أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - ن تقاتل بلا أمل/ يعني أن تقاتل الحشيش















المزيد.....



ن تقاتل بلا أمل/ يعني أن تقاتل الحشيش


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2194 - 2008 / 2 / 17 - 08:28
المحور: الادب والفن
    



أن تقاتل بلا أمل/ يعني أن تقاتل الحشيش. (هربرت ريد)

كانت الجيم ولادة استغرقت مدة طويلة نسبياً في مسيرة الشاعر أديب كمال الدين بعد صدور مجموعته الثانية [ديوان] عام 1981. حملت آثار ظروف الحرب المفاجئة وغير المعقولة في نظر الرأي العام العراقي عموماً. غير معقولة لعدم وجود مظاهر عداء حقيقية بين الطرفين، وأن حجم الدعاية الاعلامية لتجييش المشاعر كانت أكثر من مفضوحة وغير منسجمة مع تقاليد التسامح في المجتمع العراقي والمشاعر الدينية لفئة غير محدودة من العراقيين، ناهيك عن الانقلاب السياسي السمج بإقالة الرئيس الأسبق (البكر) وجمع كل المناصب السياسية والعسكرية والحزبية في شخص يفتقد الأهلية والإقناع. فعوامل غير الاقناع كانت تستند إلى عدم انسجام التغير (الحرب) مع المعيار الاجتماعي، عدم الانسجام مع المعايير الدينية، عدم الانسجام مع المعايير والقناعات السياسية داخل البلاد والمنطقة. وجاء توقيت حرب الثمانين بعد عام من التغير السياسي (الديني) في ايران وما لحق بالمصالح الاميركية النفطية ورهائن سفارتها في طهران، ليفضح الهوية الامبريالية لحرب غير وطنية وغير شريفة، حرب بالنيابة، خاضعة لاملاءات خارجية على حساب مصالح الوطن
الاستراتيجية، وبالتالي فأن كل ما لحق تلك الحرب وفي أعقابها بقي ويبقى جزء من الصفقة المهينة للمخابرات الأميركية مع عملائها في الشرق الأوسط. والتي وصفها رئيس وزراء اسرائيلي بحرب الاغبياء التي قّدمت لهم خدمة لم يسبق الحصول على مثلها.

كان غراب الليل

يقرأ أسماء الناس

في اليقظة

وغراب الفجر يداعب ألوان

سماء منقرضة

وإذ احتدّ غراب الليل

احتدّ غراب الفجر

حتى سقط الريش الأسود والأبيض

فوق الناس.. – الطائر الأسود (قصيدة طيور) [مج جيم]-

لم يكن العراقيون، وفي طليعتهم المثقفون بعيدين عن هذه القناعة، وإن كانت أقلّ وضوحاً وتبلوراً. وعلى العموم، كان ولا يزال، ثمة نفور حقيقي من فكرة الحرب التي عاش العراق ويلاتها بين حروب فلسطين التمثيلية وحرب الكرد التي أودت بآلاف العراقيين، ولم تنته مجازرها حتى أواخر السبعينيات. وكان من السماجة بالتفكير السياسي للقائمين على الدولة تجاوز هذه البدهية؛ ودفع الشعب في محرقة حرب غير محسوبة. لذلك اعتمدت السلطة أساليب مفضوحة تراوحت بين الاغراءات المادية وبين أنواع الضغط والتهديد والاعدامات الكيفية.

