غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2206 - 2008 / 2 / 29 - 10:56
المحور:
الادب والفن
غريب عسقلاني - مقاربة نقدية
الواقعي والمتخيل في القصة القصيرة
" قراءة في قصص عودة كنعان لعمر حمش"
في مجموعته القصصية الثانية "عودة كنعان" يقدم القاص عمر حمش عشر قصص استثنائيةً, كتبت ما بين عامي 1989,1996 سبع منها ترصد الانتفاضة والمخيم, وثلاث تقف عند سؤال ما بعد الفعل.
والكاتب مؤرق يسكن نصه ويتعذب به قبل أن يطلقه محملاًُ بأسئلة الحياة والفن, لذلك يستدرك, ويلفت نظر القاريء في قصة الفاتحة "1989" فيعرض حاله, متوتراً نازفاً يفيض بالألم, يقيم في لحظة المكاشفة بين الغياب والحضور/المعايشة والحلم, يقبض على حقيقة الوجد, ويتجلى عند الموت.. يتقافز مثل الحبة في المقلاة, كلما وطأ اليابسة تشويه نيران الواقع, وتدفعه إلى غيبوبة العشق, يستنجد بالعبق /يتلفع بالشذى/يمتطي الأثير/يركب البحر والنهر إلى جنة من عصافير وأشجار, يعبر إليها "ضميني, أعصريني حتى أذوب, صبي في أذني حكايتكِ.. اهمسي بآخر أخباركِ.." عاشق ينفلت من كوابيسه إلى جنان عشيقته, يعيش الوقت.. والوقت انتفاضة وناس وعين الله على دنيا الله/المخيم.
وفي قصة خيط القمر,1989 يمارس الناس علاقة شديدة الخصوصية بين الواقع والحلم "بيتنا في المخيم تحت القمر, والقمر تفاحة محروقة, خيط رفيع يربطنا به, نهتز.. نهتز, القمر جميل, لكن لو انقطع بنا الخيط, سوف نهوي في الفراغ السحيق.." مَن شوى القمر, ولِمَ الخوف من انقطاع الخيط؟ هل هو قدر المخيم اللحظة, قتل وخصب ومواجهة واختبار للخروج من مدار الحالة/الاحتلال, والوسيلة عشق حتى الموت, والوطن حقيقة عارية يضع على المحك إنسان المخيم الفقير إلا من وجده, وعين القمر تشد من أزره.
لكن المخيم طارىء نزق لا بنفك عن ترديد السؤال, "من الذي أتى بك َتحت القرميد والصفيح: من حرق بساتينك وما زال يترصدك يطفئ فيك بلورة الوجد؟؟"
في قصة عصا وكفن, الجد فقد البصر في خصومة مع البشاعة, فسار على هدي البصيرة, دليله حفيده رشيد, يقيه عثرات الطريق إلى المقبرة, حيث مسكن الروح0" منير غطى انسحاب رفاقه حتى الطلقة الأخيرة و.. " العجوز يحضن الشاهد/رأس منير, يتواصل معه حياً/ميتاً, وخيط الوصل بينهما آيات الله البينات."
لكن صباح المخيم ذلك النهار أخذ الناس إلى رقص مبكر, المخيم يعلو ويهبط,والحفيد رشيد قفز بحجارته المسنونة قبل أن تسخن عين الشمس,"المخيم يقفل مداخله ويفتحها, يطلق أزقته, الأزقة بنادق تطلق الآدميين",ورشيد انطلق بقوة المقذوف,"ذراعاه صغيرتان نعم, قدماه صغيرتان, أسه بطنه.. عيناه ضيقتان.. " المخيم يعيش الذروة, الجد يقبض على عصاه.. الطفل يجري ومن خلفه الجنود, عبر الطفل إلى حضن الجد, يحفظه الجد عند مكمن الروح "كهف لحمي تأتيه اللكمات والرفسات, والأعقاب تدك حصنه المستعصي,يفكون الحصن ويقتادون الطفل, ويتركون العجوز شاخصا في العتمة, يسترشد بقنديل البصيرة..
فهل أرسلت القصة إشاراتها من بين السطور وفواصل الكلمات؟
في قصة النصف الآخر,1990 تداعيات جريح منتفض بعد آخر حجر, وبعد رشقة قنص "سيف محمى قصني.. امتطاني شيطان عبث برمح في جرحي.." في الطريق إلى المستشفى انطفأ شخير جاره المصاب, رأى الموت يزحف في أركانه ويأخذه إلى طنين الغيبوبة, استجمع قواه وفتح عينيه.. كل ما حوله أبيض و " إزميل يخرق, منشار يروح ويجيء, أجزاء مني تنفصل, أنقسم إلى نصفين.. أين ذهب نصفي الآخر..؟" تسحبه الغيبوبة والمخدر, يلوح له حجر, يقذفه إلى قمة الجبل, يهاجم التنين.. يصحو على صوت المنشار والازميل..يسقط في قرار البئر..
