أنا عائدٌ (والطُرقُ تُقعرُ كالعشايا
وبلا جوازٍ أو هدايا)
ضيفاً أدُقُ عليّ بيتي..
. . . .
وأنا إلي قدحي أعودُ مُسارعا
وغطاءُ طاولتي البقايا من مقال
أتفحّصُ التاريخ سطراً مائعا..
. . .
كم قد صحبتُ أبا نواس
(وأنا أحدّقُ في المرايا)
في القعر من كاسٍ لكاس..
حسب الشيخ جعفر
" من قصيدة يا صائداً وطواط حرف "
نال الشاعر المبدع حسب الشيخ جعفر جائزة العويس الادبية للشعر لهذه السنة 2003 ، وهو حدث ، عدا كونه امرا مفرحا ، فانه يؤشر ايضاً الى حضور الشاعر المييز ومكانته في المشهد الثقافي العربي .
ادناه محاولة لرسم صورة قلمية لحسب : الانسان ، والمثقف ، والصديق ؛ تاركا المجال للكلام عن شاعرية حسب ومنجزه الشعري الى النقاد المختصيين .
اعرف " حسب الشيخ جعفر " منذ عقود ، وبالتحيد من بداية الستينات ، اذ جمعتنا مدينة موسكو معا – هو الاتي من قرى العمارة ، وانا القادم من مدينة صغيرة من اعمال الكوت ...وبسبب تقاربنا في السن ، وكذلك بسبب تقارب مرجعياتنا الفكرية ، وحبنا للثقافة بكل تنويعاتها ، فقد نشأت صداقة حميمية منذ اليوم الاول الذي تقابلنا به !
وازداد اعجابى بحسب ، وتعاطفي معه ، وفخري به عندما كنا نلتقي مرارا بصحبة غائب طعمة فرمان وعبد الوهاب البياتي وكثير من الشخصيات العراقية الثقافية المرموقة ، المقيمة وقت ذاك في العاصمة السوفيتية .
واذكر جيدا اللقاء الذي نظم بعيد فاجعة 8 شباط المشؤومة من عام 1963 على مدرجات متحف " البولتكنيك " في موسكو والذي شارك فيه الشعراء الجواهري والبياتي .. وحسب الشيخ جعفروغيرهم من المثقفين العراقيين ، بالطبع كانت الاجواء ، واللحظة الراهنة ، والحدث ، والمكان ، كلها تعمل عملها لصالح الجواهري وشعره الخطابي التحريضي المباشر ، بحيث ان اكفنا " احترقت " جراء تعاقب سلسلة من التصفيقات المدوية التى صاحبت قراءة الجواهري لقصائده ، واستجابة لشعره وطريقة القاءه المعبرة ، ذلك الالقاء المنطوي على التكرار والفخامة والايقاع السريع ، والشد والترقب والمباغته الكلامية ، الامر الذي حدا بسكرتير اتحاد الادباء السوفيت وقتذاك ، والذي كان حاضرا ، بصفته الجهة الراعية للاجتماع ،الى ربط حرارة القاء الشاعر و" هياج " تجاوب القاعة ( رغم عدم فهمه لمغردات اللغة التى تدور بين الشاعر ومتلقيه ! ) مع اجواء الندوات الفريدة والصاخبة التى كانت تنظم بحضور الشاعر ماياكوفسكي وشعرة الثوري الطليعي على ذات المدرجات بعينها .
وفي تلك الاجواء المشحونه بالعواطف الجياشة ، وقف صديقي الشاعر حسب ، ليكلم الجمهور بمفردات " مابعد حداثية " تضئ المغزي الدلالي لمعناها ، وتحاول ان تستدعي الفواجع الانسانية العديدة التى شهدها التاريخ البشري ، للتذكير بحدث المأساة العراقية ومن ثم ليربطها " بتناص " متعمد ، مع مثيلاتها التراجيديات الانسانية الكبرى الاخرى !
بالطبع ، كانت الصورة مختلفة ومغايرة تماما بين الشاعرين في كل النواحي ، لكنها من جانب اخر ، قدمت " حسبا" كشاعر مجد ، يقف برسوخ مع ممثلي اعمدة الشعرالكلاسيكي والطليعي .