بهدوء أعمى

خرج الطائر من منفاه

إلى المبغى! -طائر الشؤم (م.س)-

لقد أمسك النظام الشعب العراقي من [يده المجروحة] حسب تعبير الشاعرة فرات اسبر. وقال صدام الذي لم يذهب للجندية في حياته بتفاخر وعنجهية: ان الايرانيين يريدون
احتلال العراق ولكننا سنعطيهم العراق أرضاً بلا شعب!. وعندما انقلب عليه الأميركان في الحرب الثانية قال بنفس العنجهية والغرور: اذا اراد الاميركان احتلال العراق سيجدون أرضاً بلا شعب!. ورغم الدلالات العسكرية المبتذلة لهذه المقولة الجوفاء متمثلة في سياسة الأرض المحروقة والتي استخدمها الروس ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية، فأنها تبين مدى استهتار الحاكم بحياة الشعب ومقدرات البلد. ان أقل قدر من الشعور بالقيم الخلقية الانسانية أو الوطنية يتعارض مع التفريط بدمعة طفل أو أظفر إنسان [لن أحترم هذا العالم وفي الأرض طفل منكسر العينين! (حسين مردان)]، فكيف بشعب كامل ووطن كان طيلة تاريخه ملجأ لكثير من الاقوام المضطهدة والمهددة من الطبيعة أو الانسان. لم يستثن النظام فئة اجتماعية أو أكادمية أو ثقافية من الانخراط في لعبة الموت المجاني. معظم الأدباء والأكادميين والفنانين المشمولة أعمارهم ضمن قوائم مواليد الحرب سيقوا اليها وتجرعوا مهاناتها ومات فيها كثيرون، لم يخطر بذهن المؤرخ العراقي أو الباحث الأدبي تحري بياناتهم. وبين أولئك كان الشاعر (دخل الحرب عام 1984 ضمن دفعة موليد 1952 المؤجلين، حسب مصطلحات
التجنيد يومذاك). لم تكن وظيفة الجندي كتابة الشعر، ولا الحلم؛ الجندية حالة من عبودية مطلقة لما يدعى الأوامر والقوانين العسكرية ممثلة بسلسلة المراتب والجنرالات. الجندية ليست بمعنى الحرب فقط، وانما عبودية الأوامر، وأبسط أسباب العقوبات وأتفهها هو [عدم إطاعة الأوامر/ مخالفة الأوامر] والعقوبات تتراوح من قطع الراتب، إلى الحبس إلى الاحالة للمحاكم العسكرية. الجندي..

الذي لا يعرف سلاماً

الذي يقاتل من أجل كسرة خبز

الذي يموت بـ(نعم) أو (لا).. – الشاعر الايطالي بريمو ليفي-

التزام الجندي بالانضباط والقيافة والطاعة واللياقة البدنية الدائمة، كل تلك [تفاصيل] من حياة شيء إسمه الجندي، لا يتورع الضباط عن استخدامه أداة للتسلية والسخرية أو وسيلة للاضحاك. ونتيجة الرفض أو المخالفة واضحة، عدم إطاعة الأوامر. فشخصية الجندي في الجيش العراقي وحروب الدون كيخوته ذات ملامح اسطورية أقرب للامعقول والفنتازيا المريضة منها إلى الواقع؛ استثارت ذهنية الشاعر وهو يجد نفسه في
ملجأ ترابي لا يحميه من حرّ الصيف ولا مطر الشتاء، لا من عواصف الرمال ولا من شظايا القصف ، أو محشوراً ضمن طائفة من الجنود في ظهر عجلة [الايفا]، واستحقت منه أن تكون بؤرة تأملاته وتوجعاته الانسانية والشعرية. فاستخدم الرمز/ الحرف (ج) الشائع مصطلحاً في الحياة والوقوعات العسكرية اليومية. (ج م) بمعنى جندي مكلف. (ج م ح) بمعنى جندي مكلف احتياط، وهي التسمية التي تشمل مواليد الشاعر ممن سبق لهم الخدمة في الجيش. وتعرف صفيحة قيد المساق في خدمة الجيش،بأنه: الرقم/ كذا، الرتبة: ج م ح، ثم إسمه الثلاثي، إلخ. فالـ (ج) رمز عسكري تم توظيفه شعرياً لنقل تجربة إنسانية تتمثل في انتهاك معنى الانسان وكيانه. ما دفع شاعراً عراقياً آخر ليضع جملة غنية بالدلالات في مستهل أحد دواوينه (الانسان، بناء الله، ملعون من هدمه!)/[ علي الشلاه في مجموعته (ليت المعري كان أعمى)]. لم يكن الترميز(الكناية بحرف أو رمز) جديداً في الثقافة العراقية المعاصرة وانعدام الحريات، بل كان البحث جارياً عن صيغ وأساليب تعبيرية دون الوقوع تحت طائلة القصاص. فدلالة الجيم، إذن هي ليست (جيش) الذي صبغ البلاد وأحال سوادها إلى (خاكية) التراب والرمل
والغبار ، ليست شخصية الجندي الذي كان بطل مرحلة الثمانينيات وضحيتها الأول، بكل اشتقاقاته ومترادفاته وتشظياته، وانما جثة (الجندي) ولذلك دلالة عميقة عن الموقف من حرب قهرية مفروضة عليه، انه لا يشارك في تلك الحرب ولا يخدم أغراضها كما يبدو، وانما هو فيها مجرد (جثة)..

