|
بارقة أمل .. من -الصعيد الجوانى- (1)
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2190 - 2008 / 2 / 13 - 10:52
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
"الصعيد الجوانى" .. كان حتى عهد قريب منفى للمغضوب عليهم – بالحق أو بالباطل- من موظفى جيش الإدارة المصرية، وهى سياسة عجيبة لا نعرف ما إذا كانت عقوبة للموظف المهمل ام عقاباً لأبناء الصعيد الذين يحتاجون الدعم والمؤازرة لا أن نبتليهم بالفرز الثانى والثالث من طبقة كبار صغار وصغار كبار المسئولين. والأخطر من ذلك أن هذه المنطقة الهائلة من جسم الوطن، والتى كانت مهد الحضارة المصرية وفجر الضمير للبشرية بأسرها، تعرضت لسنوات وعقود متتالية إلى إهمال جسيم من العاصمة، وعانت من شتى أنواع الحرمان والتمييز، فضلاً عن أن أهلها ظلوا مادة للتندر والسخرية والنكت العنصرية البايخة دون مبرر! ومنذ شهور قليلة فقط بدأت القاهرة فى الاعتراف بالظلم الواقع على الصعيد، وبدأنا نسمع عن سياسات جديدة تستهدف تعزيز التنمية الاقتصادية والإجتماعية والثقافية بمحافظاته، وبالذات النائية منها. ولأن هناك فجوة واسعة تقليدية بين الخطاب الرسمى وبين الواقع الحى، فأننى رحبت بدعوة محافظ قنا اللواء مجدى أيوب ومحافظ سوهاج محسن النعمانى لزيارة هاتين المحافظتين الواقعتين على شمال السماء، والتى اعتدنا أن نطلق على الأولى إسم "قنا عذاب النار" وأن نقرأ اسم الثانية فى ذيل قائمة تقارير التنمية البشرية باعتبارها أفقر محافظة فى البلاد. وفى هذه الزيارة، التى كان الدينامو وراءها الزميل أحمد طه النقر أحد الأبناء الأوفياء لـ "أولاد يحيى الحاجر" فى سوهاج والمدافع الصلب فى الوسط الصحفى عن الصعيد وأهله، والتى تشرفت فيها بمرافقة الأصدقاء الأعزاء الزملاء عبدالرحمن الأبنودى، ونبيل زكى، ورياض سيف النصر، وفريدة الشوباشى، وجمال أسعد، وحمدى حمادة، ووليد الشرقاوى. ثم كانت المفاجأة السارة أن يكون فى استقبالنا وصحبتنا هناك زميل صحفى آخر لا يقل صعيدية عن أحمد طه النقر هو أبوالعباس محمد. فى محطتنا الأولى، قنا، ذهبت وأنا مشفق على محافظها مجدى أيوب لسببين: أولهما أنه تولى مسئولية المحافظة خلفاً لمحافظ ناجح هو عادل لبيب. والاستمرار فى النجاح صعب، بل ربما أصعب من تحقيق النجاح ذاته، فالسبب الثانى – بصراحة – فهو أنه المحافظ القبطى الوحيد، وشاء حظه أن المحافظة التى يتولى مسئوليتها كانت معقلاً للقبلية المقترنة بأفكار تنطوى على قدر يزيد أو يقل من التعصب والتزمت والطائفية أيضاً. ولذلك فإن نجاحه أو فشله لن يكون نجاحاً أو فشلاً لـ "شخص" بقدر ما سيكون نجاحاً أو فشلاً لـ "فكرة" و "نموذج". ومن واقع ما رأيناه ولمسناه وعايشناه بأنفسنا أستطيع أن أقول دون تردد أن مجدى أيوب "الشخص" و "النموذج" قد نجح، بل حقق نجاحاً باهراً. حيث توارت النعرات والحساسيات الطائفية لصالح إعلاء قيمة المواطنة. وأن يحدث ذلك فى الصعيد الجوانى، وفى "قنا .. عذاب النار" بالذات، فإن هذا أمر بالغ الدلالة، يرد على الكثير من الهراء والكلام الفارغ والأزمات المصطنعة التى يختلقها أقطاب الظلامية والتزمت ويلوثون بها المناخ الفكرى للقاهرة عن "الولاية الكبرى" و"الولاية الصغرى" وغيرها من المقولات التى لا تفعل شيئاً سوى تسميم آبار الوحدة الوطنية وزرع بذور العداء بين المواطنين المصريين، المسلمين والمسيحيين. وجاءت تجربة مجدى أيوب العملية لتقدم الجواب القاطع على هذه الترهات دون ضجيج أو كلام كثير. كما أن تجربة هذا المحافظ، الذى لا نسمع إسمه كثيراً فى وسائل الإعلام، أثبتت شيئاً آخر لا يقل أهمية، هو أن قيام كل مسئول جديد بتدمير وتشويه إنجازات المسئول السابق عليه ليس "ثقافة فرعونية" لا مفر منها كما يتصور الكثيرون. فهذا رجل احترم انجازات سلفه، وحافظ عليها، وأضاف إليها. ولم نسمع منه كلمة إساءة واحدة له، بل إنه رفض محاولات بعض ضعاف النفوس التملق إليه، ونفاقه، عن طريق هجاء عادل لبيب. وبهذه الروح .. استمرت قنا نظيفة، وازدادت جمالاً، بصورة أثارت