استغرق الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي حتى الآن ما يزيد عن قرن دون أن يجد حلاً ينهي عذابات الشعب الفلسطيني المشرد والمحتل والمنتهكة حياته اليومية، ويزيل معاناة شعوب المنطقة لتطلق عملية تنمية لتحسين أحوالها المعيشية ولتتمتع بالحرية التي حرمتها منها الأنظمة بحجة المواجهة مع العدو. ويتحمل مسؤولية استمرار هذا الصراع الطويل والمكلف جميع القوى الإقليمية والدولية التي لم تبذل جهداً كافياً لإجبار أطراف الصراع للالتزام بحل عادل ومتوازن، فالجهد الدولي الرباعي -أميركا أوروبا روسيا والأمم المتحدة- لم يفعل أكثر من تبنى خريطة طريق لا تحتوي سوى إشارات غامضة لحل نهائي، كما أن الجهد العربي- مبادرة الجامعة العربية- لم تنتج سوى بيان عموميات.
أما وثيقة جنيف فرغم أنها خطة سلام غير رسمية، فهي أول مبادرة متكاملة تتناول بالتفصيل قضايا الحل النهائي : الدولة، الحدود، المستوطنات، القدس، اللاجئين، فهي نموذج ونص مرجعي لحل سلمي يكمل خريطة الطريق ويزيل الغموض عن رؤية بوش وعن التأييد الدولي العام لقيام دولة فلسطينية. ولا يضير هذه الخطة صدورها عن أشخاص غير حكوميين، علماً أن أصحابها لم يتصرفوا في الظلام بل بشفافية كاملة، في عمل شجاع ومبادر ليس بحاجة لتخويل من أحد، فمن حق أي فلسطيني أو إسرائيلي أو عربي أو أممي أن يجتهد في وضع حل تفصيلي للصراع. ورغم طبيعة الوثيقة هذه فإن أطراف فلسطينية وعربية سارعت لمهاجمتها دون تمعن في حيثياتها، بحكم مزاجها "الرفضاوي" الذي يتغذى من منطق عدمي، يعتمد على قاعدة "كل شيء أو لا شيء"، وعلى ما يدعيه من "حراسة لثوابت" تتجاهل الوقائع المتغيرة للمنطقة والعالم والعصر. بينما العقلانية تفترض دراسة الوثيقة واستخراج إيجابياتها، لقبولها والبناء عليها، وسلبياتها ونواقصها، للعمل على تعديلها واستكمالها في أي اتفاق رسمي قادم يعتمد الوثيقة كدليل.
أهم ايجابيات الوثيقة أنها وضعت مخططاً تفصيلياً لقيام دولة فلسطينية على جميع أراضي الضفة والقطاع - 97,5% منها- مع إزالة معظم المستوطنات فيما عدا بعضها -2,5% - تظل تحت السيادة الإسرائيلية وتستبدل بأراض في إسرائيل 48. كما رسمت الوثيقة حدوداً مفصلة لإسرائيل مضمونة دولياً تطابق حدود 4 حزيران مع تعديلات طفيفة، مما يضع حداً نهائياً لأحلام إسرائيل الكبرى لليمين المتطرف. كما خرقت الوثيقة شبه الإجماع الإسرائيلي بالتمسك بوحدة القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل، فقدمت حلاً ينقذ القدس الشرقية والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية من الأطماع الصهيونية، ولا ينتقص من ذلك التخلي عن الحي اليهودي طالما سيتم استبداله في مكان آخر.
كما قدمت الوثيقة حلاً لمسألة اللاجئين يحول حق العودة من حلم مستحيل إلى التطبيق العملي بالاعتماد على القرار الدولي 194، كحق مفتوح بلا قيود للعودة للدولة الفلسطينية الوليدة، وكحق محدود بالعودة إلى أراضي 48، والتحديد هنا يتعامل مع وقائع متراكمة، كان مستحيلاً لقرار 194 الذي صدر منذ 55 عاماً أن يتنبأ بها ليضع حلولاً لها. أما التوطين في الدول المضيفة الحالية أو في دول تبدي استعداداً لتقبل اللاجئين، فليست بالأمر الجديد بل هي جزء من القرار. كما أن الطرف الإسرائيلي الذي وافق في الوثيقة على الاعتراف بالقرار 194 يقبل ضمنياً تحميل إسرائيل مسؤولية مأساة اللاجئين والتزامها بحل مشكلتهم. ومن إيجابيات الوثيقة تشكيل مجموعة دولية تراقب تطبيق الاتفاقية وقوة متعددة الجنسيات تنتشر في الدولة الفلسطينية كضمانة في مواجهة الدولة الأقوى، ولمنع استئناف العنف المسلح من الطرفين.