كنا في الدار ثلاثة

أنا وعذابي النائم كالجثة

وسط الدار

و(كذلك شخص لا أعرفه)! - قصيدة جيم-

فالمشاركة الفيزياوية/ الظاهرية تلغي المشاركة الوجدانية والفكرية عبر عملية إقفال ذاتي كامل تجاه الخارج، مما يمثل موقف احتجاج جذري واجه به الجندي/ الشاعر قرار الحرب التدميرية غير الشريفة بكل المعايير. وعبارة انشطار شخصية/ كيان الشاعر إلى ثلاثة كما يؤكد في السطر الأول [كنا في الدار ثلاثة]، محاولة لإعادة تنظيم صفوفه/
وجوده بما يناسب حالة الخطر الخارجي المدمر، [أنا ، وعذابي (النائم)، (وشخص لا أعرفه)]، فالأنا الشعرية لا تستسلم للطارئ ولا تستدرجها الهاوية، وانما تنشطر وتنشطر مثل الأميبا ومثل اليوغلينا ومثل الأفعى للمحافظة على الحياة وتحدي ظاهرة الموت بكل معانيه ومستوياته. ولم تكن حصة الحرب غير (جثة)/ (عذاب نائم)، وحواليها يحرس ملاكان، (أنا)/ الشاعر، والشخص الآخر المبهم، الذي يمثل العمق الاستراتيجي الروحي للذات الشاعرة والذي سوف يتبدى في أماكن أخرى في صورة الطفل أو التوحيدي أو العاشق،..

اكتشفت اللحظة أن الساحر مسحور

أن الساحر يبكي كالطفل..

نظر الساحر لي قال: بأني الطفل

فتعجبت من القول!.. –أنا وأبي والمعنى (مج أخبار المعنى)-

فالشخصيات هنا تتناسخ وتتناص لتحل الواحدة في الأخرى أو تتبادل الدور والهيئة، وهي صور أرواح هائمة متنقلة تكتنف اللحظة الشعرية لينظر عبرها الشاعر إلى عالم تبلطه الكراهية والرذيلة فتنقذه من الدمار والانحراف. من خلال حرف (جثة) أنقذ الشاعر الانسان من السقوط في مهاوي اللعبة ونزق الطواغيت، ليقول لنا أن ما أخذته الحرب أو تأخذه ليس سوى [جثث]، وأن الروح والفكر بقيت في قرار مكين.

فدلالة الجيم، بناء على ذلك، (جثة جندي جيش جحيم) الحرب، جحيم الحالة والحياة العراقية في كرنفال الموت المزوق بالتوابيت والأعلام السوداء والأعضاء المبتورة وجيش المعوقين والمتهسترين في أسواق العراق ومستشفياته العسكرية بلا تحديد.
يذهب سيف الظالم في الظلمات -أنا وأبي والمعنى (م. س)-

في تناص حروفي جميل بين [ظالم/ظلمات] والمتناصة معنوياً ولونياً مع [الطائر الأسود/ غراب الليل/ الريش الأسود/ طائر الشؤم] في قصيدة طيور من مجموعة (جيم). ويذكر أن مترادفات اللون الأسود تتردد لدى الشاعر في غير موضع وبصور ومناسبات متباينة:

* غير أن الله رأى دمعتي في جوف الليل

ليل أرض السواد.. –دمعة مضيئة (مج حاء)-

* هّومت.. أنا روح العشب

عشق العصفور وذاكرة التفاح

ولع الطين الأسود

لأمنّي الروح بأرض

تؤوي جذري المنفي.. -إشارات التوحيدي (مج جيم)-

* أختبئ اليوم كطفل أرنو للفجر

أقرر أن أبعث كلماتي حتى يعتدل العالم

يذهب سيف الظالم في الظلمات.. –أنا وأبي والمعنى (مج أخبار المعنى)-

* ونبت لي معنى

معنى وحشي أسود

كرمح (وحشي) الذي اغتال

-سيد الشهداء-.. -جيم شين (مج حاء)-

وتستمر حالة المطاردة والمراوغة بين الشاعر والمعنى في قصيدة الجندي/ الجثة (جيم) الآنفة..

