|
البحث عن أزمنة بيضاء -3 -
غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2191 - 2008 / 2 / 14 - 09:52
المحور:
الادب والفن
البحر مرآة شفيفة، تستقبل ضباب أبخرة حبلى، تراوغ الاندماج في الماء، الضباب يسربل رأس المنارة ويأخذ خليج رأس التين الى غبش الحالة،تبدو الأمكنة خارجة لتوها من حمام الضحى.مراكب الصيادين على بساط الماء، سكرانة ببقايا دفء وعافية تركها الرجال ليعرضوا بضاعة طازجة في حلقة الأسماك.الحالة تغري على الاقامة، وتفتح بوابات البوح قالت: - كم هو بديع البحر اليوم. شرد بؤبؤ عينها مرتبكاً خلف زجاج نظارتها، رأيته زغلول حمام مغطى بأشواك إبرية حادة، يتشيا قنفذا يختفي داخل كرة الشوك، قلت: - جميل أن يكون الانسان في الاسكندرية. قالت كمن يحدث نفسه: - أن يأتها سائحاً. لاذت بصمتها، وأخذنا نراقب الحياة على الكورنيش، كان ثمة عاشقان يتناجيان على صخرة، زوادتهما حبيبات فستق محمص، وربما قرطاس ترمس مملح، وأنا وهي معلقان على شرفة في الدور الرابع، نواجه البحر والسماء...قلت : - عاشقان يعرفان لغة البحر. - خائن من لا يعشق بحره. اختلجت شفتاها، وتغضنت شحمة ذقنها المدببة، فسجت وجهها الى غموض محبب، وبدت مثل عجوز بهية انهكتها الموانئ. قلت حذراً من الخوض في ماء ليس لي : - لِمَ كل هذا الألم ؟ - حطت سفينتي في غير مرفأي. - الإسكندرية مدينة عاشقة. مسحت زجاج نظارتها، وقبل أن أتسلل الى بياض عينيها أطبقت رموشها على أرنبين بريين، فعدت الى مربعي. النظارة تمتطي الأنف الدقيق، تذكرت حكاية جاري، صياد الأرانب البرية، يوم قبض على أرنبة حبلى، وحبسها في حجرة لترويضها، وعندما عاد اليها وجدها جثة هامدة تسبح في دمها. حاولت الخروج من الأسر، فارتطمت بالجدران الخشنة، حتى أجهضت وقضت نزفا. - علمني الصياد العجوز أن الأرنب البري لا يروّضه غير وليف يعشق رائحة أثره. انتبهت على صوتها محمولا على بحة من غرق في الوجد، تماهى مع الذكرى.. - هل سرحت خلف العاشقين؟ كان الفتى قد أخذ فتاته تحت إبطه، وسارا حافيان عند حواف الماء. قلــت : - للعشاق طقوسهم هربت تسأل عن الأهل والبلد، تستعيد قصص الناس، أخذتني دقة التفاصيل، كأنها لم تغادر قبل عشرين سنة، تحضر الأمكنة والأزمنة طازجة، كأنها ترتب أجندتها كل صباح، تستعذب التوقف عند شقاوات صباها، تنداح مثل جدول يصب في بحيرة وادعة. تأتي على سيرة فتيان أصبحوا رجالاً وصبايا صرن نساء وأمهات، لم تقترب من سيرة فسق أو فجور أو خيانة، تريد أجندتها نظيفة من كل رجس. ركضت مع الحكايات، وتسللت خلف زجاج النظارة رأيت في بؤبؤ العين اليمنى شيخاً يتلفع بعباءة قاضٍ يقلب أوراق قضية، يقبض عليها بثقة، أما اليسرى فكان في بؤبؤها رجلاً عرفته قبل أن تغتاله متفجرة سوداء. كان القاضي القدير يطوي آخر ورقة في الملف، ويحاصر دمعه كادت تزحف على صفحة خده.قالت : - درست الحقوق بناء على رغبة أبي. تأخذني إلى ما لا أريد، وتبعدني عن ما أرى، صرخت قهراً.. - لماذا تعذبين نفسك لدرجة القتل يا شمس. رشقتني بصلية دفاع محام متمرس : - أنا أستعيد ذاتي لأحيا. تستعيد ذاتها في خاصرة الاسكندرية، هل احترقت، وتناثرت شظايا وأصبحت تراب رماد ما زال ملتهباً، شئ ما قبض على خاصرتي واعتصر رئتيّ، فتنفست ضباب أبخرة قطران وزيوت حرقتها تروس آلة عمياء. قلت وبلا مقدمات : - وماذا عنه ؟ - من ؟ - من تنامين على وسادة ذراعه. - لا أريد الخوض في الكوابيس. كانت الشمس قد اغتالت ذرات الضباب، وتألقت المنارة وعاد الصيادون الى مراكبهم استعداداً لمشوار آخر، فيما الفتى والفتاة يغادران الشاطئ الى زحام المدينة التي مشطت ضفائرها واندمجت مع نبض الحياة. قلت وأنا أراقب أجنة عرق تتخلق على أديم وجهها : - كيف تقطعين الوقت ؟ - مع ناسي وأهلي وأمكنتي هناك. - ولكن الزمن لا يمد كفا بيضاء كما نتمنى. - كل المواعيد أزماني منذ الينابيع الأولى. - غاضت المياه في الآبار وقد صادروا النهر والبحيرة. - زيتونة جدي في دورا الخليل ما زالت تعطي زيتاً. امرأة ترفض أن تتوسد ذراعاً مقطوعاً، لرجل انقطع لشهوات أخرى فلاذت هي بحضن الحكاية. والحكاية هناك. منا من يبقى هنا تسبقه أحلامه الى هناك، ومنا من يقيم هناك تعذبه اشواقه الى هنا. وكان لا بد من وداع عند محطة ما. وعلى رصيف محطة سيدي جابر، انتظرنا عذاب صافرة القطار المتجه الى القاهرة، تضربنا مطرقة الوقت. أخذت كفها بين راحتي، واغتنمت الفرصة كي أمسح عن عينيها غلالة حزن مقيم، فصافحني زغلول حمام اكتسى بريش أبيض ناصع البياض، انفجر النحيب في صدري قفزت الى عربة القطار التي أخذت تتحرك. لوحت لي، كان طير أبيض يسابق القطار، وصوتها ما زال يعلو على ضجيج عجلات القطار. - حان موعدي مع رواية أخرى عن هناك. شهق زغلول صدري فعبأني بوجع الفضول، وقطاري في الإياب والذهاب يتوقف عند المحطات قليلاً، وأنا أبحث عن نوافذ تأخذني إلى بعض فصولي.
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحث عن أزمنة بيضاء - 2 -
-
البحث عن أزمنة بيضاء - 1 -
-
عطش الندى - قصة فصيرة
-
شهادات في زمن الحصار
-
أعواد ثقاب في ليل حالك
-
أفشالومي الجميل
-
حكايات الغربة -2 -
-
حكايات الغربة -1 -
-
حكايات في واقع الحال -3 -
-
حكايات في واقع الحال - 2 -
-
أجندة غزة وشطب الذاكرة -10 -
-
حكايات في واقع الحال - 1 -
-
بيضاء مثل القمر - قصة قصيرة
-
أجندة غزة وشطب الذاكرة - 9
-
حكايات عن واقع الحال
-
أجندة غزة وشط الذاكرة - 8 -
-
غزة وشطب الذاكرة -7 -
-
البلياردو
-
غزة وشطب الذاكرة -6 -
-
الطبيب والزائر الغريب
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|