يتحلى الأديب بحجم أكبر من الأحاسيس والعواطف وتفيض تلك الأحاسيس لتنعكس على نتاجه الأدبي، فالملكة الحسية العالية تمكنه من التعبير عن خلجات عواطفه ومن اختيار أرق وأعذب الكلمات لتصوير حالة الحب.
وهذا الإفراط الحسي الذي يسيطر على الأديب يزداد كلما زاد إنتاجه الأدبي وذاع صيت شهرته، ليتحول إلى حالة (مرضية) تصيب أغلب المشتغلين في الفكر الإنساني والذي يطلق عليها بالنرجسية. ومن أعراضها العزلة وعدم الاختلاط والحساسية العالية، حيث يجد الأديب أن الزمن عامل إغراء لمزيد من الإنتاج والشهرة. وحينها يرفض التواطؤ وتبادل الخداع مع الكائنات التي تجيد الثرثرة وضياع الوقت.
ويجد ((ماركيز)) أن ما من مهنة أكثر عزلة من مهنة الأديب، لأنه ما من أحد يستطيع أن يعرف ماذا يريد أن يفعل في الواقع. إن المرء وحيد وفي عزلة مطلقة أمام الورقة البيضاء.
في حين يميل من جهة أخرى أغلب المشتغلين في الفكر الإنساني إلى اللجوج في عالم آخر من المجتمع، ويجد في عالم المرأة متاهة خاصة وامتصاصاً لعواطفه الجياشة التي تفيض عنه خاصة عندما يعجز الورق الأبيض على تجفيف منابعها.
لذا يميل الأديب نحو المرأة كي يفرغ تلك المشاعر والعواطف، وبعض الأحيان يستدين ما يحتاجه منها. وهناك العديد من الأدباء تلعب المرأة دوراً كبيراً في حياته ونتاجه الأدبي فيتنقل من امرأة إلى أخرى كالنحل ليمتص رحيقها ويحتضن تاجها بحثاً عن الاستقرار وقناةً لتصريف العواطف.
فالكاتب ((أرنست ستين بري)) تزوج أربعة مرات، وأخر زواج له كان من امرأة تصغر أكبر بناته سناً تلبية لعواطفه ونزواته. في حين نجد ((بيكاسو)) يهرب من المجتمع والنساء لتوقعه حسناء صغيرة في آخر حياته وتعيد إليه شبابه، ويقول ((كافكا)) لقد جعلت من ((بابا نيرودا)) قوداً حين كلفته بمراقبة الطريق كي اختلي بحسناء اقتحمت خلوتي معه.
وهناك ((نزار القباني)) الذي تلاحقه النساء لأنه يجيد لغة الغزل والإيقاع بقلوب الصبايا، ويتلاعب بمفردات اللغة ليوقظ أخر البراعم الذي لم يتحسس فصل الربيع بعد!! ولكن ((أم نبيل)) صاحبة المقهى البيروتي وقهوتها الصباحية، كانت أكثر جرأة حين حركت في ((سعدي يوسف)) مشاعره وكتب قصيدته الشهيرة.
ومن ينسى أول من وضع قاموس الشتائم للحكام العرب (مظفر النواب) ولو قدره له أن يكون شاعراً للحب لما حصل ((نزار القباني)) على لقبه كشاعر للنساء، وكان قدره أن يتقاسم آلام الشعوب العربية، وتقاسمت معه أجمل صبايا السياسة العربية لياليه ورفض أن يقاسم إحداهن حياته.
وهذا البايسي النمط وعربي الوجدان ((أودنيس)) يعترف علناً أنه يترك مبادرة الغزل للنساء لأنه لا يجيدها بقوله: أن من أخطائي الكبرى أنني لم أكن مبادراً في حياتي كلها، ونادراً حتى اليوم. أن أكون مبادراً لأنني أعرف مناخ العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع العربي، ولذلك أترك للمرأة المبادرة.
وهناك أدباء وكتاب آخرون رفضوا أن تقاسمهم المرأة عالمهم الخاص، لأنهم يجدوا فيها (شيطاناً) يقضم الزمن ويهدم مناهل المعرفة في جسد الأديب والكاتب. وأحد هؤلاء ((نيتشه)) الذي لم يسمح للمرأة أن تقتحم عالمه وعاش في عزلة حتى وفاته وكانت أخته هي التي تخفف عنه آثار جنون العظمة الذي لازمه وأدى بحياته، لكنه لم يمت كباقي البشر بل مات منتصراً لمبدأ القوة والسمو في الفكر الفلسفي.