من بعد ليال عامرة

حضرت للدار الجثة قالت:

قالت أشجار الليل

(أنا عارية دثرني

ودمي ينزف.. لا تلمسني..

أنا برج الشاعر

هو ذا لا يبرح قلبي

وأنا المأوى في اللا مأوى

فتعال لموتي
كالطعنات

وأقم من حولي سوراً للنسيان

سوراً من أحجار هائلة

أسلاك شائكة وجماجم أطفال)..!

فالليالي (عامرة) بالموت، الذي يجمع (الجثث) ويصفها الواحدة بجنب الأخرى مثل (أشجار الليل) ليقيم منها (سوراً من أحجار هائلة/ أسلاك شائكة وجماجم أطفال)، وهنا نتوقف مرة ثانية ضمن دورة التناص الوجودي أو تناسخ الطبيعة، جثث تتحول إلى أشجار، أشجار تتحول إلى أحجار هائلة، ثم تتحول إلى جثث مرة أخرى أو ما يتبقى من الجثث بعد التفسخ والاستحالة إلى تراب (أحجار) وهو (جماجم) أطفال. وفي دورة ثانية: أشجار تتحول إلى ليل، ليل يتحول إلى سور، سور عبارة عن أسلاك (شائكة). وهنا يتم ربط ساحة الموت (المعركة) بالمدينة النائمة خلف أسوار الليل، هناك الجثث وهنا الجماجم التي تحيل إلى معانٍ عدة. أحدها ما سبق الاشارة إليه من تحلل جثة الكائن الحي بعد الموت إلى مكوناتها الأصلية [من التراب وإليه]، والمعنى الآخر الاحالة التاريخية الدينية على قصة الطف وحمل رؤوس الثوار إلى القصر الحاكم، وهنا تدخل (جيم) الجثة في تناص تاريخي يعيد صياغة
سياق الحرب من صراع سياسي مفتعل بين بلدين لأغراض أمبريالية إلى صراع بين الانسان (جندي) وسلطة الطغيان التي تسوقه إلى الموت لإشباع شهوات [الآلهة المزيفة]*، فالضحية في الطرفين هو الجندي الانسان لا غير، وهي النتيجة التي اختتمت بها مسرحية حرب البلدين [لا غالب ولا مغلوب!] إلا الانسان/ الجندي. أما المعنى الثالث والمرتبط بالاضافة إلى (أطفال)، وهو إحالة نفسية على الذات (الشاعرة) [أنا برج الشاعر] التي سبق لها أن انفصمت إلى ثلاثة [أنا وعذابي النائم وشخص لا أعرفه!]، أي العودة إلى بداية القصيدة في بناء دائري هرمي مرتفع من الداخل. ودالة الذات الشاعرة التي تتكرر في شعره تتمثل في (الطفل) وهي ظاهرة أكثر حضوراً لدى جيلي الثمانينيات وما بعدهم مما لدي السبعينيين.

أنا برج الشاعر

هو ذا لا يبرح قلبي

وأنا المأوى في اللا مأوى

ففي غير موضع يشير الشاعر إلى نفسه في صورة الطفل كما سبق في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) وفي غير قصيدة من حاء (الولد) وغيره. أما إذا أردنا تجاوز ذلك كله للاستقرار على تفسير واحد، نتوقف مع نظرية التطور وفسلجة النمو المشيرة إلى أن عقل الانسان يتوقف عند عمر السابعة بينما يستمر نمو بقية
الجسد حتى عمر العشرين، هذا الجسد هو الذي يتحلل بينما الجمجمة التي تتكون من مادة نخاعية رقيقة تقاوم درجات الحرارة والضغط.

فتعال لموتي كالطعنات

وأقم من حولي سوراً للنسيان

حيث يتكشف مدى اليأس
الذي يتلبّس الذات (المأوى في اللا مأوى) المطالبة بالبقاء خارج مديات الوعي (أقم من حولي سوراً للنسيان) في محاولة للانقلاب على كل شيء واستنكاره. وكما يتمثل في طريقة بناء الحوار (إدارة الخطاب داخل النص): [حضرت للدار الجثة قالت: قالت أشجار الليل.. الجثة قالت ذلك، لكن الجثة كانت نائمة في الدار، وما نطقت أبداً!]. وفي عبارة (الجثة كانت نائمة في الدار) إحالة رجعية على عبارة (عذابي النائم كالجثة وسط الدار) في بداية القصيدة، أي نقض إثبات، وتأكيد لفكرة المراوغة والالتفاف على الرقيب التي سبق الاشارة إليها.

