|
نصف قرن على مشاريع - رايت - البغدادية: تصاميم العمارة المُتخيّلة (1-2)
خالد السلطاني
الحوار المتمدن-العدد: 2181 - 2008 / 2 / 4 - 12:09
المحور:
الادب والفن
* الى " ديران ناصر": زميلي التدريسي في جامعة بغداد
ثمة عقود زمنية محددة، مرت على العراق، كانت أحداثها ذات تأثيرات عميقة على مجرى حياة العراقيين وعلى مسار مستقبل بلدهم ؛ واقصد بالطبع الاحداث الحضارية والثقافية على حدٍ سواء ؛ نتائجها المؤثرة هي التى وسمت ورسمت طبيعة تلك المسارات وحددت آفاقها المفتوحة . وفي هذا الشأن يكاد يكون العقد الخمسيني من القرن الماضي الاكثر اشراقاً والاكثر تاثيراً والاكثر اهمية في تاريخ العراق الحديث . انه في هذا المعنى يضاهي (يفوق؟) قيمةً وخطورة عقد العشرينات، ذلك العقد الذي انطوى على حدث تأسيس الدولة الحديثة وما تبعها من تغييرات عميقة وشاملة طالت جميع فئات المجتمع العراقي، المجتمع الذي ظهر فجأة، متصفاً بمعالم معينة ومنتمياً الى حدود خارطة جغرافية الدولة الحديثة. نزعم اذاً ، بان عقد الخمسينات له نكهة معينة واهمية خاصة، يزيدهما دلالة ومعنى كون تاريخ العراق الحديث لم يشهد نظيراً لانجازاته: لا قبل ذلك العقد ، ولا بعده. فما خطط له وما تحقق من مشاريع تنموية وعمرانية في تلك السنين القليلة كانت بحق، تجسيدا لطموحات العديد من العراقيين وتحقيقاً لآمالهم بامكانية التغيير نحو الاحسن والافضل اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ً. ورغم مفاسد الحكم ابان تلك الفترة وجنوح ساسته نحو الحكم المطلق، الا ان ذلك لم يؤثر كثيرا على مسار التغيير الذي شمل جميع مناحي الحياة ، ما نجم عنه حالة مميزة بوضع متفرد، وضع افضى لان تكون " البنى الفوقية" فيه، وفقاً للتعبير الماركسي، واسمة لطبيعة "البنى التحتية" ومسيرّة لها، اذ تراجعت الاخيرة متنازلة عن دورها " الطليعي " لتفسح المجال لهيمنة الاولى وسيادتها، مُضفية ً على ذلك " العقد الفريد " السمة التى يستحقها، سمة، ولابأس من تكرارها، سمة "العقد البطولي" الحافل بالتأسيس والريادة ! . وهل بالامكان تجاهل انجازات ما تحقق في مجالات ابداعية كثيرة كالفنون التشكيلية والاداب (ولاسيما في الشعر) والموسيقى وفي التعليم و طبعا في ..العمارة؟ ومن نافل القول الاشارة مرة اخرى لاهمية وحقيقة ما انجز في عراق الخمسينات ودورتلك المنجزات وتداعياتها في تكريس مفاهيم الحداثة الثقافية بكل اجناسها الابداعية، ليس في فقط في المشهد العراقي حسب، وانما في عموم الفضاء الثقافي ببلدان الشرق الاوسط ، اذ امست تلك الحقائق الان من "كلاسيكيات" مقاربة التعاطي مع تاريخ الحداثة في منطقتنا.
