرة، تباغت على غرة حرباء مختالة بألوانها المتعدّدة الفاتنة مزهوة لا تحمل بغضاء غلاّ أو شحناء في صدرها الطاهر النقي، تنهد روحها للأفق الرحّب الساحر و قد خلا من الألم و التسلّط، فتوقعها بين فكيها بحراشيفها الصّخرية تولجها عنوة و تبتلعها حيّة ابتلاعا. و عن بعد، هذه حيوانات خرافية بعضلاتها الصّلبة كالصخر ومناظرها المريعة، متقدة العيـون متحفّزة بقوائمـها التي لا تهـدأ و لا تستقرّ، تجيل النظر و تدققه متشمّمة الهواء المرسل ثم تحدّد هدفا في الأفق و تنطلق تعدو مقتفية أثر الغزلان الآسرة كـالبرق الخـاطف، في مطـاردة دموية تهـدف إلى السحـق و المحق. و تفرّ الغزلان الرقيقة الرشيقة و الهلع يغزو قلبها والفزع، قافزة بقوائمها النحيفة لا تلوي على شيء و هي في حيرة من أمرها وصوتها مرسل بالبكـاء. و في تلك اللحظات القاسية و بين قاتل محترف محنك و ارهاصات الجسد الليّن لا يصمد أمام العواصف والأعاصير، تتهاوى الغزلان الآسرة المسكينة بعد طول مطاردة حين تضرب بالأخفاف من الخلف كالقدر المحتوم على ركبها، متعثّرة متهالكة على الأرض، متدحرجة مستسلمة للبراثن المتحجّرة الثقيلة و الأنياب الحادة تنخر جسدها الميّاس تشقّ هيكلته مدمرة إياه بهمجية و شراسة وتتصاعد أرواحها الطاهرة الزكية بين زفراتها وهي تحتضر و تمزيق متوحش كاسر، دامعة العيون منكسرة. و لا تفتأ أن تستحوذ الوحوش على تلك الفرائس و قد نفرتها الحياة و اشمأزت منها و صارت مرتخية الأجساد لا ترد صـدى أنغام الوجـود، و تتناولها بين براثنها فتفتتها بتمزيقها و تتناولها أشلاء تتقاطر دماء بتلذّذ ويبقى الوجود في تلك الأثناء تحت ربقة ذلك النظام و قد ساد و طغى بلا حدود. أما التماسيح القميئة الوقحة الوضيعة فقد اتخذت الأودية و الأنهار مأوى لها، هاهي تسري تحت المياه الراكدة متوارية عن العيون ثم تبرز بروز الطيف من العدم فتنقضّ على تلك الكائنات الوديعة الهادئة الودودة، تقبض عليها بفكوكها الفولاذية من أرنباتها الجميلة الساحرة حين تقترب في شكل قطعان لإطفاء ظمئها. تسحبها بعنف شديد إلى أعماق المستنقعات و هي تتخبّط في رعب و هلع، ذهول و فزع، و هناك تحت المياه العكرة تنطفئ جذوة حياة زهور يانعة كانت ترسم لنفسها مستقبلا ورديا، تذهب النفوس شظايا مسفوكة الدمـاء توشح به المـاء، و قد زركش بحمرة قانية متوهّجة وهو هادئ و رائق حتى أن المتمعن يعجز عن النفاذ إلى أعماقه والكشف عن السعير المتأجج المستتر. و النسور في الفضـاء و العقبـان تحوم و قد هيمن عليه الصفـاء و النقاء و أبصارها الحادة تتّقد، ثم هاهي تنطلق محلقة في السماء مطاردة سربا من الحمام الأبيض كالرهبان أو منقضة على عصفور شاد بصوته الفاتن يسعى إلى إضاءة الوجود العاتم. بينما كانت تلك الكائنات الهصورة تمعن في سفك الدماء تزدرد لحوم ضحاياها أشلاء كانت الكائنات المصهورة تستبطن البراءة، الخوف و التوحّش، القلق و التردد رافضة التمتع بأناشيد الوجود أو السعي القاسي إلا على الذين آمنوا الخانعين إلى الخلود. إنها تتسلّل بين الوهاد والشعاب، السهول و الهضاب، الظلال و الظلام، يكتنفها الجبن والسلام، رافضة