ودلالة الجيم هي الـ(الجنة ) التي وعد بها المتقون، أي أتقياء النظام وضرورته المنتهية، حسب سياسة الدعاية الحربية التي استخدمها كل من البلدين الاسلاميين، بربط
الولاء والموت في الحرب بمكافأة (جنة عرضها السماوات والأرض). وبين دوامة الاعلام الرسمي والتأويل الديني البسيط، وقفت (جيم) الشاعر، بل وقف الجيم ميم حاء، متردداً، هازئاً، يواجه قدره بنفسه، ويتساءل، عن أية قيمة، تستحق أن تكون ثمن حياته، أو تجعله قاتلاً أو مقتولاً بينما يتناكح زعماء البلدين [حسب توصيف سليم مطر في القارورة]. وعليه، فهو لا يقاتل، لأنه لا توجد قضية، ولا أمل أو هدف. انه قتال مع الحشيش، حسب تعبير هربرت ريد. في بعض قواطع الحرب التي كان الطرفان قريبين من بعضهما، تبادل الجنود البسطاء من البلدين نفس الأسئلة: لماذا تقاتلوننا، هل أنتم مسلمون، هل تحبون علي والعباس؟ في الحقيقة، كان كثير منهم انما يقاتل الحشيش، أن تكون جندياً، يعني بالدرجة الأولى أن تقاتل بالنيابة، وتفعل كل شيء بالنيابة، والنيابة، تعني بفعل الأمر القسري وليس محض الرغبة والقناعة والارادة.

عارٍ كالتفاحة قلبي، وعميق كالتابوت

في الفجر.. رأيت التفاحة

تتعرى في بطن التابوت

في
الليل رأيت التفاحة

تقضم رأس التابوت

عارٍ كالتفاحة قلبي، ولذيذ كالتابوت.. – قصيدة (طائر الموت)-

بكلمة أخرى.. جاءت مجموعة (جيم) المحيلة على دلالاتها [.. الجنون موته أحمر/ كحرف الجيم/ كحرف الجنة والجلجلة والجمجمة]/(قصيدة جيم شين) والمكتوبة خلال حرب الثمانينيات والصادرة مع نهايتها عام 1989 ترجمة هيرودوتية تضمنت قاموساً وافياً مزوداً بالشروح والهوامش، استطاعت قول ما لم يقل في كرنفالات العطايا الدموية.

آه.. يكفي

فأنا رجل أدبت لساني

حتى استخفى فيّ الصمت

بقناع نبي! -إشارات التوحيدي (مج جيم)-

مجموعة جيم ليست صورة من أدب المعركة، لا بالمعنى السلبي ولا بالمعنى الموجب، ولم تعنَ بوقائع الحرب وتواريخ المعارك، معارك (جيم) كانت تلك
(الملحمة) التي جرت داخل الذات بكل ما تضمنته من أسئلة مستعصية نقلت إشكالية الحياة والانسان العراقي من مشكلة تأمين الخبز والسقف إلى أزمة الذات الانسانية في مواجهة أضراس العالم الجهنمية، الوجه الآخر لسؤال جلجامش بين الموت والبحر والطوفان والأفعى، عين المفردات والأجواء التي ترددت في قصائد الشاعر. ان العجز عن تغيير الواقع أو حرف مسيرة الدمار ورفض التسليم بمنطق الشرّ دفع إلى ايمان منقطع بالكلمة [أقرر أن أبعث كلماتي حتى يعتدل العالم (مجموعة أخبار المعنى)] وإلى إعادة صياغة مسرح الكارثة والمأساة كما في مجموعة (نون) [حبّكِ ناطحة سحاب/ حلمتُ بها / وخططتُ لها وبنيتها طابوقة طابوقة/ وحين أكتمل البناء العظيم / نسفتـُها من الأعماق .] أو الخروج من الراهن للدخول في متاهات المطلق والمغيوب التي مثلت المستوى الآخر (اللذيذ) في معالجات الشاعر
للأحداث والمتوزعة في تلافيف قماشته الشعرية الواسعة وتماهياته أو تناصاته الصوفية والدينية ممثلة في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) من مجموعة [أخبار المعنى]..