لغة متوترة, نازفة, قاطعة, مجنونة تعيش لحظة الحقيقة بين البطولة والفجيعة, يعجز الفن أمام مفردات واقع قفز عن حدود التخيل.. فهل أطلق المخيم لغة بمفردات مغايرة؟؟
وفي قصة ثوب فرح1991, تألقت شمس الصباح ضاحكة, فحضنت الصبية الدفء وانطلقت إلى الخياطة, لتستقبل خطيبها الذي سيتحرر من المعتقل بعد ثلاثة أيام فراشة بيضاء..وفي طريق عودتها فاع المخيم, وطير الأطفال والحجارة ودفع الجنود لمطاردة الخلق.. رأت الضابط يصوب نحو الفتى, طارت كما الناس, ودفعت الفتى عن مرمى البندقية, وسقطت مضرجة, مسربلة بالحلم, فراشة لها جناحان من ضوء, وحبيب سيخرج من المعتقل بعد ثلاثة أيام,..
كيف تتشكل اللحظة في المخيم؟ فالشمس التي أشرقت ضاحكة أمست كاسفة تذرف دموع الذهول..
في حكاية عمران ولوح الصفيح 1994, وجه آخر للمواجهة بين عمران الطالع من تحت سقف الصفيح المثبت بحجارة ثقيلة لمواجهة الريح, وزميله في العمل كوهين الذي يتسلى بقرص مؤخرة استر,ويذهب إلى جندي احتياط لقمع الانتفاضة في غزة..
والوقت ليل ومنع تجول, وشتاء وريح غاضبة, ومطر, ولوح الاسبست يتمرد على الريح, ينهض واقفا, يترك فجوة في السقف تضخ ماءً وصقيعا على الزوجة والأولاد, تتسرب فيهم رجفة موت.. عمران يركب السقف, يباطح اللوح والريح, يتصدى للعاصفة.. يراهم.. جنود الدورية ومعهم كوهين يلوذون بالجدران يعيشون الخوف.. وكوهين يده على الزناد كي يرجع سالما سليم الأعضاء لإستر.. عمران يعيش جنون الاختيار, هل يهبط باللوح عليهم أم يسد فجوة السقف أمام مزراب المطر؟؟ لكنها الرصاصة انطلقت وجندلته..
لحظة فارقة تسوق الفلسطيني من موت إلى موت, والمخيم باعث الحالة والشاهد عليها..
وفي قصة حمامة الفتى1993, تدخل الحالة في مدار المقدس, فيشع الفتى بضوء الله, ويسطع كالحقيقة يهتف " سدوا الشوارع.. واغلقوا الطرقات.. " ويندفع في المخيم.. تصبح الأزقة واسعة باتساع دنيا الله.. يعالج الفتى حافلة الجنود.. تنقلب.. تحترق.. ويصبح الفتى شهيداً, طار وسكن قرص الشمس..
يقام الضريح حيث سقط الفتى, وتسكن بلاطته حمامة بيضاء, ويزحف الناس على إيقاع الوجد.. تطير الحمامة فوق الرؤوس.. يندفع الناس كل في اتجاه, كل واحد منهم يتمنى أن يكون اليوم دوره..
لا حدود تفصل الواقع عن الخيال عندما يسكن الفتى بيت الأسطورة, فالفعل في الانتفاضة يصعد بمعطيات الواقع إلى جنون تجاوز الممكن إلى ممكن أسطوري يلملم ما تناثر من شظايا الوهن والضعف, ينفخ فيه حياة تتجاوز المدرك بطاقة حلم يرقع من ثدي الواقع, فتتجمل الأسطورة بنبوءة الفن, وتطلق الفتى حمامة بيضاء كما سريرته..
***
لم يقف الكاتب عند التسجيل, ولم يؤرقه التوثيق لحفظ الذاكرة, فالأمر لديه تجاوز إلى التقاط مفرزات الواقع للوصول إلى الطاقة الكامنة وتفجيرها من جديد في كيانات قصصية تليق بالفعل مبنى ومعنى, فالفعل الاستثنائي يتطلب أدوات استثنائية, فالمدهش أصبح بفعل التكرار اليومي عاديا ومألوفا, والمفاجئ بات متوقعا, والسري معلناً.. صار الواقع أوسع من الفن, فكيف يمكن ترويضه ولذا كانت الحاجة إلى معمار خاص, لتحميل اللهاث على جملة قصيرة متوترة, تأخذ المفردة فيها دور متفجرة فنية في زمن انضغط في حيز اللحظة, ليتجلى السرد في ضيق العبارة واتساع الرؤيا, ما يدخل اللعبة في مساحة الحلم لأسطرة الواقع المؤسطر على الأرض, فتحضر الفنتازيا على أصداء فعل ملموس, وتصبح القصص شهادات استثنائية مضمونة البقاء..