تعد ظاهرة دعوة معماريين عالميين للعمل في العراق بالخمسينات من الظواهر الممّيزة (والنادرة ايضاً) في الممارسة المعمارية العالمية. وهي تمثيل معبّر ذو دلالة لناحية من نواحي الحراك الثقافي عالي المهنية، المتعدد الاساليب والمتنوع في موضوعاته الذي وسم العقد الخمسيني . ولئن عرفت الممارسة العالمية دعوة معمارين آخرين للعمل في بلد ما؛ فانها لم تشهد دعوة "مجموعة " معماريين للعمل دفعة واحدة وفي موقع معين، كما حصل في بغداد الخمسينات. وهو حدث نراه رائدا بكل المقاييس. يمكن فقط ان يضاهيه، اهميةَ وحضوراً، معرض "انترباو" Interbau في برلين1957. لكن مبعث تنظيم الاخير، كما هو معروف، كان بسبب تداعيات الحرب الباردة؛ التى رأت في العمارة ميداناً مناسباً لنزاعاتها الايديولوجية المستعرة وقتذاك؛ في حين نشد حضور المعماريين العالميين في بغداد ايجاد حلول واقعية لمدينة تطمح لان تكون حداثية؛ والتأكيد على ابراز وجه العمارة الانساني ، وارجاع فهم "العمارة" وادراكها كأداة هامة في المساهمة لحل مشكل جمالي ووظيفي وحتى..اجتماعي. من ضمن المعماريين المدعويين للمساهمة في اعداد مشاريع بغداد وقتذاك، المعمار" فرنك لويد رايت" (1869-1959) Frank Lloyd Wright . ورايت رائد العمارة العضوية، عدّ في ذلك الوقت من اشهر المعماريين العالميين الممارسين . هو الذي استمر في العملية التصميمية طوال سبعة عقود من الزمن المتواصل ؛ عندما انضم ، لاول مرة معماراًً مساعداً في مكتب " ادلر وسوليفان " في شيكاغو في نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر، وليضحى لاحقاً من اهم معماريي الولايات المتحدة الامريكية، بل و"معمارها الاول" كما يحلو للصحافة الامريكية ان تدعوه . اكتسب رايت شهرة وحاز على اهتمام الوسط المعماري العالمي لمشاريعه المتنوعة العديدة التى عدّ بعضها رموزاً لمنجز عمارة الحداثة. لنتذكر تصاميمه " بيوت البراري" قبل وفي العشرينات من القرن الماضي ، ثم " بيت الشلال" (1935) عند نهير" ران " بالقرب من بيتسبورغ في بنسيلفينيا، و"مبنى شركة جونسون للشمع" ( 1956-39) Johnson Wax Building في راسين ولاية وسكانسين، بالاضافة الى رائعتة التصميمة متحف غوغنهايم (1959) Guggenheim Museum في نيويورك، فضلا على مشاريعه المميزة لمدينة بغداد (1957) وغير ذلك من المشاريع العديدة الهامة؛ التى ناهز عدد تصاميمها، وفقاً لبعض المصادر، على الالف مشروع ، نفذ حوالي 45% منها.. لكن اهمية "رايت" لا تتأسس من كونه مصمماً لمشاريع عديدة فقط ، وانما ايضا، بكونه رمزاً من رموز عمارة الحداثة، وصاحب مقاربة معمارية دعاها " بالعمارة العضوية " Organic Architecture ؛ جاهد كثيرا لتحتل مكاناً مرموقاً في فضاء الممارسة المعمارية الحداثية، مانحا اياها خصوصية مميزة اكسبته فرادته التصميمية، ما جعل كثر ينظرون اليه كونه معماراً