علينا بالرقص لأن المرأة شيء باطل والطفل كذلك، والسيف قوي. والمعنى مكتنز في الرقص فارقص!.. أخبرت الساحر أني أعمى لا أعرف إلا خيطاً من ذاكرة الفجر وأخفي في كفي وشماً لامرأة عارية ماتت منذ سنين.. صرخ الساحر في وجهي أرقص.. قلت بأني أعمى..



هذه الحركة الداخلية العنيفة المترجمة عبر الحوار، هي صورة الصراعات الأرضية العبثية في المستويات الجوانية المترادفة للذات الانسانية وهي تتعرض لأشرس عملية استلاب ومسخ تضطلع به قوى جبروتية داخلية وخارجية.. تخلخل موازين الصراع وسياقات الملحمة. ان أبطال الملاحم التقليديين كانوا من الآلهة ذات القوى الخارقة، بينما الملحمة العراقية العصرية أبطالها جنود مستلبون في وسط طوفان من الغول وقدرات التكنولوجيا القاهرة، فكيف يوجه الشاعر سيرورة الصراع؟.. كما يستنجد جلجامش بالجد الأعلى: أوتو نبشتي، يحضر رمز الأب لانقاذ (الطفل)/ الشاعر في قصيدة مبنية على تناصات دينية جاذبة..

ضحك الساحر، قهقه، ثم ارتجف حين تألق
وجه أبي في الغرفة. أمسك بالعين السوداء فأحياها، أمسك بالأذن الجرداء فأسمعها، أمسك بي. اشتد المطر فخفت على ثوب أبي الأبيض أن يتسخ وقال أبي لا تحزن أنك في عيني. فبكيت. نظرت، رأيت الفجر لأول مرة. ووقعت على كفّ أبي لأقبلها، والغيمة تعصف عصفاً. وبدا أن الأرض ستغرق. قال أبي لا تحزن هذا مطر الفقراء انظر فنظرت العشب بقامة طفل!

**

وبفهم دلالات الجيم العراقية تتكشف أمامنا دلالات (حاء) المنفى، الخلاص من ربقة الجيم وكابوس البيانات العسكرية الصادرة من رئاسة الأركان العامة/ وزارة الدفاع/ دائرة السوق
العام : على جميع المشمولين بالسوق في الدفعة الأولى من مواليد (كذا) والمساقين معهم من المؤجلين لأسباب صحية أو أسباب الدراسة ودافعي البدل، مراجعة مكاتب تجانيدهم في مدة أقصاها (كذا) ومن يتخلف... . أنه في لحظات معينة، في بلدان معينة، تكون الحرية أغلى من الحياة نفسها، وفي بلدان يكون الحبّ. أما عندما لا يكون ما يقلق كيان الانسان، فأن التعلق بالحياة ولذائذها يكون قيمة عليا، كما في الغرب. وهذه الحاء، في اشتقاقها المباشر أو انفصامها من منظومة (ج م ح) هي عملية تفريغ لكل الترسبات والاسقاطات ومعارك النيابة والرغبات والمشاعر والأفكار والانفعالات والاحتراقات الداخلية والخارجية، انها عملية غسيل وتطهير الذات والمخ من أدران مرحلة مظلمة.

يقول برتولد بريخت: في الأوقات المظلمة/ هل ثمة غناء/ نعم ثمة غناء/ عن
الأوقات المظلمة. فأغاني الخارج، غير أغاني الداخل، أنها مغسولة ومعجونة ومضمخة بمياه الحرية والاندفاع، أغاني الداخل معجونة بالخوف والكوابيس والجمل غير المكتملة. وكما أن الجثة (جزء) من كيان جندي والجندي جانب من صورة الانسان، والجثة والجندي مفردتان في قاموس الحرب/ الجيش. وإذا كانت جغرافيا الجيم محصورة داخل بقعة معينة فجغرافيا الحاء فضاء مطلق يتجاوز الكرة الأرضية إلى الوجود الأوسع، الذي لا يمكن تقدير تجلياته بسرعة. لكن تحرير الجثة من [حيز/ مساحة] الجندي، لا يعني خلاصاً من حالة الحرب التي تبقى، أو بقيت مستمرة منذ أيلول 1980، تحولت من الشرق إلى الجنوب، تغيرت صور ودخل لاعبون جدد وفصول غرائبية جديدة، أصبحت (الرقعة) أوسع حسب التعبير العراقي الدارج، أصبح لها أسماء مثل حرب الخليج الأولى والثانية. ولم تتوقف.