يقول ((نيتشه)) توغل في عزلتك يا أخي، سر فلا رفيق لك إلا حبك وإبداعك. أنك ستسير طويلاً قبل أن تقفوا العدالة أثرك متثاقلة متعرجة. أذهب إلى عزلتك فأنني أشيعك بدموعي يا أخي، لأنني أحب من يتفانى ليوجد في فنائه من يتفوق عليه.
ماركيز وعالم المرأة:
تولى رعايته خاله الضابط في الجيش الكولومبي وبدأ حياته الأولى بين عماته وأمه واعتنت به عدداً من الخادمات ومدرسته التي تأثر بها كثيراً، ويعتقد ((ماركيز)) هناك امرأتان في حياته أثارت بركانه الجنسي، الأولى عندما كان في التاسعة من عمره عندما دعته إحدى الخادمات إلى حلبة الرقص وأثناء الرقص مس جسدها المثير جسده، فانفجر بركانه الجنسي الأول، وفي المرة الثانية عند لقاءه زوجته ((مرسيدس)) التي يقول عنها (غير جميلة) لكنها مثيرة جنسياً.
بدأ ((ماكيز)) حياته متسكعاً في عدد من دول العالم وعواصمها خاصة باريس، وكان سكيراً وكثير التدخين وتعرف على معظم عاهرات باريس. وكان يحصل على قوت يومه من العمل الصحافي، ويكتب بعض القصص التي لم تثير اهتمام أحداً من الناشرين. ومع صدور روايته (مائة عام من العزلة) ذاع صيته وترجمت الرواية إلى 23 لغة عالمية وبيع منها ملايين من النسخ في جميع أنحاء العالم، وحصل على جائزة نوبل في العام 1982.
وعند تقدمه في السن تخلى عن التدخين وقلل من شرب الكحول، لكنه لم يتخلَ عن النساء!!. ويتحدث عن زوجته ((مرسيدس-أبوها من أصل عربي)) أنه في كل الحفلات والسهرات هي التي تختار مكان جلوسنا بعناية، لأنها تختار وجوه النساء المثيرات جنسياً فتجلسني أمامهن طوال السهرة، ويضيف أنه ممتناً لهذا المرأة والزوجة والحبيبة الرائعة على هذا السلوك!!.
ولا يؤمن ((ماركيز)) بالضعف الجنسي لدى الرجل، ولسان حاله يقول: أن المرأة المثيرة وصاحبة الخبرة الجنسية هي من تثير حتى الصخر. إما المرأة غير المثيرة فأنها لا تصيب الرجل بالضعف الجنسي وحسب، بل تعمد على إصابة شجر الغابة بمرض (الكساح).
رؤية ماركيز للمرأة:
يجد في المرأة الأم والزوجة التي لها فضل الحفاظ على النوع وعدم انقراض الإنسان، فالرجال يخترعون الحروب والنزاعات كي يبدون بعضهم بعض ولا يشعرون بمسؤولية اتجاه الحياة وكل همهم سحب التاريخ إلى الأمام.
ويعبر عن ذلك بقوله: تَمسك النساء بالحفاظ على النوع الإنساني بيد من حديد، في حين يجوب الرجال العالم ويقدمون على كل الأعمال الجنونية اللامتناهية التي تدفع التاريخ إلى الأمام. وهذا ما حدا بي للاعتقاد بأن النساء لا يملكن حساً للتاريخ: إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما استطعن القيام بمهمتهن الرئيسية التي هي حفظ النوع.
ويعتقد أن هذه المهمة، كبيرة وتساهم في عدم فناء العالم. ويغمز من وراء ذلك إلى أن النساء لو لم يمتلكن هذه الخاصية لما نشبت الحروب الأهلية وما تجرأ الرجال على الخوض في الحروب العبثية، ويقول كنت دائماً أفكر أن هذه الحروب الأهلية لم تكن ممكنة لو لم تكن النساء يمتلكن هذه القدرة الجيولوجية تقريباً التي تتيح لهن حمل العالم على أكتافهن دون خشية أو رهبة.
ويبقى ((ماركيز)) محباً للنساء ومفاخراً بأنه لديه الخبرة بالإيقاع بهن حتى عند سن الشيخوخة موزعاً نصائحه على الجميع ولسان حاله يقول مازلت منافساً في الساحة النسائية، فالشيب والشيخوخة لها سوقها أيضاً عند النساء!!.
