|
مرجعيات الحزن في الأغنية العراقية - القسم الثالث
عبد الجبار خضير عباس
الحوار المتمدن-العدد: 2181 - 2008 / 2 / 4 - 12:09
المحور:
الادب والفن
فالحزن هو أشد صدقا في التعبير عن مشاعرنا، وليس حالة معيبة يحاول البعض الانفكاك منها،فهي دليل على عمق المشاعر، والأحاسيس الإنسانية، فالإنسان العراقي القديم، عاش في بيئة غزيرة المياه وكثيفة الخضرة، ولذلك وصفوا الأهوار بجنة عدن، وهي بيئة معطاء، فإلى جانب الجمال البيئي تتوفر اسباب الزراعة، و الأسماك، والطيور، والحيوانات، في تكامل بيئي فريد، لهذا نجد ان الإنسان العراقي يحب الحياة، ولذلك بحث عن الخلود كما ورد في ملحمة كلكامش، فلقدم تعامله مع الزراعة وحاجته المبكرة لوسائل انتاج، وتعامل حسابي، وقانوني ..الخ جعل الانسان في العراق يتقدم بشكل مبكرعلى بقية سكان المعمورة، فاتسعت مداركه، وتعمق إحساسه بتراكم زمني سحيق، فليس عجبا ان نراه قد صنع واستخدم عشرات الآلات الموسيقية منذ آلاف السنين، وبما ان الأغنية هي إشباع لحاجة فردية، وحاجة اجتماعية، فهي انعكاس لكل هذا المزيج، فضلا عن وشائج غامضة ملتصقة بحميمية في اعماق الروح، ومتغلغلة في تلافيف المشاعر البدائية التي مازالت مستقرة فينا حتى الان، اذ تراكمت عبر آلاف السنين، ثقافة فنية وموسيقية نتيجة التطور الحضاري، وبمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية .. فلا غرابة، اذا تحدثنا عن إرث موسيقي في العراق، اذ ورد في كتاب ( الموسيقى في العراق القديم) للدكتور صبحي أنور رشيد، ان تدريس الموسيقى في العراق القديم لم يكن خاليا من النظريات الموسيقية، التي لها علاقة بالرياضيات.والمعروف تاريخيا ان سكان العراق القدامى كانوا ذوي شهرة عالية جدا في الرياضيات والفلك، ولهم انجازات علمية معروفة، لذا فلا بد ان يكونوا قد توصلوا الى معرفة العلاقة بين طول وتر الآلة الموسيقية وطبقة الصوت وكذلك عرفوا العلاقة بين بعض الأرقام والأبعاد الصوتية، اذ ان الحسابات الصوتية في الموسيقى بنيت في البداية على أوتار القيثارة السومرية، الا ان حساب الصوت اكتسب أهمية لاسيما بعد ظهور العود الأكدي ( 2350 ــ 2170 ) فبواسطة أوتار العود، يمكن توضيح العلاقة والنسبة بين طبقة أو درجة الصوت وبين طول الوتر، وبواسطته شرح الموسيقيون النظريات الموسيقية، وفي الكتاب ذاته يورد جداول موسيقية دونت في العصر البابلي ذكرفيها السطر ورقم الوتر واسمه، واسم البعد الموسيقي ( صعود المثيل او المتكرر، اللحن الأساس للأغنية ، المسدود...الخ) واسم البعد الموسيقي باللغة الاكدية، مثلا اسماء الاوتار 1ـ الوتر القدامي ( الأمامي ) 2ـ الوتر التالي 3ـ الوتر الثالث، الوتر الرفيع 4ـ الوترصناعة الإله آيا.. الخ وثمة اشارة الى السلم الموسيقي البابلي 1ـ ايشارتو 2ـ كتمو..الخ وتعني الكلمة السومرية كالا ـ ماخ الكاهن الموسيقي الكبير للغناء الحزين،وثمة ثلاث درجات له، أما ( نارـ كال ) الكاهن الموسيقي الكبير للالحان الذي يغني الألحان السارة، وهذه كذلك تنقسم إلى ثلاث درجات، والى جانب ذلك هناك اعداد كثيرة جدا من الآلات الموسيقية، منها الخشبية (كيش) والقصبية(كي) والجلدية (كوش) والنحاسية (اورودو) والبرونزية زبار، ومنها الوترية وآلات النفخ وآلات النقر وثمة كتاب خاص عنها للدكتور صبحي أنور رشيد بعنوان (الآلات الموسيقية في العراق القديم).