كنت ساذجاً

لأنني منذ أن تعرفت إلى الوحشة

نبتت لي ذوائب وأنياب

ونبت لي تاريخ دموي وجغرافيا زرقاء

ونبت لي غناء سري عميق كالفرات

وزعيق رغبات وحشية

تحاصرني كما تحاصر الدبابة

أعمى في البرية

ونبت لي أنين

طوله مليون سنة..! -جيم شين (مج حاء)-

تطورت الحححرب إلى احححتلال، وأخذت صورة ححرب أهلية غير معلنة ولكنها لم تتوقف. الحرب ليس لها تذكرة،
لذلك لا تستطيع أن تصعد الباص لتغادر –باسم فرات-. وليس غريباً أن تكون العلاقة الزمنية بين [جيم/ حاء] رقم النحس (13) لتجسيد دلالات النحس والدمار التي حملها غراب الحرب الأسود إلى أرض السواد. وإذ تحددت دلالة الجيم (جثة)/ موت، فأن دلالات (حاء) لا نهاية لها عبرها تدرجها اللوني في [ج(ح)يم] إلى حياة وحب وحرب وحرية. وكما أن المسافة بين الحياة والموت، بين النور والظلام، الوجود والغيب شعرة، فأن العلاقة بين الجيم والحاء، نقطة.

بمسمار طويل ثقبت قلبي

لاهية ضاحكة عارية

كشمس تشرق فوق البحر

وحين بدأ قلبي ينزف

جمعت قطرات قلبي وكتبت بها

كتبت باصبعك على صدري (الحقد)

فاستمر قلبي ينزف

ثم كتبت (الحرية)

فاستمر قلبي ينزف

ثم تعريت تماماً

وكتبت (الحبّ)

فتوقف قلبي عن النزيف

وتوقفت شفتاك عن الهذيان -ثلاثةحاءات-

هنا تجدر الاشارة إلى أمرين أو ظاهرتين: الأولى: ظاهرة لغوية بنيوية ممثلة في أسلوب التعبير باللغة العربية القائم على استخدام الفعل في - صيغة الغائب- بدون ذكر الفاعل (وتقديره على أنه ضمير مستتر)، أو استخدام الفعل - في صيغة المخاطب- دون وجود ما يؤكد أو يشخص طبيعة هذا الضمير وهويته. مما يمنح التأويل الشعري مديات غير متناهية، وكما يتجلى في فعل الخطاب المؤنث [ثقبتِ/ جمعتِ/ كتبتِ]. أما الظاهرة الثانية فيمثلها حضور المرأة الطاغي في التعبير اللغوي بالعربية. ما إن يستتر الفاعل أو المفعول به وتكون الدالة أنثوية [تاء التانيث، نون النسوة، التاء المربوطة] حتى ترتسم صورة المرأة وراء المعنى. ففي المقطع السابق، القائم على مخاطب مؤنث، [لاهية ضاحكة عارية] لا
يترك مجالا للشك مدعوماً بكسر تاء المخاطبة، لدى القراءة السريعة أو المسطحة. بينما يمكن تمعن صورة أخرى خلال ذلك ممثلة في عملية التحول من جمهورية (الجندي/ الجثة/ الجحيم) إلى مملكة الحاء، والدالة هنا هي الحرب التي ثقبت قلب الجندي/ الشاعر بمسمار طويل طوله ثمان سنوات أو خمسة آلاف سنة، هذه الحرب كانت هائلة وطاغية ولاهبة (كشمس فوق بحر) وهي صورة حسية عميقة لا يتصورها من لم يعشها، - سواء في الحرب أو البحر-، والحرب بطبعها وطبيعتها لم تكن خلال ذلك غير (لاهية ضاحكة عارية). وهي التي جعلت قلب الشاعر ينزف شعراً وألماً، حتى تشبع ساديتها الهوجاء، متدرجة من الحقد إلى الحب إلى الحرية.. ونجد هنا الوصف (ثم تعريتِ تماماً)، دلالة على انكشاف الغاية واستنفاد الوسائل أو استكمالها، فاذا تعرت لم يبقَ لها ما تفعله أو تستتر به [غير أن ] (توقفت شفتاكِ عن الهذيان) والهذيان هو رحى الموت والدمار أو الكارثة. والحرية بالتالي هي المرحلة التي أعقبت الجثامين والجحيمات.



