|
نصف أمريكا الآخر (2)
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2196 - 2008 / 2 / 19 - 11:22
المحور:
المجتمع المدني
ليس ما يهمنا فى هذه المقالات تحليل مسار انتخابات الرئاسة الأمريكية المحتدمة بالفعل، أو توقع من الأقرب إلى الفوز بها والوصول إلى البيت الأبيض فى يناير المقبل . وعندما عدنا فى المقال السابق إلى حديث باراك اوباما- احد أهم المرشحين فى هذه الانتخابات – عن نفسه ، وعن سيرته الذاتية، ومشواره فى الحياة العامة الأمريكية، لم يكن قصدنا الإيحاء بأنه الأقرب إلى النجاح- حتى فى الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطى- أو انه الأفضل أو الأسوأ. كان قصدنا – بالأحرى- أن نقدم من خلال هذه السيرة الذاتية نموذجاً عملياً للمرونة السياسية للنظام الامريكي ، وهى المرونة التى جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تتجاوز الأزمات الدورية والعامة، بل أن تحول خسائرها ونقائصها وتناقضاتها الداخلية إلى قوة دافعة للتأقلم مع المتغيرات والمستجدات الداخلية والخارجية بينما انهارت إمبراطوريات كبرى واختفت من الوجود، بعد أن كانت ملء السمع والبصر، بسبب جمودها وافتقارها إلى مثل هذه المرونة. ومن خلال هذا النموذج الحى لمشوار "أوباما"، نستطيع أن نرى تجليات بالغة الأهمية لهذه المرونة السياسية التى نتحدث عنها. أول واهم هذه التجليات تتمثل فى كون أوباماً واحد من السود الأمريكيين،أو من يسمون بالأفارقة الأمريكيين، اى الأمريكيين المنحدرين من أصل افريقى. وهؤلاء – كما نعلم- هم أحفاد الرقيق الذين شهدت البلاد تراجيديا استعبادهم منذ أن رست الباخرة "زهرة مايو" May Flower الأوروبية عام 1620 على الشواطئ الشرقية للولايات المتحدة، حاملة على متنها تعساء الحظ من أبناء القارة الأفريقية الذين اختطفهم، أو اشتراهم ، تجار الرقيق الأوروبيين، ثم قاموا بشحنهم فى سفن عبر المحيط الاطلسى فى اكبر هجرة بشرية قسرية حدثت عبر التاريخ شملت ملايين البشر. وظلت وصمة العبودية عاراً على الحياة الأمريكية سنوات طويلة. وكان من الممكن لهذا النظام الاجتماعى المتخلف أن يقود البلاد إلى هاوية سحيقة ويعوق تقدمها، بعد أن لعب العبيد الأفارقة دوراً بالغ الأهمية فى خدمة الاقتصاد الزراعى الامريكي. وعندما أصبح استمرار هذا النظام الاجتماعى عقبة أمام التحول الرأسمالى ودخول عصر الثورة الصناعية، بدأت عناصر مؤثرة فى الطبقة السياسية الأمريكية تمهد الطريق أمام التخلص من الرق. وفى عام 1786 تم إقرار الدستور الامريكي، وكان بمثابة حل وسط لمشكلة العبودية بين الولايات الشمالية التى يسكنها البيض الميسورين الحال والولايات الجنوبية التى يقطنها أعداد كبيرة من السود الفقراء. لكن لم يتم اتخاذ موقف حاسم من الرق والعبودية . واستمر إقرار الدستور أكثر من سبعين عاماً، انتهت بتولى ابراهام لنكولن الحكم عام 1860، وكان عدد السكان السود وقتها 22 مليوناً يعيش 9 ملايين منهم فى الولايات الجنوبية . وفى الفترة ما بين 1860 و 1861 أعلنت إحدى عشر ولاية امريكية انفصالها عن الاتحاد وشكلت اتحاداً آخر واختارت جيفرسون ديفس رئيسا للكونفدرالية، وادى هذا القرار إلى اشتعال الحرب بين الولايات الشمالية التى تقطنها أغلبية بيضاء والولايات الجنوبية ذات الأغلبية السوداء. ومات فى هذه الحرب أكثر من ستمائة ألف شخص ودمرت ممتلكات تصل قيمتها إلى خمسة مليارات دولار، وانتهت بانتصار الشماليين والمحافظة على الاتحاد وإصدار قانون يمنع الرق ويحرر ما يقرب من أربعة مليون عبد اسود. لكن معاناة السود الاجتماعية والاقتصادية لم تتوقف رغم ذلك، وتم الفصل بين السود والبيض فى الولايات الجنوبية فى المدارس والمطاعم ووسائل النقل العام. وقد يستغرب أبناء الأجيال الحديثة أن يكون ذلك الفصل العنصرى قد حدث بالفعل، يوما ما، فى الولايات المتحدة الأمريكية ، التى تباهى الأمم اليوم بأنها المدافع الأول عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذه هى المرونة السياسية التى نقصدها ، حيث أن التشبث بذلك النظام البغيض كان كفيلاً بتحويل الحياة فى الولايات الشمالية والجنوبية إلى جحيم، كما كان كفيلاً بتعطيل التقدم السياسى والاقتصادى للبلاد. وهذه المرونة لم تتحقق من تلقاء نفسها ، بل جاءت نتيجة عوامل متعددة تضافرت فى بلورة حركة الحقوق المدنية التى أخذت أطواراً مختلفة، وصلت الى احد أهم مساراتها فى عام 1954 بقيادة مارتن لوثر كنج الذى ألهب مشاعر السود الأمريكيين