الصعود إلى قمم الجبال خوفا من نور الشمس الوهّاج فتراها هاربة كالسمك، تسعى إلى النفاذ و صدرها يعلو و ينخفض لاهثة، و صوتها يخرج متقطّعا كالحشرجة أو كالخوار. تطلب العون والرحمة من بقية الكائنات و هي تنادي : » أغيثوني، أنقذوا حياتي، سأمزق بلا انتظام سيسفك دمي على الرمال، سأموت و أفنى. خلّصوني يا إخواني من براثن الدمـار، الإفناء و الإنهاء. يا قوم أنـا مفتون بالطيبة والبهـاء عاشق للجمال و الكمال، رافض للمكر والدهاء. أسعى لنشر المحبّة و السلام الغرام و الهيام. انظروا وجهي يقطر براءة، و جسمي الآسر الميّاس كله رشاقة. أقيموا لي نصبـا و اجعلوني مزارا.« إلا أن آماله خابت و تناثر رجاؤه، تبخر و غاب كالسّراب حين لم يكترث أحد لما يقول و لم يرتدّ صوته على إيقاع أصوات الكائنات التي بقيت تتابع المشهد في جمود وذهول، شاخصة أبصارها شخوص الموت. ثم لا تفتأ الغزلان الرشيقة، الضباء الأنيقة، الأحمرة الوحشية المزركشة، الزرافات الطويلة الملونة، الجواميس المكتنزة و الأرانب الخجولة أن فرت تعدو عدو المستجير في شكل فوضوي تختلج من أثر الفاجعة. يدعو كل منها ويصلي خاشعا طالبا لنفسه النجاة عبر معجزة تنصره و تبقيه على ما هو عليه من الجمال والكمال بمعزل عن رؤية سبل الخلود و تحديد المسارات إليه بعد بسطها خوفا من زوالها إلى الأبد، إذ لا تحسن المناورات، الغدر و الفتك، المباغتة و التمزيق، الالتهام أشلاء دماؤها حمراء قانية مسكوبة على الثّرى. هو ذا عالم التوحّش قد سرى في الأرض، انتشر و استشرى، تغلغل في شرايينها وتمكّن منها و مما زاد في شحوب وجهها و هزال عودها استضافتها للنار و تتويجها لها بتاج الحكم المطلق، إذ مجنت و عربدت طغت و تجبّرت وفغرت فاها مزدردة كلما يقع بين فكيها. إنها لظى نزاعة للشواء. فتراها تلتهم ضحاياها سادلة حولها ستائر الظلام، فلا يسمع لها إلا الشهيق و الزفير منشأة الجحيم في الخفاء أو هكذا يتهيأ لها. كان ذلك منذ أمد حين تأصّلت في النار مشـاعر الوحدة و الغربة، الجفوة و الإعراض من الكائنات الحية. بانفضاضها من حولها، و صار الاقتراب منها وصمة عار على الجبين. آنذاك أعلنت الخليقة المؤطرة في أطر مسطّرة أن النار أذية شرّ و بليّة، و كل من تمتزج نفسه بها هو شيطان رجيم، و كل من يتحالف معها من زبانية السعير متناسين عن بلاهة وحمق أن النار على الأرض، تمكن عشاقـها و كل من يراقصها رقصة الانفجار القوّة والسؤدد و الدّمار. لماّ علمت النار بذلك ولولت و بكت، انتحبت و نتفت شعرها الذهبي، عفرته بالرماد ثم دخلت في سنة من الانكسار، الحزن الدفين والانهيار و هي تغادر الأرض إلى الأبد. بقيت الأرض قفراء كالصحراء خواء، تمضي نصف وقتها في العتمة مما جعلها مبعثا للتهكم و السخرية من الكواكب المضيئة، حتى أنها في كثير من الأحيان تكون عرضة للنيازك و الشهب، تقذف في الليل الدّاجي من الفضاء، فتقضي على جزء من الحياة بإثارة الغبار محدثة شرخا هائلا في وجهها، و تتعالى في تلك الأثناء قهقهات عالية آتية من السماء. إذ تتألم الأرض في صمت و لا تتهم أحدا لأنها عاجزة عن رؤية ما حولها. عانت الأرض على