تداخل الذاتي والوجودي:

وإزاء أهمية وحضور هذه الأسئلة الوجودية المحيرة، تضمنت مجموعته (حاء) الصادرة بعد مغادرته العراق قصائد بيوغرافية واسترجاعات جميلة من زمان الطفولة والصبا. ففي ظروف مغادرته لوطنه، كانت أسئلة
الحياة والموت والحرية والسجن والحبّ والكراهية شاغلة حيزه الوجودي والشعوري والفكري، ظهرت الحاء، الحح التي تترقرق في الحنجرة عندما تكون عوامل الخارج أعتى من عوامل الداخل. وهذه الحححح، تولد عبرة، دمعة، شهقة، نغرة أو نغزة، حرقة في الحلق، انها تختلج هناك وتمكث مدة، حتى ليحسب السامع أن صاحبها مات أو شهق أو كاد، قبل أن تسمح بمرور العبارة/ الكلمة، عندها يلمس السامع حرارة الحححححياة، وحيوية الحححححبّ، وحلميّة الحححححريّة، وحرقة الحححلق. الحلق هو قنطرة الحياة، منه يمرّ الهواء والماء والغذاء فتنتشر الروح في الجسد وبدونه لا تكون.



وعليه، فالحاء قنطرة بين الحياة والروح والحرية إلى (الجانب الآخر من عدن). وسنجد أن هذه -الحاء- استحالة رجعية عن فكرة -الجيم- التي واطنت الشاعر في فترة الحرب/الثمانينيات، بعد الغاء النقطة. فهل النقطة هي الموت بالمعنى الدلالي لدى الشاعر، لتكون الحاء انتصاراً للحياة والحرية والحب..

.. فلقد عبرت حاجز الخوف/ وعبرت حاجز الحرمان/ لم يبقَ إذن، غير حاجز الموت!

وبقدر ما تمثل مجموعة (حاء) تجاوزاً لمرحلة الخوف والحرمان والحرب والحصار، فقد تضمنت رؤية تأملية ذات منزع ذاتي، استعرضت ما ضاع مما بقي، وأفرغت شحنات متأخرة من ظلمات الجحيم. فكانت أكثر نزوعاً بذلك إلى استلهام السيرة أو استذكارها وأكثر انفتاحاً للحب..

مات حبي قبل عشرين عاما

ولم أزل الى الان استقبل المعزّين .

*

لازلتُ- وقد عبرتُ أربعين موتاً –

طيراً لايعرف الطيران

ولازلت – وقد عبرت أربعين بحرا –

شاطئا يبحث عن سفينة .

*
12/1/06



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فراشة سوداء
- الرصافي الخالد
- لزوميات نصيف الناصري
- صراع الذات والآخر في قصيدة داليا رياض (تطيش نحو السماء)
- - كفى تناسلاً أيها الخراب!-
- المرثاة في الشعر المعاصر
- عن المرأة والمدينة في ظل التحول الاجتماعي
- الشعر.. الرؤية الكونية.. وبشارة الحاضر
- إشكالية الخروج.. من الاغتراب الذاتي للاغتراب الوجودي
- نظرية التوا زنات الافقية في رواية دابادا
- خُوَاء
- جلولاء.. سيرة مكان.. (1 - 4)
- عودة الزنابق
- بعقوبا .. سيرة مكان)
- وقفت عن حبك
- توقفت عن حبك
- وجوه متداخلة
- غسل العار والعودة لوأد البنات
- الفرد والعالم..
- الترجمة والهوية والمسؤولية الاخلاقية


المزيد.....




- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...
- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - ن تقاتل بلا أمل/ يعني أن تقاتل الحشيش