بخطابه التاريخي "عندى حلم" I have a dream . واستطاعت حركة الحقوق المدنية فى اقل من 14 عاما ، بدءاً من عام 1954 الى عام 1968 ، أن توجه ضربة موجعة لنظام الفصل العنصرى. وبعد أن كان السود الامريكييون ممنوعين من ركوب نفس الأتوبيس الذى يستقله البيض، أو تناول طعام الغداء أو العشاء فى نفس المطاعم المخصصة للبيض، ها نحن نرى اوباما الأسود يخوض السباق نحو البيت الأبيض رأساً برأس مع الانجلو ساكسون. هذه الخطوة العملاقة نستطيع أن نفهم مغزاها – كما يقول القس الأسود جيسى جاكسون – إذا تذكرنا انه لم تمض سوى 54 عاماً على القرار الخاص بقضية براون الشهيرة ضد مجلس التعليم الذى وضع نهاية للفصل العنصرى فى نظام التعليم وفتح فرصا جديدة لغير البيض. كما انه لم تمضى سوى 44 سنة على المصادقة على قانون حق التصويت الذى أنهى نظام التمييز العنصرى فى الانتخابات. هذا التراكم للإنجازات التى حققتها حركة الحقوق المدنية منحت السود فى نهاية المطاف حق المنافسة فى انتخابات الرئاسة. وعندما فاز أوباما فى الانتخابات التمهيدية فى ولاية ايوا قال جيسى جاكسون إن "مارتن لوثر كنج سيكون فخوراً بأوباما اليوم، وسيكون فخوراً بأمريكا". وليس معنى هذا انه لم تعد هناك مشاكل للسود والملونين فى أمريكا ، فمازالوا يشكلون نصف نزلاء السجون، ومازالت الفجوة العرقية قائمة فى نظام التعليم والتوظيف ووفيات الأطفال الرضع ومتوسط الأعمار ومعظم تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فى الحياة الأمريكية . والأرقام بهذا الصدد تقول أن السود يشكلون 13% من التعداد العام للسكان فى أمريكا، لكنهم يشكلون 40% من الذين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام فيهم، كما يعيش 24.7% من السود تحت خط الفقر، بينما تبلغ هذه النسبة 12.7% فقط على المستوى القومى الامريكي، ومتوسط عمر الامريكي الأسود اقل من نظيره الأبيض بست سنوات، وتقع الأماكن الأكثر تلوثا فى الولايات المتحدة على مقربة من مناطق سكن السود فى الأغلب الأعم، ولا يوجد سوى عضو واحد بمجلس الشيوخ من السود، هو أوباما نفسه، من بين مائة عضو اى بنسبة 1% فقط من الأعضاء. فى ظل هذه الأوضاع المعقدة، والملتبسة، يتحرك النشطاء من السود داخل الطبقة السياسية الأمريكية، أفقياً ورأسياً . وعندما ننظر اليوم إلى الصراع الرهيب الذى يخوضه المرشح الأسود، باراك أوباما، ضد الشقراء ناصعة البياض بنت الحسب والنسب زوجة الرئيس الامريكى السابق ، هيلارى كلينتون، ونسترجع شريط التاريخ الحافل بالعذابات والاسترقاق للسود الأمريكيين نستطيع ان نرى جانبا من جوانب مرونة النظام الامريكى الذى لا يتكلس ولا يحبس نفسه فى قوالب جامدة، إيديولوجية أو مذهبية، وإنما ينفتح دائما ... طالما أن هناك " منفعة" وراء هذا الانفتاح . وللحديث بقية
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السعى بين -المهندسين- و-صلاح سالم-
-
بارقة أمل .. من -الصعيد الجوانى- (1)
-
بارقة أمل .. من -الصعيد الجوانى- (2)
-
الإنفاق الحكومى.. بين العقلاء والمجانين
-
فى مجتمع غارق فى الحنين إلى الماضى ..رؤية مستقبلية لمصر
-
.. إنها الفوضى -الخلاقة-
-
حتى لا تضيع دماء شهدائنا .. هدراً
-
الكونجرس الأمريكى أمس .. والبرلمان الأوروبى اليوم .. وماذا ب
...
-
هدايا -بوش- من بنوك الخليج
-
حدود -دريد لحام- .. وحواجز -شنجن-!
-
الاقتصاد السياسى للعسكريتاريا الباكستانية
-
ميزانية حرب
-
سلام آخر زمن : إسرائيل ترفع قضية على مصر!
-
-بطة- هناك .. و-أسد- هنا!
-
يحدث فى مصر .. فقط
-
قنبلة الأفكار المسمومة .. التى قتلت بينظير بوتو
-
رغم أى شيء.. كل سنة وأنتم طيبون!
-
-تشريع- الكونجرس و-أنفاق- ليفنى!
-
أفيقوا.. البلد يغرق!
-
أسئلة تحتاج إجابات قبل أن يحترق الوطن (2)
المزيد.....
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
-
الإطار التنسيقي العراقي يرحب بقرار الجنائية الدولية اعتقال ن
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وغالانت لأ
...
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
...
-
أول تعليق للبنتاغون على أمر الجنائية الدولية باعتقال نتانياه
...
-
كولومبيا عن قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وج
...
-
تتحجج بها إسرائيل للتهرب من أمر اعتقال نتنياهو.. من هي بيتي
...
-
وزير الدفاع الإيطالي يكشف موقف بلاده من أمر اعتقال نتنياهو
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|