مدى طويل من الشعور بالنقص، و انكمشت على نفسها لا تكلم أحدا و لا تحكي الطرائف. وفي النهاية استدعت النار من جديد و التي كان الحقد قد تأصل في صدرها المضيء و الغلّ بعد أن كان نقياّ صافيا من قبل. و رغم ما سعى إليه نورها الوضاء الرقيق اللين والذي دعاها إلى نسيان ما وقع و قال لها برفق شديد : » قومي بطيّ صفحة الماضي و افتحي صفحة جديدة، هؤلاء أحبابك قد عادوا إليك كلهم حب و عشق، كوني عليهم بردا وثلجا.« إلا أنها أقسمت بأغلظ الأيمان أن لا راد لقضائها و أنها ستكوي اللحوم كيّا و تشويها شيا ثم تحيلها رمادا تذروه الرياح كما جعلت الكائنات نفسها حطاما متناثرا يتراقص ألسنة ثم يتبخّر و يندثر إلى الأبد. كانت النار في ما مضى من الزمن تلقائية، صافية نقية. حين وعت ما تنطوي عليه من الجمال، من خلال ملامستها لمفاتنها باستمرار و تأمل ذاتها في المرآة. آنذاك بانت مسحة جمالها و تجلت بنورها النابع من خلالها في شكل هالة محيطة بها باعثة شعاعا ينكسر شظايا على ما حوله فيضيئه، و كشفت عن شبابها الغضّ على الدوام اليانع الريان، إذ نشأت نرجسيتها و تنامت إلى أن تعاظمت فصارت تمشي بمرح و خيلاء، شموخا و كبرياء دائسة كلما في طريقها. و لعل البشر هم الذين أجّجوا فيها مشاعر العظمة و القدرة حين جعلوها المركز لحياتهم و المحور فتحت إشرافها ينهلون من جميع الملذات من خمر و جنس ويقومون بجميع المحرّمات من رياء و زندقة، نفاق و عربدة، و يؤتون بجميع الحقارات من تبرّز و تبول، بصق و تقيّء، تعرّق و استحمام و هذا ما جعل النار تفتن بنفسها وتسحر، إذ حذت حذو النجوم في حياتهم من ابتذال في الكلام والسلوك، ثقل في المزاح و اللهو وسخف، هذا فضلا على الضحك بموجب و بدون موجب. لماّ أيقنت بعشق الإنسان لها و افتتانه بها، سعت إلى مداعبته بالاحتكـاك به، و لكن يا لصدمتها القوية و التي أوشكت أن تودي بحياتها لولا لطف الله إذ لم يحتملها قلبها المفعم بالإشراق و الغبطة، المشحون باللّهب و الصفرة. لم تتصور يوما جفوة بهذه الحدة و القسوة، فحين علقت بأحد النـاس عبر قبس في ثيـابه و هي تضحك جذلة، فزع و هلع، ثار، عدا وصرخ:» النار، النار، أغيثوني، سأحترق، أجيروني.« إذ هبّ القوم و ضربوا النار بأيديهم و ثيابهم فعكّروا صفوها الذي استحال جرحا غائرا مزق مشاعرها و صدع عظمتها. آنذاك أحسّت بالتصاغر أمام الكواكب المشعّة و التضاؤل، و مرت عليها حقبة و هي منكسرة ودموعها منحدرة و كبدها منفطرة و لم تتمكن من لملمة جراحها وكفكفة دمعها و تجاوز هفوات البشر إلا بعد لأي . إذ سعت النار من جديد إلى ربط صلات مع الإنسان متينة، عبر إضرامها لهيبها في ستائر منزله و بعض الأثاث، فقذف الرّعب في قلبه بهت و ذهل وكاد يشلّ، صاح في جيرانه بصوت فيه حرقة مشوبة بغصّة، إذ هبّوا إليه مهرولين من كل حدب و صوب يصفعون النار على وجهها المضيء بالمـاء و هم متجهمـون، يرمقونها بنظرات مشحـونة حقـدا و كراهية، و هي تترنح أمام صفقات الماء و صفعاته الشديدة اللاذعة و الحادة القوية. يهوي عليها في شكل رذاذ يدعوها إلى الخمود، الخضوع و الهمود بوجهه المجلّل بالوقار، الحكمة