تأييد الوثيقة بشكل عام لا يعني عدم وجود تحفظات على بعض نقاطها، فالسيادة المنتقصة للدولة الفلسطينية المجردة من السلاح، والوجود العسكري الإسرائيلي المقلص في غور الأردن، ومحطات الإنذار المبكر، والمجال الجوي المفتوح لتدريب الطيران الإسرائيلي، والإشراف المشترك على المعابر الحدودية وغيرها، يجب أن تكون مؤقتة ولمدة محددة في الاتفاقية لا تتجاوز الثلاث سنوات، تنتهي بعد الاطمئنان الكامل لاستتباب السلام، فدولة منتقصة السيادة لا يمكن أن ترضي مواطنيها وستكون ذريعة لتجديد الصراع مستقبلاً. وفيما يتعلق باللاجئين فمن المفضل الاتفاق على أعداد محدودة تعود لأراضي 48 بشكل متدرج، وهناك اقتراحاً جيداً سبق أن طرحه الإسرائيلي أفينيري بإعادة 500 ألف لاجئ فلسطيني خلال 10 سنوات. ولا بد من توضيح أن القسم الأساسي من التعويض يجب أن يعود للاجئ مباشرة كتعويض شخصي. ويمكن بالنسبة للكتل الاستيطانية التي تبقيها الاتفاقية تحت السيطرة الإسرائيلية التفاوض في الاتفاق الرسمي لإزالتها أو إتباع بعضها بالدولة الفلسطينية كأرض تعايش مشترك مشابهة للوجود العربي في إسرائيل، مع احتفاظ سكانها بجنسياتهم إذا أرادوا.
رغم هذه النواقص، التي يمكن تحسينها وتعديلها أو الإضافة عليها في محادثات رسمية، فالوثيقة جهد إيجابي ساهم في تغيير الأجواء المحيطة بالصراع في إسرائيل والعالم، متبناة من طرف إسرائيلي أقلي حالياً، لكنها أقلية لها وزن في السياسة الإسرائيلية ولها مستقبل في مواجهة المخططات العدوانية والتوسعية لليمين المتطرف، والوثيقة أعطت ضوءاً أخضراً لإحياء معسكر السلام الإسرائيلي الرافض لاحتلال أراضي الغير، ورفعت السقف بالنسبة لما يمكن أن يقبل به إسرائيليون من المطالب الفلسطينية، وأثبتت زيف الادعاءات الإسرائيلية عن عدم وجود شريك فلسطيني يريد السلام والتعايش، وقدمت حلاً متوازناً يتعاكس كلياً مع الحل الشاروني من طرف واحد الذي يلتهم نصف الضفة الغربية وكل القدس الشرقية ويمزق الباقي إلى معازل، وهو ما جعل شارون يعتبر الوثيقة "هدامة وانتحار لإسرائيل" وتهدف للتمهيد لإسقاط حكومته.
كما أتت استطلاعات الرأي في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لتعطي تأييداً للاتفاقية يزيد عن ثلث المستطلعين، وهو عدد غير قليل لاتفاقية في أول انطلاق لها، يمكن أن تكون أساساً لتجمعات حولها لقوى السلام في الطرفين لتحويلها إلى مشروع واقعي كأفضل حل نهائي تم التوصل إليه حتى الآن، في مواجهة الشارونية وأصحاب العمليات الانتحارية ضد المدنيين، الذين يغذون بعضهم بعضاً في ممارسة القتل والقتل المضاد. كما حظيت الوثيقة بدعم عالمي متزايد كمصالحة تاريخية بين الشعبين، ليس أقله ترحيب أوروبي وأممي وأميركي.