.. في موسكو ، كنا نسكن في اقسام داخلية ، حالنا حال جميع الطلبة الاجانب ، وكان لكل كلية او جامعة اقسامها الخاصة بها ، كنت ازوره في قسمه الخاص بمعهد غوركي ، كان يسكن معه طلاب اجانب من دول مختلفة ، هم ادباء المستفبل ، وكان من ضمنهم طلبة من اليمن والسودان ، وكان يحذرني دائما من مشهد قناني الفودكا الفارغة التى ستتطاير حتما فوق رؤسننا اثناء "حوارات" الطلبة السودانيين التى تتناول شؤون الادب والثقافة ...والسياسة بالطبع !
في عام 1965 كنت الشاهد العربي الوحيد لمنح الشاعر العراقي المميزشهداة الماجستير في الاداب من معهد غوركي المعروف عالمياً ، وحرصت بشكل خاص ان اساهم في تلك المراسيم الثقافية والعلمية المفعمة بالاحاسيس ،/ عندما يقف الشاعر لاخر مرة ..كطالب ، امام لجنة خاصة تمنحه الدرجة العلمية بعد انتهاء الدراسة واجتيازه لاختبارات عديدة . بالنسبة الى الاخرين تمثل هذه اللحظات مناسبة مهمة تحفظها الذاكرة : لحظة التحول من طالب علم .. الى مختص باختصاص معين تكرسه شهادة علمية معترف بها قانونيا وعلميا ً ، وكما هو متوقع فقد خصت القاعة بجمهور غفير من اصدقاء الخرجيين وعوائلهم ، فاليوم هو يوم منح الشهادة علنا لادباء المستقبل ، ومن ضمنهم حسب الشيخ جعفر . كانت الاستاذة المشرفة على دراسة حسب قلقة ومتوترة قليلا من ان لحظة التخرج ستمر من دون ان يشهدها احد ، من اصدقاء ومعارف الشاعر الغريب !
وبدخولي الى القاعة التى كانت تجري بها مراسيم المناقشة الاكاديمية ، و" بسمرتي " الواضحة ووجهي المميز الذي يشي بانتسابي الى بلدان شبيه لبلد الشاعر الغريب ، تنفست الاستاذة الصعداء < حسب ما رواه لي حسب بعدئذ > ، من ان اللحظة التاريخية التى ستمر تواً سيقبض عليها وستسجلها الذاكرة ، لتعيد انتاجها مرة اخرى بعد حدوثها ، قبل ما يقارب اربعة عقود مضت!
ينبغي ان اعترف بان مشروع الشاعر االشعري الذي كرس حسب حياته لاجله لم يكن مفهوما لدي تماما في بدء تعارفنا ، اعرف انه شاعر ، وشاعر مجد وطليعي ، ومبتكر .. ولكن ماهي حدود ابتكاره ، ماهي ادوات طليعيته ، لم يكن ذلك واضحا لي في تلك الايام ، وهل هذا يهم ؟ فانا دائما ، كنت ولازال احتفي بالانسان المبدع ، ايا كان ابداعه ، فبل ان احتفي بنوعية ابداعه ، من هنا ، فقد كنت انظر الى حسب وانجازه الفني كانسان قريب وصديق اولا ، بكل تميزه الانساني .. ونواقصه الانسانية .. ايضاً ؛ ولهذا فقد حافظت على صداقته طيلة هذه الفترة الطويلة ..
في المرات العديدة التى تجمعني لقاءات مع حسب وغائب طعمة فرمان وجلال الماشطة ، كنا جميعا نفهم صمت حسب الخفيض ، وشروده الدائم ، كنا نعرف بانه في عالم اخر ، عالم الشعر الذي ينتمي اليه بكل نزوعه واحاسيسه .