يشتغل خارج الجمع، ان لم نقل فوق الجمع!. والصفة الاخيرة، وان لم يعلن عنها صراحةً، فقد بدا وكأنه يتوق لان تكون جزءاً من شخصيته الفاتنة والمؤثرة "الكاريزماتية"Charismatic ؛ والتى ما برح يذكرنا بحضورها الطاغي، عبر تصريحاته " النارية " التى لا تعترف ولا تكترث بغير سواه كممثلين حقيقين لوحدهما لعمارة الحداثة. وقد تكون نزعات " الاستاذية" لديه والتوق الدائم في ان يكون " متر" Maitre العملية التصميمية، وسيداً لها، دعاه لان يؤسس " جمعية تاليزين " Taliesin في وسكانسين ، ومن ثم لينتقل بها مع طلابه كل شتاء الى اريزونا الجنوبية . و"تاليزين "جمعت في عملها اسلوب الحلقات التدريبية حول "معلم" من معلمي المهنة الابداعية ؛ المتعارف عليه مهنياً منذ عصر النهضة وحتى بدايات القرن العشرين؛ مع نظام المكاتب المهنية الذي حل محله، حيث نوعية العمل المهني ينفذ وفقاً لمهارة واختصاص العضو المشارك . في " تاليزين" بالاضافة الى المنتسبين الدائميين، كان هناك مريدون كثر، جمعتهم الرغبة في امكانية المعايشة الميدانية مع المعمار "الاسطوري" ؛ والتعرف عن كثب على اسلوب عمله وطريقة تفكيره. وهؤلاء لم يتقاضوا اجراً بخلاف المساعدين الدائميين. كان "رايت" بالنسبة الى الجميع في تاليزين استاذاً ومعلماً: استاذ العمارة، والمعبر عن مقاربتها العضوية؛ ومعلم لها ، ينقل المعرفة بها ويشرح " اسرارها" الى الآخرين ؛ الذين ارتضوا ان يكونوا تلامذته ، محتفظين بمسافة مليئة بالاحترام والتبجيل بينهم وبينه في "تراتبية" Hierarchy مقبولة كانت اجواء تاليزين مترعة بها. واذ اتقصد منحى الحديث التفصيلي عن جمعية تاليزين؛ فانما ابتغي الاشارة الى ناحيتين: اولهما استدعاء اجواء تاليزين التى نفذت فيها رسوم مشاريع بغداد؛ ، والتى نحن بصدد الكلام عنها؛ والناحية الاخرى معرفتي الشخصية ومزاملتي المهنية لاحد اعضاء تاليزين: صديقي "ديران ناصر" (1930-1994) ( والدراسة مكرسة الى ذكراه العطرة)، - التدريسي في قسم الهندسة المدنية بجامعة بغداد ، والذي انضم الى تاليزين في الخمسينات، اثناء عمل رايت على مشاريع بغداد. ورغم ان اختصاص ديران ناصر الهندسة الانشائية، وقد عمل لدى رايت بهذه الصفة، فانه اكتسب حب العمارة وقدرّ قيمتها الابداعية في تاليزين . وعرف عنه لاحقاً بكونه من اكفء الاساتذة الذين وعوا قيمة "الانشاء" معمارياً؛ ما أهله ليكون استاذا قديراً ومرحباً به دوما في قسم العمارة؛ التى درّس فيها لسنين عديدة موضوعات الانشاء والتراكيب الهندسية ضمن متطلبات تأهيل معمار المستقبل لمثل تلك المواضيع. كان ديران ناصر ، بالاضافة الى ذلك، يلبي دعوتي السنوية، للحديث امام طلابي بقسم العمارة بجامعة بغداد في موضوع " نظرية العمارة" الذي كنت القيه عليهم في السنة الرابعة؛ الدرس الذي شغل فيه منجز "رايت " الابداعي حيزاً مهما من مفرداته. كانت اجواء