ان إسهابنا في الحديث عن الآلات الموسيقية، وتنوعها في العراق القديم له قوة الدلالة في عمق الإحساس أثناء أداء العراقي للأغنية، إذ انه يمتلك ثقافة وارثاً موسيقياً يمكنه ويسهل مهمته في التعبير عن أعماق مشاعره، عبر تراكم زمني استقر في جيناته الوراثية، إذ هو وريث هذا الإرث الحضاري، والتاريخي. بهذه المقدمة نريد القول: ان الأغنية العراقية والقصيدة قد تبلورت عبر مخاض استمر آلاف السنين، فهو ليس طارئا،فضلا عن التطور الحضاري والثراء البيئي، فهو ليس كالبدوي المتوحد في الصحراء والمقتصر على نوع واحد هو الحداء المتزامن ايقاعيا مع حركت الأبل في القافلة، فلايوجد ذلك التمسك بالحياة وحبها والتمتع بمباهجها، حتى اذا ما مات احدهم دفن في المكان الذي مات فيه فيترك شأنه شأن الرعاة، لكن سكان وادي الرافدين، هم في بيئة وصفت بجنة عدن في الادبيات التوراتية، بجمال اخاذ ومصادر عديدة للحياة، اذ الاسماك والطيور والحيوانات والتربة الصالحة للزراعة، فالإنسان هنا متشبث بالحياة محب لها ملتصق بها حتى بحث عن الخلود كما في ملحمة كلكامش، فاذا ما مات احدهم يحزنون بشدة عليه اسفا لمغادرته هذه الحياة. واسطورة دموزي مشهورة، كما يذكرها كتاب جيمس فريزر ترجمة جبرا ابراهيم جبرا( كان الناس يعتقدون ان تموز يموت كل سنة متنقلا من ارض المسرات الى العالم المظلم تحت الارض..وفي الكثير من القصائد البابلية مراث لتموز الذي فجعت به الأرض..ويظهر ان الرجال والنساء كانو يندبونه كل سنة مع موسيقى الناي والمزمار في أواسط الصيف في الشهر الذي سمي باسمه. وعن إحدى المراثي ( نوح المزامير على تموز) نكاد نسمع حتى الان اصوات المغنين تردد الأبيات الحزينة، ونستبين الحان المزمار بآهاته المتوجعة، كأنها موسيقى صادرة من بعيد.ترفع صوتها في النواح اذ فارق الدنيا ترفع صوتها في النواح قائلة: وا ولداه ترفع صوتها في النواح اذ فارق الدنيا قائلة( اواه يادامو )اذن المطرب أو المغني وحتى المشاعر العادية وترنيمة الأم لوليدها يقولها الانسان العراقي باحساس عميق وفيض من المشاعرلاحاسيس تنتقل جينيا نتيجة هذا التراكم الذي اشرنا اليه والذي اصطبغت به الاغنية العراقية وكذلك نجد الاغنية في ايران وتركيا متشابه من حيث عراقتها وعمقها واصطباغها بحزن شفيف لكن الحزن العراقي له خصوصيته ، كما للصينيين شكلهم الأصفر وللأفارقة لونهم الأسود، وموسيقاهم المفرحة على الرغم من ملازمتهم للمآسي والكوارث وسوقهم كعبيد.ولمجمل الأسباب التي ذكرناها نجد العراقي شديد الانفعال ومستفز عادة، ومتطرف بعواطفه وقراراته حادة، وقاطعة،يقول تشيخوف من لايكره بقوة لايحب بقوة. الخجل من الحزن
يقول جان جينيه: لقد كانت شاعريتي تافهة طوال ان كنت أسعى إلى سعادتي، ولكنها صارت جذوة حامية حين كنت افر من تهديد الشقاء، ان الشعر الجميل كقوس قزح لا يرتسم فوق سطح معتم لهذا كان الحزن عنصرا مناسبا كل المناسبة للعبقرية، راجع الى انه كلما كان النور الذي يضيء العقل قويا كان ادراك العقل لسوء حالته اوضح وادق، فالإنسان يسعى بجهده طول حياته محتملا اشد صنوف العذاب والالام محفوفا بالمتاعب والعراقيل همه ان يحافظ على هذه الحياة البائسة التافهة كما يصفها " شوبنهاور" بينما الموت ماثل نصب عينيه في كل فعل وفي كل آن. حين يسأل بعضهم عن الحزن في الأغنية يبدأ وكانه يدافع عن تهمة، أو جناية،أو إثم عظيم أو اقترف عملا شائنا، نتيجة محاولات النظام السابق وسذاجة بعض المسؤولين من أركانه ، إذ اعتقدوا ان الحزن في الاغنية لاينسجم مع الأفراح التي أتت بها الثورة! وعليهم تغيير أحاسيس ومشاعر الناس وتطويعها لمواسم الفرح التي أتى بها النظام، وثمة حكايات ساخره بهذا الشأن، منها مطالبة المطرب ياس خضر بتقديم أغان مفرحة، فوعدهم بذلك وذهب النظام، وحتى الآن لم يستطع تنفيذ وعده! ، وراح بعض من المطربين أوالمثقفين يحاول تخفيف مفردة الحزن واستبدالها بمفردة الشجن غير المناسبة لغويا، اذ ورد في( تحفة الاحوذي)... وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة والشجن بالتحريك واحد الشجون ... طرق الأودية ومنه قولهم: الحديث ذو شجون أي يدخل بعضه في بعض وفي مواعظ ابن الجوزي (... براحات الجثث القلب أسير بالحزن والدمع غزير بالشجن والفكر يذيب القلب فما مثل الفكر على ... عيني أعيني قلبا قلقا بالدمع ليطفئ نار الشجن أصبحت أسيرا في خطئي وذنوبي قد ملأت).