فهل استمرت الحالة على ألقها في نصوص ما بعد الانتفاضة؟
هنا سؤال الدهشة السوداء..
في قصة سيف عنتره, نرى الذبح من الوريد إلى الوريد.. الانكسار, الاختناق, وبطل القصة/الراوي يهرب إلى السوق حيث يتجمهر البسطاء والفقراء حول الدلال/المهرج يعرض ويسوق نفايات الاسرائيلين من ملابس وأحذية وأدوات ينادي عليها في مزاد رخيص, قميص بشاقل.. شاقلين.. بنطال.. حذاء.. يتكاثف الحشد من حوله.. يندمج الدلال في لعبته, يطبق الاختناق على بطل القصة يسقط بين أرجل الجمهور اللاهث خلف المنادي, والبضاعة تتطاير في الهواء لتسقط في يد المشتري الذي توقف عنده المزاد, يركب البطل طائرا أسود ويحلق في المكان, فيلوح له من بين الناس عنترة العبسي بذؤابات شعره الأجعد, وسيفه المدلى من وسطه.. يعرض الدلال سيف عنترة شاقل.. شاقلان.. ثمانية.. يعرض في المزاد عنترة مع سيفه.. العيون تلاحق عنترة.. يتبدل الفارس.. ذؤابتان طويلتان ولكنة غير عربية,.. فهل أصبح دلال السوق ليس عربياً؟.. يصحو البطل, ويجرجر جسده بعيداً عن السوق كسيرا يمضي مثل الوقت..
هل انقصم ظهر الوقت, وصارت حمامة الفتى غرابا ينعق بتسويق ما بعد الحدثً؟ وهل استطالت ذؤابات عنترة جديلتين جواز مرور إلى المعبد "الكنيس" للصلاة بلغة غير عربية؟! سؤال حارق أمام ذهول الوقوع في شرك الخديعة, وقد انسحب المخيم الذي اتسع باتساع دنيا الله إلى زاوية منسية في صحراء بعيدة..
أسئلة تقرع رأس من ذاق حلاوة العشق, وانتهى إلى علقم الحصاد, فهل يعود إلى بوابة الحلم من جديد؟؟
في قصة عودة كنعان 1996 يعلن الدرويش عن ظهور كنعان, فيراه الكفيف, ويجري خلفه الكسيح, وينطق بخبر العودة الأخرس, وينتشر بين الناس أن كنعان انبثق من عمود النور, واجتمع الناس بانتظار للبحث عن مزيونة.. أعلن الأخرس أن كنعان نزل في زقاق المذبحة, ومضى باتجاه المقبرة, فتذكر الناس كيف حصد كنعان اليهود وغادر..
وفي المقبرة شاهدوا كنعان يخرج من الكهف, والطيور تحوم في السماء, كل طير يحمل شمعة يهبط بها عند شاهد قبر..فدوت ريح صفراء, فخرج من كل قبر من نفض التراب عن كفنه, وامتشق عصاه ومضى.. وصحا الناس مخنوقين, واكتشفوا أنهم جميعا عاشوا ذات الرؤيا في نفس الوقت..
فهل يعود الشهداء؟ وكيف؟
وهل دفن كنعان الانتفاضة وحظر عليه الحلم؟ أم هي رؤيا الاستمرار في الصراع حتى استرداد مزيونة؟
وهل هذا ما يتبدى في قصة عن المغدور والحضور الثاني لكنعان 1996عندما تدافع الناس في ضوء القمر فصاح فيهم:
- لا تدفنوها
فصعدت المغدورة على نعشه, وجلست ترنو للنائحين, وطعن الدرويش وجهه بين الفكين, وأبقى السكين في اللحم مثل اللجام, فهام الكفيف, وقفز الكسيح وجلس بجانبها في النعش, وهرول الأخرس وحلقه يئن بلا صليل.. وعندما وصلت الزفة إلى القبر المفتوح, اختلفت الروايات حول ظهور كنعان وذهاب المغدورة, وقيل إن الناس ساروا إلى يابسة لم يخترقها طبال ولا زمار, وكانوا يغنون, وأن المغدورة كانت على الأكتاف تختال بثوب أبيض فضفاض..
فهل في ذلك تبشير بانتفاضة قادمة لتصحيح الأخطاء التي لم يرتكبها ناس المخيم, ولم تشهد عليها شمس الله؟
وبعد:
فقد قدم عمر حمش قصصاً لافتة تثري مشهد القصة القصيرة الفلسطينية, تجيد الغوص في أعماق اللحظة, وتعتمد اللغة أداة أساس في المعمار بتحميل المفردة دلالات ورموز تأخذنا إلى منطقة شفيفة بين الواقعي والمتخيل.
-------------
*عمر حمش كاتب فلسطيني يقيم في مخيم جباليا, ويعمل في مدارس وكالة الغوث, نشر قصصه في الدوريات الفلسطينية والعربية, وأصدر ثلاثة مجموعات قصصية, وروايتين قصيرتين.
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