رغم ذلك فإن نخباً سياسية فلسطينية سارعت لإدانة الوثيقة إذ أنها لم تتعلم خلال نصف قرن سوى الرفض، واتخاذ المواقف السياسية التي تفيد قياداتها ومنظماتها – والبعض يسميها دكاكينها-، قبل أن تفيد القضية، فقد أعلنت فوراً أن الوثيقة تسقط حق العودة وتعلي "مؤامرة التوطين" – رغم أن التوطين هو أحد خيارات القرار 194 الذي تتسمى إحدى المجموعات الرافضة بإسمه–. كما أعلنت أنها "مقاربة من الرؤية الإسرائيلية للحل" وهو استنتاج من الدماغ يتجاهل الإدانة والمحاربة الإسرائيلية الرسمية للوثيقة. كما هول الرافضون من مسألة الطابع اليهودي لدولة إسرائيل وأن ذلك سينزل الويل والثبور والترانسفير على عرب 48، رغم أن الوثيقة تؤكد أن هذا الطابع لا يجحف بالحقوق المتساوية لكل مواطني إسرائيل.
وبما أن 250 حاخاماً يهودياً متزمتاً أفتوا بأن موقعي الاتفاقية الإسرائيليين خونة، دعوا لمحاكمتهم بتهمة التآمر على الدولة، فما يوازيهم من "الحاخامات" الفلسطينيين أفتوا أيضاً بخيانة موقعي الوثيقة الفلسطينيين ودقوا طبول الحرب ضدهم في رعب ظاهر على "القضية" مصدر رزق البعض، فإنهاء الصراع في رأيهم قطع للأرزاق، لذلك بدؤوا بالصراخ: اطردوهم، اعزلوهم، اسقطوا عضويتهم، أخرجوهم من الحياة السياسية، حاكموهم... وتستعيض هذه الأطراف عن عدم امتلاكها لأجهزة قمعية، بسلاح القمع المعنوي والسياسي كتدريب على القمع الهمجي للمعارضين عندما تصل إلى سلطة ما، متخفية وراء ما تسميه الإجماع الوطني، وهو إجماع مأخوذ من ترسانة الشمولية الستالينية يخالف الطبيعة الإنسانية المتعددة المواقف والمصالح، والحافلة بالخلافات التي تحل بالأكثريات والأقليات وليس بالقمع والإجماع.
أما حراس القومية العربية فنسخة طبق الأصل، ففي بيان للأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي المسكون بعداء مقدس "للشيطان الأكبر": "الوثيقة جزء من مخطط أميركي صهيوني... تكرس الكيان الصهيوني للسيطرة على عموم المنطقة"!! رغم أن الوثيقة أول ترسيم لحدود إسرائيل. كما يروج البيان لهستيريا "مؤامرة التجنيس" للفلسطينيين ويعتبره "مؤامرة أميركية"، ويتجاهل تجنيس ما يزيد عن مليوني فلسطيني في الأردن وغيرها منذ عقود دون أن تقرع الطبول القومية. ويصف البيان مشروع الدولة في الوثيقة ب"محميات فاقدة الترابط"، متجاهلاً الخارطة المرفقة بها حيث الترابط يفقأ العين. ويهول البيان بسيادة إسرائيل على حارة اليهود ويراه تهويداً للقدس، رغم أن الوثيقة تقول بلغة قومية عربية فصيحة أن القدس القديمة تحت السيادة الفلسطينية.
بخطاب سمته الغالبة التشويه والتهويل تثبت نخب سياسية فلسطينية وعربية مرة أخرى أنها تعيش في عالم آخر، لا تريد أن تتعلم من الوقائع المتغيرة ومن دروس النكبات والنكسات والهزائم والتراجعات، فتصر على عدم مراجعة " ثوابتها" التي باتت تغلق على عقولها فلا تستطيع أن تواكب العصر بتفكير عقلاني وفاعل. أما "تصفية القضية" التي تهول بها فنتاج بامتياز لسياساتها الرفضوية العدمية، والانتحارية الكارثية، وهي بتضييعها للفرص المتتالية ستحول فلسطين إلى أندلس جديدة نبكيها في القصائد الشعرية.
كانون أول 2003 * كاتب فلسطيني