تاليزين البعيدة والماضية تستحضر من خلال حديث ديران المشوق والحافل بتفاصيل الحياة اليومية في تلك الجمعية المهنية، وفيها يغدو "رايت" اكثر قرباً للطلبة المستمعين؛ وتبدو تصاميمه اكثرفهماً لهم. لكن مع هذا ، مع حميمية اجواء تلك الاحاديث ، فان ظلال " المتر" المتبوؤ لمكانه "العالي" في تراتبية فاعلة تبدو حاضرة بامتياز. ففي ثنايا نوعية الاحاديث التى يسردها عضو تاليزين السابق، ومن خلال وصفه لاسلوب التعامل المعيشي اليومي، تحضر تلك "الفجوة"، التى يحرص المعمار/ المعلم على ايجادها بينه وبين تلامذته؛ وهو ما انعكس على طبيعة نتاجه المهني الذي مابرح يوصف غالباً بكونه معني باستيلاد عمارة يتقصد بها الحصول على تصاميم استثائية مثقلة في لغتها المعمارية المتفردة وشاذة في حلولها التكوينية؛ ما جعلها دوماً لان تكون عصّية على الاحتذاء والمطاوعة؛ وكأنما "رايت" ينشد بفرادتها الفـّذة التموضع عند قمة تلك الهرمية ، طامحاً الى تكريس عمل تلك التراتبية في تعاطيه اليومي مع تلامذته ومريديه . ومعلوم ان المغالاة في نهج التفرد التصميمي لاجل تكريس نزعة التفرد المهني، قد تؤدي الى تعطيل مسار تقدم العمارة نحو الامام. وغالباً ما كنت اردد على مسامع طلبتي، من ان" رايت بعبقريته ..أخر العمارة!" ؛ وتبدو الجملة الاخيرة وكأنها مفارقة ملتبسة، لكننا سوف لا نتعاطي مع نتيجتها كحقيقة مسلـّم بها، وسنمتحن مصداقيتها عبر استنطاقات معمقة ومكثفة لمقاربات رايت التصميمية المعبرّ عنها جزئياً في المشاريع البغدادية . كما اننا سنصغي ايضا، وبانتباه عالٍ، الى ما يمكن ان تستخلصه فرضيات الدراسة من نتائج محددة ، يمكن بها الاستدلال على طبيعة المنجز " الرايتوي" واهميته في الخطاب المعماري العالمي.
وعودُ على بدء؛ فثمة، اذن مشاريع تصميمة انجزها " فرنك لويد رايت" في نهاية الخمسينات الى مدينة بغداد. وهذه المشاريع التى لم يكتب لها التنفيذ في العاصمة العراقية ، ستجد لها تصاديات متحققة في مبانٍ عديدة نفذها في مدن الولايات المتحدة، سنتأتي على ذكر مكانها واهميتها لاحقا في هذه الدراسة. لكننا نود ان نشير الى ان نوعية المشاريع البغدادية ولغتها التصميمة مثلت صفحة مهمة في نتاج هذا المعمارالمميز وامست مخططاتها رغم عدم تنفيذها ، بمثابة وثائق هامة تخص حياة المعمار العالمي الشهير ونتاجه. ان اهميتها تنبع من توثيقها لتلك المرحلة الزمنية؛ كما انها تنطوي على اهمية عالية لقيمتها الفنية النفيسة كونها مشغولة من قبل معمار له حضور راسخ في الفضاء المعماري العالمي وتتسم على اسلوب مميز في الرسم والتلوين والاخراج. لكن مصير تلك اللوحات التى عمل عليها المعمارشخصياً والتى قدمها الى المسؤولين العراقيين، صادفه كثير من الاهمال والنسيان؛ بسبب ضعف الحس التوثيقي لدى القيميين على تلك المخططات وعدم وجود آليات وموارد كافية لغرض التوثيق؛ كما