في بغداد ، وبعد ان انهينا دراستنا في بلد الشمال ، شاهدته ، صدفة ، : رجل ملتح ، بنظارات سوداء ، ضعيف البنية ، وبسروال جينز ، اخبرني بان هذه الهيئة ضرورية للتمويه من مراقبة شرطة الحكم العارفي ، فقد كان مطلوباً ، ليس لانه اقترف ذنباً ما ، ولكنه مطلوب كونه ظل وفياً على طول الخط لقناعاته ومبادئه التى ينتمى اليها ، القناعات والمبادئ التى كانتا حاضرتين بوضوح كخلفية زاهيه، لونت منجزه الشعري ، وصاغت اسلوب حياته في التعاطي مع ذاته ومع الاخرين. ورغم ظلم وجور وبشاعة الحكم الدكتاتوري الاستبدادي البعثي ، ومحاولة ازلامه النيل من الشاعر المجد ، فقد ظل حسب الشيخ جعفر ، محتفظا لنفسه بمسافة بعيدة عنهم وعن توجهاتهم ، عازفا عن مغرياتهم وعطاياهم المسمومة ، رافضا المشاركة في اعمالهم الشعبوية الفجة ، متوجا هذا الرفض بخطوته الجريئة في الخروج من العراق ، ومن ثم ليتهم بشتى التهم من قبل سلطات الحكم البائد للنيل من عزيمته، وحرمانه من حقوقه المدنية العادية .
.. وتجمعنا الصدفة ، مرة اخرى ، في عمان ، المدينة التى وصل اليها تاركا بلده وعائلته . في عمان ، كان يدرك تماما من ان خطوته في الخروج من العراق ستكلفه الكثير ، وكلفته الكثير !..
كنت ازوره في "مسكنه " ؛ وكلمة "مسكن " – هنا مجازية ، فهي لا تعكس معنى النزل بمفهومه الدلالي ، ولئن حدد المعمار العا لمي " لو كوربوزيه " < العمارة > بانها " الفضاء المحصور " ، فان عمارة " مسكن " حسب " العماني الاول ، كان فضاءا مفتوحا واسعا لبستان اشجار، وفي هذا البستان ثمة مكان < مكان ، لاغير > لنوم حسب ، وصحبه الابرار ! ورغم قسوة الظروف التى مر بها ، فقد كان معتزا كثيرا بصوابية خطوته الشجاعة في اعلان احتجاحه ورفضه للنظام الاستبدادي البائد !
كان يفرح كثيرا عندما ازوره ، واحس بانه يستدعي بحضوري في تلك المدينة الغريبة عليه ، مسار حياته المتعب والمضني ، ذلك المسار الذي واكبته منذ ايام موسكو الاثيرة لديه ، والى هنا ،في عمان . كان يعتز كثيرا في الزيارات التى اشاركه فيها الى دار سعدي يوسف ؛ كان يعتبرها اوقاتا ممتعة ، تزيل عنه عسر و شظف الحياة العمانية القاسية الموحشة التى كان يعيشها وحيدا ، في غرفة منزوية ، كنت ، وانا المعمار ، اشعربنوع من الحيرة ، عن آهلية " البعض " في تصميم هكذا احياز ؛ فالوصول الى غرفة حسب يتم عبر الصعود الى الطابق الثاني ، ثم الخروج الى السطح ، فالنزول الى الارضي من خلال سلم اخر منزوي للوصول الى الغرفة ؛ الغرفة التى تحتوي على طاولة تغطيها صفيحة لجريدة قديمة ، وكتب .. قليلة .. وثمة قنينة حاضرة دوما في احدى زوايا الغرفة ، ادرك انها سلوته ، في وقت لا احد يسليه !
دائما ، كنت اتساءل ، وانا انظر اليه ، في لقائتنا العديدة والتى كنت اصغي الى صمته وشروده ، هل ان قدر الانسان العراقي المبدع الحقيقي ، ان يظل بائسا ، ومدقعا ، ومعدما ، ومعوزا ؟ واذا كان ذلك حقاً ، وهو ما ابتلى به كثير من المبدعيين العراقيين ، وبضمنهم حسب ، فان ذلك ماهو الا : لعنة ؛ لعنة لا احد يعرف مصدرها ، والكل تحاول ان تتناساها وتتغافل عنها ..
فهل تضع الايام القادمة حدا ونهاية " لطرفة " لعنـة الابداع العراقيـة ؟..
.. نتمى ذلك ؛ ولحسب الموفقية والسعادة ... والشعر الجميل .
معمار ، واكاديمي عراقي