المكان :خيمة عربية، يفترشها حضور لحفلة سمر عراقية.
الزمان: أحدى ليالي ابن آخر طاغية.
يظهر الطاغية الصغير مترنحا(سأسميه في قادم الحكاية عدي)، يتقدم من المغني والعازفين،في يده اليسرى قنينة خمر اجنبية،وفي يمناه قدح، يملئه على عجل،ويدفع به الى احد العازفين،يتردّد العازف ثم يفرغه سريعا في جوفه، بعد ان ينهره عدي،يعود إلى عزفه من جديد، ليلتحق، منكسرا، بالفرقة التي تعزف والمغني الذي يواصل آلامه، يتقدم الساقي المتجبر من عازف آخر،يشربُ أسرع من الأول،وعازف ثالث، متقززا، يهمس بعد أول الجرعات؛ هذا بول!. فيومئ له عدي بالسكوت، ويترع كأسا يقدمه الى المغني، وهو في أوج غنائه،يتردّد، فيرى شرر الساقي الجهنمي، يحاول معتذرا، فينهره، يتحجج بمواصلة الأغنية، فيغضب ابن الرئيس المتمرس بالرماية،يغضب،وضاحكا ينادي، فيقترب منه السلاح، يتناول المغني الكأس بيد متردّدة، يتشمّمه،مقطبا حاجبيه،يتجرع القليل ويبصق بعضه الى الخلف،يأخذ عدي المسدس بيده.( بينه وبين المغني مسافة اليد الممدودة) يبدأ بالعد الى خمسة، يملئ المسدس،وسريعا تمر الرصاصة فوق رأس المغني.
يموت الغناء ويفرغ الكأس،يتلوى المغني،يلقي عدي مسدسه فوق أيدي عازف "الأورك"،فيتعثر العزف.
أوقفت شريط الفديو.
حزنت للموسيقى،وأدماني صمم بيتهوفن الكبير،قلت؛ لن ألوم صممك ايها البارع،انا احزن عيني وهي ترى،ونفسي وهي تسمع،احزن زرياب غريبا في السجن،وهاربا بخامس الأوتار الى الأندلس،أحزنه وهو يحقق رغبة النسر في الرحيل، وهو يبدل مضرب العود بريشة من جناحه،وهو يئن حتى قال له رجل بغدادي سئمنا ألمك يازرياب، فحتى وانت تعلم تلاميذك،لا تقول لهم، تمرينا للرئة غير (آآه او يا حجّام).
أدرت الشريط مجددا.
كانت اطلاقات النار تخنق الموسيقى،ويتعالى في زوايا الخيمة ضحك محظيات زائف،ومرح قتلة تابعين بالذل.
يكمل المغني؛ (آه..آ..آ...يا ويلي)
ويخرج زرياب من السجن عليلا،يئن المغني على حب خلّودة؛ (( الله هالله ياخلوده، بالحب ووروده))،يتلوى كقنفذ رآه الجاحظ يتكور لمرآى ثعلب جائع،هم به فصار كرة شوكية،فيقلبَه الماكر الى موضع رأسه،يبول عليه،فيختنق منبسطا، مطاوعا،كفريسة، او كمغنٍ حزين،في زمن بلا لحن او صوت لمرور العقارب،غير ألم هبط في القلب قبل الفم.
كان هذا شكل الزمن، اما المكان......آه ماذا قلتُ في المقدمة عن المكان،لأعيد ترتيب الجهات في القول؛
المكان :خيمة عربية، يفترش ارضها حضور لحفلة سمر،سمر..مهلا...بأمكان راوية آخر فصل حرف السين والابقاء على(مر)، بإمكانه وضع السين في كلمة سلاح،سيتكرّر كلاما، وفعلا في هذا المكان.
يخرج زرياب فرارا، ويسكر هارون الرشيد،قبل ان يؤسس له عدي ناديا رياضيا بأسمه، بسنوات طويلة،يجتمع على جنباته وفي حواضره، للقصاص من المغنيين،حبسا في سجن رياضي!.