ان اسلوب المتابعة والتسجيل في دوائر الدولةعموما، كان ولا يزال ينطوي على كثيرمن التأخر والقدم. وساهم في تلف تلك المخططات وضياعها، كثرة تغيير مقرالجهة المخولة بامتلاكها وانتقالاتها العديدة من مكان الى آخر. كما لم يفلح بعض الادارين الذين كانت مسوؤلية حفظها تقع على عاتقهم، في تقدير اهميتها الفنية والمهنية بالنسبة الى تاريخ العمارة بالعراق، ناهيك عن عدم مبالاتهم وربما عدم معرفتهم، لاهمية "مؤلف" تلك اللوحات، الذي تجاوزت قيمة ارثه المعنوي والمادي، الان، الحدود الوطنية لبلده؛ لتشكل جزءاً من محتويات سجل الميراث الثقافي العالمي الواجب الحفظ والاعتناء. وحدهم المعماريون العاملون في تلك المؤسسات التى آلت اليها مخططات "رايت" (ومخططات غيره من المعماريين العالميين المهمين الذين عملوا للعراق)؛ مع بعض المهندسيين المتنورين، لفتوا انتباه المسؤولين الاخرين الى اهميتها المهنية ، واشاروا الى قيمتها الفنية سواء لتاريخ البلد او لتاريخ العمارة العالمي. لكن نداءاتهم، في الغالب الاعم، لم تلق الاستجابات المرجوة ولم يكترث احد بها. وظلت تلك المخططات " يتيمة" الرعاية، الجميع متنصل منها، والغالبية لا تعي اهميتها الفنية. وبمثل هذه "المتابعة" ، فـَقد العراق الكثير من وثائقه الهامة التى "دونت" تاريخه الحقيقي والواقعي، بعيداً عن أوهام ذلك " التاريخ" الشفاهي والافتراضي، الذي يحلو للحكام الذين تعاقبوا على حكمه، اختلاقه وتأسيسه!. يذكر المعمار معاذ الالوسي (1938)، في مخطوطة له اطلعت عليها مؤخرا، بانه وجد في "سطح" المديرية العامة للمباني كثير من المخططات العائدة لمشاريع مهمة اعدها معماريون مرموقون للعراق، بضمنها مخططات رايت الشهيرة، وجدها مرمية بالعراء ومكشوفة تماما لانواء بغداد القاسية. لكنه ، كما يذكر، آل على نفسه حمايتها وانقاذها وحفظها وانتشالها من مصيرها المأسوي المحتوم. (*) . وشبيه تلك الرعاية، قام بها المعمار "سعد الزبيدي" (1944) ، عندما كان مسؤولا اداريا لمؤسسة المباني. فقد جاهد لان تكون تلك المخططات الباقية ذات القيمة الفنية والمعمارية العاليتين في اماكن امينة بعيدة عن ما يمكن ان يصيبها ضرراً ما . واذكر بانه اراني، في مطلع التسعينات، هو الذي يعرف مدى اهتمامي المهني والشخصي بانجاز عمارة عقد الخمسينات، على لوحة رايت الاصلية والخاصة بتصميمه " لدار الاوبرا"؛ وهي معلقة في غرفة صغيرة قريبة من مكتبه الرسمي حتى يطمئن الى وجودها وسلامتها كلما مرّ الى مكتبه. ولا املك تصورا محددا، الان، عن ما آلت اليه تلك اللوحة وغيرها من المخططات المهمة التى كانت بحوزة المؤسسة العامة للمباني التى انتقلت اليها ملكية ورعاية وحفظ تلك المخططات؛ فعسى ان تكون في اماكن سليمة حفاظا لها، وحفاظا بالتالي على "الذاكرة" المعمارية العراقية ،الذاكرة المعنيين جميعا في حضورها وادامتها وصيانتها.