فلم تورد مفردة شجن لغويا بمعنى نصف حزن أو حزن مخفف!!، ومن المعلوم ان أجمل وأغلب أغاني أم كلثوم، مصطبغة بحزن شفيف بدءا من أغنية الاولة في الغرام، والآهات، وياظالمني، ولسه فاكر، الى الاطلال وغيرها من الاغاني الكثيرة الأخرى، على الرغم من ان طبيعة المناخ وطباع الناس في مصر هادئة الى حد ما،الا انها غنت بأحاسيس عميقة تلونت بالضرورة بالحزن، وكذلك من أعذب ألاغاني العالمية، ما غنته المطربة الفرنسية "اديث بياف" من حزن يكاد يلامس شغاف القلب،ومن شاهد فلم الحارس الشخصي، ليس من السهولة ان ينسى اغاني "وتني هيوستن" لحزنها الشفيف وعمقها وصدقها، وكذلك مجمل الأغاني التي يقدمها الإنسان بحس وجداني وصدق في هذا العالم تكون أكثر تأثيرا في المتلقي. ثم هناك أطياف وتلاوين من مستويات الحزن في الأغنية العراقية، فما يقدمه المقام العراقي عموما من درجات للحزن، يختلف عما يقدمه الغناء الريفي، فما تقدمه حنجرة "يوسف عمر"من لون للحزن يختلف عما تصدح به حنجرة القبانجي فضلا عن تفرد ناظم الغزالي في بثه حزناً شفيفا رقيقا مؤثرا بروح جديدة مختلفة في تلاوينها الا انها تبقى متمسكة بسمات حزنها العراقي، والذي قدمه حضيري أبو عزيز، أو داخل حسن من إحساس فطري بالحزن عميق يمتد الى مساحات شاسعة من خارطة المشاعر الانسانية العراقية وعمقها الضارب في بدايات الزمن من مستويات للحزن ، وثمة فن على مستوى راق كالذي قدمه رياض احمد وياس خضر وحسين نعمة، وفاضل عواد وسعدون جابر يختلف عن الحزن العميق حد البكاء كالذي يقدمه في "الطور المحمداوي" "نسيم عوده" وآخرون، وثمة تفسيران لذلك، اولهما ما قاله الناقد عبد الأمير جعفر: إذ شبه الحزن (كزير الطرشي) قمته تعبر عن بدايات الحزن من الشمال في العراق، ثم تزداد عمقا باتجاه الجنوب.وهنا نختلف مع هذا الرأي إذ مفعوله ينتهي حتى البصرة، حيث وقوعها على بحرالخليج وطبيعة مناخها، جعلها تجمع بين انتمائها التاريخي والحضاري والاجتماعي، وخصوصيتها البيئية، فإلى جانب مقاماتها وأطوارها المشوبة بخصوصيتها وامتزاجها مع الأغنية العراقية، فهي تمتاز بأغانيها المفرحة والمرحة المتسمة بالإيقاعات السريعة، فقد أثرت وتأثرت بالأغنية الخليجية،( فالخشابة) من غير الممكن ان يؤدوا أغاني حزينة. وثانيهما: يفسر الحزن العميق في الجنوب كنتيجة لاضطهاد الإقطاع ومؤثراته، فضلا عما ذكرنا من أسباب ومؤثرات وتراكم حضاري كل منها أسهم بشكل أو آخر في التكوين السيكولوجي والبايولوجي والأنثروبولوجي للإنسان العراقي، فصوته ومشاعره وأحاسيسه وتحسسه الجمالي وتذوقه وتعبيره عن الحب والحياة هو مزيج من هذه التكوينات والمؤثرات. ربما نكون بذلك قد اقتربنا من مرجعيات الحزن في الأغنية.
#عبد_الجبار_خضير_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرجعيات الحزن في الأغنية العراقية القسم الثاني
-
مرجعيات الحزن في الأغنية العراقية
-
المجتمع المدني المفهوم والظهور العالمي
-
الرعي الجائر
-
مفهوم المجتمع المدني
-
الحرية ام الديمقراطية ؟
-
حوار مع المفكر الإسلامي الديمقراطي ضياء الشكرجي :حركة التاري
...
-
قراءة في المادة (29) من الدستور العراقي
-
هرم ذو أجنحة مهولة ...زحزحة لقناعات راسخة
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|