ويعتقد أن ما يبحثن عنه النساء عادة (بابا) وكلما تقدم المرء في السن، كلما قابل منهن أكثر. قليلاً من المؤانسة وقليلاً من التفهم وحتى قليلاً من الحب هو كل ما تحتجهنه، وعادة يكن شاكرات أيضاً من أجل ذلك. قليلاً من كل شيء، وإلا لا شيء طبعاً، إذ أن عزلتهن لا علاج لها.
وهو الملقب (بزير النساء) حيث أُجبر على التخلي عن لقبه هذا بعد أن زاد صيت شهرته، وأخذ الناس يتعرف عليه في الشارع والبار والحفلات مما أبطل سحره للنساء وبات يخشى آلاف العيون التي تلاحقه وتحسب عليه أنفاسه، فهذا هو ثمن الشهرة!!.
ولا يعترف بالحب الخاطف الذي يهاجم المرء بسرعة، وقد يكون هذا الرأي قد تبلور عنده بعد أن حط رحاله وأوشك خريف العمر على نهايته. واصبح طباخاً صبوراً، يبحث عن نضج طعام صيده. ويعبر عن ذلك بقوله: أنني لا أفهم الحب كاعتداء خاطف لا ثبات له، أن الحب بالنسبة لي هو علاقة متبادلة مستمرة طويلاً ومطبوخة على نار هادئة.
وعلى ما يبدو أن لقبه (كزيراً للنساء) قد انتزع منه انتزاعاً، كونه نهل من الجنس بحرية رسم مساحتها وفقاً لمتطلباته. وحين طُلب رأيه بالحرية الجنسية للمرأة، وقف بكل هدوء ورفع كلتا يديه وقال أنا لن أتخلى عن تربيتي الكاثوليكية، فأنا بصراحة مزدوج الشخصية!! وعبر عن ذلك بقوله: بصفتي إنساناً ذا ميول لبيرالية أؤمن نظرياً بأن الحرية الجنسية يجب أن تكون بلا حدود. وعملياً لا أوافق في التخلص من الأحكام المسبقة لتربيتي الكاثوليكية وللمجتمع البرجوازي، وأنا مثل الجميع، ضحية أخلاق مزدوجة.
وكان لماركيز الكثير من الصداقات مع الرجال وله العديد من المراسلات مع أصدقاءه، لكنه توقف عن مراسلات الجميع بعد أن اكتشف أحد أصدقاءه قد باع رسائله لإحدى الجامعات الأمريكية. وهنا صاح حتى رسائلي أصبحت سلعة تباع وتشترى!! وحينها امتنع عن مراسلة جميع أصدقاءه، لكنه كان يقوم بزيارتهم كلما سنحت له الظروف!!
ويجد أن الصداقة مع النساء بالنسبة له أكثر تفهماً من الرجال، ويعبر عن ذلك بقوله: في كل لحظة من لحظات حياتي توجد امرأة تقودني من يدي في ظلمة الواقع الذي تعرفه النساء أكثر من الرجال والذي يستطعن الاهتداء فيه بسهولة أكثر وضوء أقل..أريد أن أقول أنني أتفاهم مع النساء أكثر من الرجال.
إما وفاء المرأة، بنظره يخضع لقواعد محددة يتوجب أن يلتزم طرفي العلاقة بها وهذه القواعد يجب أن تحترم من الطرفين بدون أي خداع. ويلخص ذلك بقوله: لقد كنت دائماً أؤمن أن ما من شيء يضاهي وفاء المرأة، لكن بشرط أن تكون قواعد اللعبة محددة منذ البداية. وأن يطبقها المرء أيضاً دون أي نوع من أنواع الخداع، والشيء الوحيد الذي لا يحتمله هذا الوفاء هو انتهاك القواعد المحددة.
ويقدر ((ماركيز)) زوجته تقديراً كبيراً، فهي رفيق دربه ومرافقته في كل جولاته وزياراته لرؤساء الدول والشخصيات السياسية والثقافية في العالم. فهو صديقاً للرئيس الكوبي ((كاسترو)) والرئيس الفرنسي ((ميتران)) وللأغلب رؤساء أمريكا اللاتينية وكذلك صديقاً للعديد من رؤساء حركات التحرر في أمريكا اللاتينية التي تجد في نتاجه الأدبي تعبيراً عن المطاليب الإنسانية.
وفي إحدى لقاءاته الصحافية سأله الصحافي عن أكثر الشخصيات التي التقاءها من رؤساء الدول والشخصيات الثقافية والسياسية استحقاقاً للاحترام والتقدير فأجاب: أنها زوجتي ((مرسيدس))!!.
ستوكهولم بتاريخ 11/ 12/ 2003.