صمم " فرنك لويد رايت" في عام 1957 مشاريعا عديدة الى بغداد ، جمعها في عنوان واسع هو " المركز الثقافي البغدادي " والذي اشتمل على مبانٍ عديدة ذات وظائف متنوعة منها مبنى " دار الاوبرا" الشهير، و مبنى " القبة السماوية" Planetarium ، ومتحف خاص بالقطع النحتية الضخمة التى تعود الى حضارات العراق التاريخية القديمة، ومتحف آخر غير بعيد عنه مخصص الى الفنون التشكيلية العراقية المعاصرة، بالاضافة الى مركز تجاري ضخم " مول " Mall يحتوي على عدة "سوبر ماركتات" وغيرها من المنشاءات الخدمية الاخرى ذات الطابع الثقافي بضمنها نصب ضخم الى "هارون الرشيد " وملحقاته . كما صمم ايضا مجمعا الى " جامعة بغداد" التى كانت عهد ذاك في سنينها التاسيسة . فضلا على تصميمه ايضا مبنى " البريد المركزي العراقي" ومخطط لمدينة بغداد. ثمة رسوم عديدة ومخططات تفصيلية عملها رايت لتوضيح افكاره التصميمية لمشاريعه الكثيرة، التى قبل بحماس منقطع النظير لتنفيذها في بغداد، المدينة الاسطورية بالنسبة اليه. هو الذي لم يعرف عنه كثيراً الاشتغال على تصاميم خارج بلده- امريكا؛ عدا مرة واحدة عندما دعي الى طوكيو لتصميم ومن ثم تنفيذ " الفندق الامبرطوري" (1912-23)؛ المبنى الذي انتشرت صوره عالمياً على نطاق واسع عندما ظل سالما مع بعض مبانٍ اخرى في العاصمة اليابانية اثر الزلزال المدمر الذي ضربها سنة 1923 . عدا هذا المبنى المهم ( الذي ازيل ، مع الاسف، مؤخرا في سنة 1968)؛ لا اعتقد بان رايت صمم كثيرا خارج بلده، رغم ان سجل مشاريعه ، التى اطلعت عليها، تشير الى بعض المباني متواضعة المقياس نفذت في بانما وفي طهران/ايران وغيرهما في مدن آخرى بصورة محدودة. يتعين علينا قبل الشروع في قراءة نقدية لمشاريع رايت البغدادية ، الاشارة الى نوعية المخططات المرسومة التى نتكلم عنها، وعن اسلوبها وطريقة تنفيذها، بغية اضفاء مزيدا من الاضاءة للحدث المعماري النادر، ، وتبيان قيمته الثقافية عالية الاهمية محليا وعالميا ، ذلك الحدث الفريد الذي اجترح في نهاية الخمسينات . فرايت حاله حال " المعلمين" المبدعين المهنيين الآخرين ، يعتمد على مقدرته المهنية وطاقته الشخصية في تنفيذ رسومه ومخططاته، ما يمنحهما قيمة فنية مضافة. ويذكر احد تلامذته ومساعديه المراحل الفنية الخاصة التي تمر به الرسوم فبل ان تنجز في مكتبه . ويشير بان الفكرة التصميمة للمشروع الجديد " تختمر" اولا في ذهن المعمار، بعد ذلك يتم "تنزيلها " من قبله على الورق؛ ويتسلمها بعد ذلك المساعدون لاجراء تفاصيل متنوعة لها تحت اشرافه التام. لقد مرت رسوم مشاريع بغداد في ذلك السياق التنفيذي. انها لوحات عديدة تشمل رسوماً لمناظير ومخططات طوابق ومقاطع وواجهات وتفاصيل. وعادة ما تنفذ تلك اللوحات باسلوب متعدد الوسائط تستخدم فيها اقلام رصاص واقلام تلوين مع احبار زرقاء وذهبية، وكل ذلك معمول على ورق شفاف يلصق على لوحة خشبية. وابعاد هذه اللوحات كبيرة نوعا ما؛ فعلى سبيل المثال جاءت لوحة منظور " دار الاوبرا" بابعاد 4/3 32× 4/1 57 انج اي؛ مايعادل (83.19×145.42 سم ) ، اما اللوحة المنظورية " لبغداد الكبرى " بضمنها المركز المدني والجامعة فكانت : 36 × 53 انج ( 91.44× 134.62 سم) ، ومنظور متحف بغداد 18× 55 انج ( 45.72× 139.7 سم ) ، اما واجهة نصب هارون الرشيد فقد كانت بابعاد : 60× 28 انج ( 152.4× 71.12 سم ) . وغالبية ، ان لم تكن جميع تلك المخططات موقعة بتاريخ 20 حزيران ( يونيه) 1957 ؛ اي بعد حوالي الشهر من رجوع رايت من سفرته البغدادية التى تمت في شهر أيار 1957 . كما ان غالبية هذه المخططات عرضت ، لاول مرة، في معرض خاص مكرس الى اللوحات المرسومة من قبل المعمار العالمي ، في متحف " الفن الحديث" بنيويورك 1962 . ويبدو ان انجاز تلك اللوحات قد تم باكثر من نسخة واحدة، ويمتلك "صندوق فرنك رايت" على نسخ اصلية ، تماثل ما ارسل الى بغداد وقتذاك.