اسطوانات مبطنة بمسامير،ألم بدائي،يتشافى فيه الناجي من الموت معاقا،اثر قصاص لم يكتمل في منطقة المنصور البغدادية.
و المنصور يقف في احجار بغداد،ينسى في الحجر بينما تتلاشى موسيقى ملك سومري رائع وعليل كتبها له طبيب في وصفة طبية كان يتقن نصها المسماري عازفات ومغن من جنوب الطين.
يسكر هارون الرشيد، وهو يقول ؛ اعطي نصف المُلك،وابقى مستمعا لإبراهيم الموصلي؟.
يثمل الرشيد،غير انه يأمر زبانيته فيحضروا له الطبيب السرياني بن جرجيس،ليطمئن الى حسن اختيار الخليفة لطبيبه الخاص،ويأمر في السر فيأتوه باناء فيه بول بعير....(هنا عند هذه الكلمات سيتوقف راوية آخر..معتقدا ان الرشيد سيأمر بأمر عدي، اقول لهذا الراوية لا تحرك به ظنونك لتعجل به،فالحكاية في اولها، وثمة خليفة يتكلم) فيقول للطبيب: أنبئنا عن مرض محظيتنا؟!،فيجيب: ما اراه ليس ببول انسان يا سيد العقلاء، ولست اظن ان احداً من حاشية الخليفة يأكل الشعير؟،فيسر هارون به ويأمر له بالمال الكثير. بمثل أمر طاغية يُحدث طبيبا قبل دخوله صالة عمليات يتمرغ في سريرها ابن رئيس مدمى، يأمر وهو يقول؛ولكن... ان مات تموت.ويتشافى ليكرم مغنٍ آخر مسدسا ذهبيا،وسيارة فارهة،سيأمر حاشيته بعد ايام باحراقها،وبالمسدس فيبلع اطلاقاته،وتحشر فوهته لبعض الوقت في اسفله ويأمر بالغناء المتواصل( الراوية الذي توهم الرشيد قبل قليل،ربما سيخبر عن رؤيا الموصلي للشيطان،وكيف ألهمه ما اطرب الخليفة في الليلة ذاتها،اما أنا فسأروي ما تناقلته آلام المغني، عن حلم لعدي،وهو يسمع الأغنية وبطن المنشد محشوة بالرصاص،ولم يفسد الحلم فلم يكن ثمة دم).
يصدح المطرب،وزرياب في اقصى فراره يعلم تلاميذه الآه،عراقية ً تُسجن في حروفها معابد سومرية،وكهنة بطقوس دينية،تتبدّد موسيقاهم طينا،عليه حشرجة المحمداوي.
تحرك شريط الفديو من جديد.
كانت البداية، دائما في البداية ستؤلف حلولا،وانت تشاهد فلما للمرة الثانية، وتبتكر أملا لجديد،بمثل هذه الحلول قلت،وانجيت المغني من مأزقه المرّ،ورفعت سين السمر لتهبط في "سوف"،سيفعل،سينجو،قلت وفي فمي ما ذاقه أول العازفين؛سيأتي الحل.والساقي يقدم كأس المغني،قلت؛ ليت للمغني غيبة فيغيب.وكان الوقت يمضي ، سريعا سريعا..وقبل ان يتجرع سقراطه،قلت ليته قال لأبن الطاغية؛ أكرم أباك،ويمدّ لسانه فيبصر الجميع نشيده المرتجل. يناشده الرحمة بلسان سؤول،وأمل عجول.
غير انه تجرع البول للمرة الثانية..
غير ان سقراط مرّ في ظلام أحشاءه...
تجرع السنوات...
..................
.....................
ومات الساقي المتوحش...
قتل...
ودفن سراً مثل الكثير من قتلاه.
بعد دقائق كانت فضائية عربية تبث في برامجها،وجهه على الهواء،كأنه لم يكن المغني، ،كان حشد من العازفين معه،و محمولا على غناء طيني،حدّق في عينيّ،وتمنيته قائلا،غير انه صمت، وكأني لم اشرب حزنه.