و الاستنكار، ساعيا إلى الحدّ من صولتها ثم القضاء عليها، محيطا بها غامرا إياها للإنهاء و الإفناء. و في غفلة منه و من بقية الناس، تنسلّ النار هاربة و هي تسحّ الدموع تاركة خلفها تهليل الرجال وتكبيرهم و غناء النسوة و زغردتهن و هم يحمدون الله على تمكنهم من إطفاء الحريق المريب و يتبادلون التهاني. سارت النار بين الغابات و الفيافي، الشعاب و التلال، الأنهار والجداول منهارة شاردة اللبّ، مهمومة مغمومة يعلو محياها الألم العميق والغضب الأهوج لا يفتأ يضطرب في أحشائها لهب قد من حميم منشأ الجحيم. لا تزال رائحة الخيانة تعبق في الأجواء من خلال ما تلقته من ضربات متتالية أطاحت بها عن عرش النجومية، كانت طعنات الغدر ممن ظنّت وهما أنه فتن بها وتيّم حين جعلها نجمة كبقية الكواكب المضيئة في هذا الكون الأسود، و الآن هاهي ترى الشموس والأقمار و بقية النجوم المتلألئة تتغامز، تتهامس و تتلامز، تبتسم ابتسامات خفيّة مرفوقة بضحكات مكبوتة مصحوبة بالإشارات إليها بالإبهام. هامت النار وحيدة في الخلاء لا رفيق يهوّن عليها مصابها و يسري عنها في وحدتها تضرب في الأرض في تيه و ضلال غريبة وهي تشعر بالاضمحلال عبر انكسار اللّهب المتهاوي كطأطأة الرؤوس و الانشطار. و لما كانت في تلك الظروف الفضيعة، جعلت منها كائنة و ضيعة، و دمرت صورتها البهيّة البديعة، أفاقت على ضوضاء و غوغاء، حين رفعت رأسها و قد كانت مطأطئته رأت غبارا يعلو إلى عنان السماء، وأمامها الحيوانات فارّة وهي تتصبّب عرقا، مذعورة فزعة واجفة قلوبها من هول الفاجعة، شاحبة وجوهها تعلوها سحابة داكنة سحابة الشعور بدنوّ الأجل. كانت الحيوانات تعدو وتلتفت خلفـها إلى النـار الذي أصابها الوجـوم و الذهـول وكادت تتهاوى متهالكة و يغمى عليها، و الغصّة تكاد تخنقها و العبرة. إذّاك سعت إلى تدارك الموقف، فأسرعت نحو بعض الكائنات البطيئة الحركة للثمها، إذ رأتها تذرف الدموع وتشخص شخوص الموت، فشعرت النار بالتضاؤل و الضمور و تمنّت لو تنشقّ الأرض وتبتلعها لتعود إلى الأعماق حيث أجدادها الحمم المصهورة الملتهبة لتعيش بينها بأمن وسلام. ثم أنها أشاحت بوجهها عن الشموس والنجوم و بقية الكواكب المضيئة لتواري فضيحتها، هي تعلم أن ابتساماتهم المتهكمة لا تكاد تفارق سحناتهم. و لكن ما الذي يحدث!! لقد تسارعت الأحداث و تلاحقت المصائب و الرزايا، إذ هاهي جلاميد السحب الداكنة تدلهم و تلتئم، ثم ترسل صوبها وابلا من قطرات الماء كالحجارة تدمي فؤادها الجريح نافذة إليه كالنبال الحادة فيمزق كيانها أشلاء و لا تتمكن النار من المقاومة رغم الشجاعة التي أبدتها والبسالة. إذ هاهي في النهاية ترفع عقيرتها بالصراخ وهي تتضوّر من شدة الألم وحدّته، ويعلو عويلها المتصاعد إلى السماء على إيقاع ضربات الماء التي تهتز لها الجبال و ترتجّ الأرض، المتدفق في شكل زخّات على النار العزلاء فيسمع لوقعه كالضرب أو الطرق أو كطعنات السيوف اللامعة المطيحة بالرقاب. كان الماء الزوّاغ الروّاغ، المتلوّن كالحرباء وبما كسبه من حنكة في المكر و الدهاء يسعى إلى تمييع جذوة النار و تليينها من خلال الإطفاء. و