تنطوي المشاريع "الرايتوية" البغدادية على مفردات تصميمية تشكل احيازها "ظاهرة" معمارية غير مألوفة في الحياة العادية لمجتمع بغداد الخمسيني. ونحن ، هنا ،نشير الى مبنى "الاوبرا" مثلا – المؤسسة الفنية التى لا وجود لها حتى في الوقت الحاضر، فما بالك وهي ترد ضمن تصاميم اعدت قبل نصف قرن؟ . وحتى ابنية المتاحف، كانت شأنا جديدا في المشهد البنائي الثقافي المحلي وقتذاك، اذ كان " مبنى المتحف العراقي" الوحيد في بغداد كلها، وهو متحف قديم في الرصافة، ساذج معمارياً وبدائي في احيازه واسلوب عرض مقتنياته ، ( لا اتحدث، بالطبع ، عن " متحف التاريخ الطبيعي" الموجود وقتذاك ، لان فضاءاته الصغيرة ذات الاصل " البيوتي" غير مصممة اصلا للعرض). وشكلت الامكنة الخاصة لمواقف السيارات مفهوما تصميماً جديداً ايضاً، والشئ ذاته يمكن ان يقال عن " المول" – السوق التجاري المركزي الضخم الذي لم تعرف بغداد لحين الوقت الحاضر شبيهاً له ، لا من ناحية السعة ولا لجهة نمط العمارة. اما نصب هارون الرشيد ، فان مقياسه الضخم وتنوع فضاءاته المساندة، يجعل منه حدثا معمارياً وفنيا مهماً، وجديدا .. ايضاً، في الفضاء المعماري لبغداد الخمسينات؛ ويفوق بالتأكيد حجم ومعمارالتماثيل الثلاثة الموجودة يوم ذاك في بغداد كتمثال الملك فيصل الاول بالصالحية ( 1933 ) وقبله تمثال " الجنرال مود " بالكرخ ( 1922) واخيرا تمثال " عبد المحسن السعدون " عند الباب الشرقي في الرصافة (1936) . وبالاضافة الى ذلك فان الحدائق والنافورات والشلالات والعناصر التزينية الشاقولية وغيرها التى تحضر في بيئة الفضاءات المفتوحة Landscape للمواقع الشاسعة المصممة حضورا بليغاً، اعتبرت ايضا كمفردات مميزة وغير عادية وجديدة، بالطبع، في المشهد المديني للعاصمة العراقية عهدذاك. وكما اشير سابقاً، فان من بين المشاريع التى عُهد الى رايت تصميمها وقتذاك مبنى "البريد والبرق المركزي"، لكننا سوف لا نتناول عمارته الان في هذه الدراسة ، مقتصرين على ما تم تصميمه فيما سمي لاحقا بمشاريع "المركز الثقافي المدني البغدادي" Baghdad Civic Cultural Center. يتكرر اسم مشروع " مخطط بغداد الكبرى "ضمن المشاريع التى اعدها فرنك رايت للعاصمة العراقية، ونجد هذه التسمية حاضرة بوضوح في كثير من الادبيات التى تتعاطي مع منجز المعمار الامريكي المعروف. والحال بالطبع غير ذلك. فالامر يتعلق بتخطيط عمراني لجزء من مدينة بغداد وليس تخطيطا اساسياً لها. اذ لا توجد اشارة خطية ولا تخطيطية تفيد بان المعمار انجز مخططا اساسيا للعاصمة العراقية ، وبالاخص انجازه مخططا "لبغداد الكبرى ". وعلى العموم فان مرد ذلك الالتباس، في اعتقادنا، يعود لاقتراحه الشخصي في اختيار مواقع مبانية الضخمة ، وما نجم عن ذلك من جهد تصميم خاص بالفضاءات الواسعة المفتوحة، ما جعل من مفرداته المعمارية لان تكون بمستوى التخطيط الحضري . ومعلوم ان اختيار موقع الاوبرا وبقية منشآت المركز الثقافي الاخرى الساندة تعود اليه شخصيا وليس الى رب العمل؛ اي ليس الى الجهة العراقية الداعية له. ولهذه الواقعة "حكاية" طريفة يحلو لفرنك لويد رايت استعادتها، متذكرا بانه عندما قبل دعوة " مجلس الاعمار" بالعراق لتصميم مبنى " الاوبرا"؛ اهتم كثيرا في خصوصية موقع المبنى، الخصوصية التى بمقدورها ان تسهم في اظهاره كمبنٍ متميز في نمطه الوظيفي، وفريد في لغته المعمارية. واثناء هبوط الطائرة التى تقله مع زوجته في رحلته البغدادية في مطار المدينة، الذي كان موقعه داخل حدودها (المطار الذي دعي لاحقا بمطار المثنى)؛ لفت نظره جزيرة فسيحة ممتدة في وسط نهر دجلة، ورآها كموقع مناسب جدا الى مبناه. وعندما استفسر عن مالك تلك الجزيرة، جاءه الجواب سريعا بانها من ممتلكات البلاط الملكي. واثناء مقابلته مع عاهل العراق سعى رايت الى تبيان آهلية موقع الجزيرة، كموقع ملائم الى مبنى الاوبرا ، شارحاً الى الملك الشاب امتيازات هذا الاختيار، مؤكدا على اهمية خصائصه الاخرى، التى وجد فيها اتساقاً مع تطلعاته لان يكون المبنى المشيد، بعيدا عن ضجيج وسط المدينة وازدحام مبانيها. عند ذاك مال الملك نحوه، قائلا، وهو ماسكا بمعصم المعمار: -" ايها السيد رايت؛ ان الجزيرة ...لك !!".
وبذاك القرار السريع والمصيب و.. الكريم ، ابان عاهل العراق السابق عن سجية من سجاياه الدالة على عمق الاهتمام بالصالح العام ورعايته للشأن الثقافي؛ وهي سجية لم يعرفها العراقيون عنه، (مثلما لم يعرفوا الكثير فيما يخصه) ، لكنهم قطعا لم يلحظوا مثلها لدى حكام عديدين تعاقبوا على حكم العراق من بعده!.
#خالد_السلطاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العمارة، بصفتها رمزاً شعبوياً
-
خاتمة كتاب - تناص معماري : تنويع على تطبيقات المفهوم- ؛ الصا
...
-
ثمانينية قحطان المدفعي :التعقيد ... والتعبيرية في العمارة *
-
عمارة قحطان عوني :المفهوم الخاص للمكان
-
الطليعة المفقودة : عمارة الحداثة الروسية
-
تداعيات ، في طريق الى معبر- ربيعة -
-
عمارة دار الاوبرا في كوبنهاغن - نقد تطبيقي
-
مسرحية الشاهد : الممثل ، حينما يتماهى مع نصه
-
مسرح في لبنان :النظّارة والممثلون في - قفص - واحد
-
تيارات عمارة ما بعد الحداثة : التفكيكية
-
تيارات عمارة مابعد الحداثة : تيار - الهاي – تيك -
-
فعل العمارة.. ونصها
-
- رسالة خاصة جدا ..الى سعدي يوسف -
-
العَلم العراقي : مرة اخرى
-
العمارة الاسلامية : التناصية وفعاليات التأويل
-
ثمانينية رفعة الجادرجي : الحداثة اولا ... الحداثة دائما
-
تيارات معمارية معاصرة :- سليك – تيك -
-
اسبوع المدى : لقاءات المثقفين العراقيين
-
عراق 9 نيسان و - المحيط - العربي
-
في وداع الشيخ جلال الحنفي - البغدادي -
المزيد.....
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|