حسدنا نحن سكان القاهرة التى أصبحت عاصمة القذارة فى العالم. الشوارع الرئيسية والجانبية والحوارى الضيقة نظيفة جداً، وبعضها مزروع على جانبيه الزهور والورود، بصورة تذكرك بمدينتى ، المنصورة، فى سالف الزمان عندما كانت عروس الدلتا بحق فى خمسينات القرن الماضى! وعندما قمنا بجولات ميدانية فى المحافظة وقراها، وليس فى مدينة قنا فقط، أصر المحافظ مجدى أيوب أن يركب معنا سيارة "الميكروباص" التى أخذتنا على مدار يومين إلى قرى المحاميد التابعة لمركز أرمنت، والعقب بالظهير الصحراوى التابعة لمركز قوص، وحمره دوم بلد خط الصعيد نوفل الشهير، والمنطقة الصناعية بمدينة فقط، وقناطر نجع حمادى الجديدة، ومدينة أبو تشت – بلد أبوالعباس محمد والتى كانت سابقاً من أفقر وأتعس مدن مصر بأسرها – فضلا عن معالم فى قنا العاصمة مثل مجمع قنا التجارى ومواقف السيارات الجديدة خارج الكتلة السكانية وتوسعات مسجد سيدى عبدالرحيم القنائى وقاعة المؤتمرات الجديدة، ومخبز المساكن ومحطة المياه والصرف الصحى بالصالحية. ولم تكن النظافة هى فقط القاسم المشترك الذى لفت الأنظار، بل كان هناك أيضاً عمل شاق يجرى على أرض عانت من الفقر والحرمان والاهمال عقوداً وقروناً طويلة. ومن أبرز معالم ذلك تلك المنطقة الصناعية فى قفط( وهى كلمة ربما تنطوى على تحوير لكلمة قبط التى استمدت منها مصر إسمها). وفى هذه المنطقة الصناعية رأينا استغلالا للقصب، المحصول الرئيسى فى المنطقة، لأغراض صناعية متعددة، منها إنتاجاً دوائياً لخام المضادات الحيوية من مادة المولاس، أحد مخلفات صناعة السكر، يقوم بتصدير ما قيمته 40 مليون دولار سنوياً للصين والهند، تنتجها سادس أكبر شركة على مستوى العالم فى إنتاج الجيل الرابع والخامس من المضادات الحيوية. كما تم إنشاء مصنع للورق بقوص بتكلفة 1350 مليون جنيه، يوفر 1200 فرصة عمل، ويصدر إنتاجه لأفريقيا والدول العربية. وفى دشنا يتم إنتاج الفيبر بورد بتكلفة 200 مليون جنيه، ويتم تصدير المنتج إلى الدول العربية والأفريقية. بالإضافة إلى مشروعات خارج المنطقة الصناعية وفى مقدمتها مصنع الالومنيوم بنجع حمادى، و4 مصانع للسكر فى نجع حمادى ودشنا وقوص وأرمنت، ومصنع للأسمنت بقفط، ومصنع للغزل والنسيج فى قنا، وترسانة نيلية فى قرية المحاميد بأرمنت. ومما له دلالة أن مصنع النسيج المشار إليه كان فى طريقه إلى الخصخصة، لكن القيادات المحلية – وعلى رأسها الحاج أحمد عبدالغنى – ناقشت وزير الاستثمار الدكتور محمود محيى الدين فى هذا الأمر وحثته على التراجع عن ذلك من أجل مصلحة الناس الذين لا تنقصهم "بركات" الخصخصة، وحسنا فعل وزير الاستثمار عندما استجاب لهذا الطلب. وكل ما سبق لا يعنى أن "قنا" أصبحت جنة الله على الأرض، بل يعنى أن الأمور اليوم أفضل مما كانت عليه بالأمس، ورغم أن الطريق مازال طويلاً فإن هذه التجربة تثبت أن الإصلاح ممكن وأن الناس متشوقة لقيادة نزيهة تحترمها وتسير معها فى طريق التنمية الطويل. وللحديث بقية.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بارقة أمل .. من -الصعيد الجوانى- (2)
-
الإنفاق الحكومى.. بين العقلاء والمجانين
-
فى مجتمع غارق فى الحنين إلى الماضى ..رؤية مستقبلية لمصر
-
.. إنها الفوضى -الخلاقة-
-
حتى لا تضيع دماء شهدائنا .. هدراً
-
الكونجرس الأمريكى أمس .. والبرلمان الأوروبى اليوم .. وماذا ب
...
-
هدايا -بوش- من بنوك الخليج
-
حدود -دريد لحام- .. وحواجز -شنجن-!
-
الاقتصاد السياسى للعسكريتاريا الباكستانية
-
ميزانية حرب
-
سلام آخر زمن : إسرائيل ترفع قضية على مصر!
-
-بطة- هناك .. و-أسد- هنا!
-
يحدث فى مصر .. فقط
-
قنبلة الأفكار المسمومة .. التى قتلت بينظير بوتو
-
رغم أى شيء.. كل سنة وأنتم طيبون!
-
-تشريع- الكونجرس و-أنفاق- ليفنى!
-
أفيقوا.. البلد يغرق!
-
أسئلة تحتاج إجابات قبل أن يحترق الوطن (2)
-
أسئلة تحتاج إجابات قبل أن يحترق الوطن -1-
-
باقة ورد علي ضريح فتحي عبدالفتاح
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|