حدثنا عن أصل الاغنية، عن رائحة الطين؟
قالت شقراء، تقابله، فأبتسم، لم يقل:
تلك أرضُ خسرت ماضيّ
أرض ستندم ذكرياتي
غريبا ...مثل داخل حسن..اتلفتُ فيه بشدة الامل..واعود الى نفسي بهيأة وطن.
لم يقل كلمات حزين آخر يعيشه المنفى..ويسكن التفاتة المغني تلك..ورائحة البول عالقة في ألمه.
تركته وانصرفت الى العازفين،فأعانني مصور تنقّل على وجوههم،وكنت احتاج احدهم لأحرضه على التقاط المسدس من فوق الأورك..ليسدّد الى عدي ويضغط.
يسدّد العازف.....
يضغط ......
غير ان اطلاقة لم تكن في المسدس،فيضحك عدي،وهو يقول: كنت اعلم هذا ..وأمرتهم بإفراغه. صارخا؛يا هارون، بهذا اختبر وبالبول أطاع.
انتبه الى نفسي،وانا اتصبب عرقا،مرا، كأنه بول قادم من ذكرى بعيدة.
أنتبه؛ لم يبق سوى دقائق لا وقت لحلم بتغيير الذكريات في وجه المغني،وفي ايدي العازفين.
عليّ ان اتصل به الآن، فالحقيقة اصدق من كل الذكريات،قلت وانا امسك سماعة الهاتف محاولا الاتصال بالفضائية؛ لا جدوى، وداهمني صداع اصفر، عليه رائحة بولٍ طاغيةٍ، صداع طاغ،ورائحة بقايا قنفذ.
فيتكرر المشهد، وانا اسبح في دم كلمة طاغية.. محمولا على غناء طيني.
كان المغني مرّا،مثل فمي.
وبقيت دقائق على انتهاء البرنامج، قلت سيبوح ليَسمعَ لحظته، ندما، شرق الارض ومغرب زرياب،جنوب الملك السومري،وشمال جهنم.
لم يبق سوى دقائق.
......................
......................
وبمثل ما أعجل بطلبه الان؛ لم يبق وقت بعد. قال نمساوي الى مخرجٍ اخر،و هما يسافران الى ميونخ،كانت سكرتيرة هتلر بانتظارهم،لتعترف في فلم وثائقي.صمتها كبير، وموحش، تجاوز ستة عقود،وندمها أكبر، لو حدقت مليا فيه لرأيت رائحة القنفذ،صفراء،على امتداد ساعة ونصف من الكلام، متعبة كانت، تعترف،تعترف ..تتطهّر بينما أحدق انا في فم المغني،كنت أراه، واسمع الاطلاقة، سمعتها بصمم بيتهوفن،وتحسستها بأشواك القنفذ.
سمعتها تتذكّر بتوق خادم ودود.هل قالت شيئا عن المغني؟. لا قالت؛ كنّا نعشق كلبة هتلر،بلونديا، بلونديا الجميلة، علمها الفهرر الغناء.
لم يبق سوى القليل.
- سوى القليل..
كرّرت ترودل يونك.
وبعد عرض الفلم،بثلاث ساعات ماتت وهي تحقق الامنية.
ماتت ترودل يونك، ونهض العازف الاول، ثم الثاني،انحنوا جميعهم مع المغني،ذكرتني اقواس ظهورهم بشيخوخة المرأة الميتة.
رفعوا رؤوسهم،ففاحت رائحة القنفذ، واستحال التصفيق في القاعة الى طلقات نارية،وفرّ النسر مع زرياب، لتسقط من جناحه، فوق العود،ريشة العزف،سقطت مثل سقوط المسدس فوق آلة موسيقية،او مثل جار يلامس الحائط وهو يتسمع الآه،ولا يجد زرياب ليعاتبه.
رفع الجميع رؤوسهم الا المغني، ارتفعت آلامه كما لو على رمح عباسي، اما جسده، مقوسا ظلّ كضريح،بانتظار اعترافه.