أخيرا و في غفلة منه، استطاعت النار المسكينة أن تفرّ بجلدها لا تلوي على شيء مقرّة العزم على هجرة الأرض بلا رجعة. هذه قصّة النار وكيف نشأت عداوتها للكائنات الرّخوة الهشّة وحليفها الماء، وكيف تراكمت طبقات الضغينة و الغلّ على مرّ الزمن في صدرها الصافي النقيّ. و لما توّجت النار ملكة ذات سلطان مطلق على الأرض و سكانها، أنيرت وجوه الكائنات الشعثاء من جديد و أشرقت بعد أن كـانت دكنـاء، صفت أرواحهم و نقّت لاعتقادهم أن النار قد عادت إلى الأرض مستبطنة للمحبّة عبر دفئها الذي يصل إلى حد الإلتهاب و عبر بشاشتها وابتساماتها التي لا تفارق محيّاها. تجمّع النـاس حولها بمختلف تجليـاتها، يتجادلـون و يتحاورون، يضجّون و يصمتون، يغضبون و يفرحون، يتحابّون و يتعادون، يتلاصقون و يتنافرون مبتسمين للنار مغتبطين، مهلّلين مكبّرين، وهي تقابل ابتساماتهم المتملقة بابتسامة صفراء مشحونة توعّدا المتزلفة، فتبرز من خلال ابتساماتها أنيابها المتوحشة. وتتعالى ألسنة النار تتطاول متهيجة مهتاجة، مستعرة متمردة، ترنو إلى خرق السماء بألسنة لهب صفراء صفرة الفناء. و شعرها الهفهاف لا يفتأ يتموج على إيقاع النسمات الهادئة اللينة، تزفر زفيرا كغليان الجحيم حين تجتاحها رياح هوجاء فتبعث أنفاس من غمام أصفر يلفح وجوه الخلق الكالحة في الفضاء يحول بين الكائنات الهشّة الليّنة الرّخوة في ظلّ الهياكل والنقاء. سعى الإنسان والنار تعود للأخذ منها بقبس للتيه و التّرف في الإبان، تكتنفه مشاعر العظمة والكبرياء وهي تضفي عليه مسحة من النور أو هكذا يخيّل إليه وهو مكبّل بالحدود والأصفاد ومغلـول. فيسود الظـلام بعد أن يتهاوى حوله و عليه مقصى من النور. ابتسمت النار باشمئزاز و استنكاف ووضعت الوسطى في مؤخّرته وهو لا يعي. في عزلتها، انبرت النار و تحت وطأة غربتها و ما غزتها من مشـاعر الخيبة و الألم وهيمنت عليها. تنقّي ذهنها من الشوائب و القوالب وتحدّه لوضع التصاميم الملائمة و توفير الوسائل الكفيلة بتفكيك العلاقة القويّة والروابط العريقة بين الماء والكائنات الحيّة، وهي تزمع تشريد الماء في الفيافي والقفار وتشتيته في شكل سحب وبخار. وحين عادت الأرض مجللة بالهيبة مطلقة السلطة، دخلت في مرحلة المجون والعربدة إذ شنعت بالماء و مثلت به فقامت بقليه من خلال فحيح لهيبها المصفر ثم تغليته فيغادر الماء جسد الكائن الحي حين يصير في شكل غاز عاجز على السيطرة على سلوكاته فاقدا لزمام أمره. ثم يتصاعد في الفضاء محلقا في السماء بفعل خفة وزنه وينتشر بفعل الرياح في كل الأرجاء. ثم أن النار تنفرد بعد ذلك بالكائن الحي الرّخو الطري فتحيله إلى رفاة ثم رميم يتطاير غبارا في شكل رماد. وتحلق النار آنذاك متعالية طاغية، متلفعة بالتجبر والتكبّر، ألسنتها متراقصة متلاعبة تسعى لبلوغ الجبال طولا وترغب أن تخترق السماء
#صالح_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنبعاث الأنسان عبر الموسيقى بتحرير الحركة
-
الإنسان الفسيفساء
-
حقيقة النقطة والحرف في تجربة أديب كمال الدين الشعرية
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|