أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - -جنون- جليلة بكار وفاضل الجعايبي: رؤية جديدة للانسان والشعر والعقل والحرية















المزيد.....


-جنون- جليلة بكار وفاضل الجعايبي: رؤية جديدة للانسان والشعر والعقل والحرية


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 2180 - 2008 / 2 / 3 - 12:06
المحور: الادب والفن
    


إذا كان "بيتر بروك" قد قال ذات مرة بأنه حتى دليل الهاتف يصلح أن يكون مادة لاقتباس مسرحي فانه لم يقل لنا كيف يمكن أن نحول يوميات تحليل نفسي غير سريري موزعة على خمسة عشر عاما من العلاج والحياة، الى عمل مسرحي.
ولكن جليلة بكار وفاضل الجعايبي قالا لنا كيف يتم ذلك..
ومنذ البداية، منذ لحظة اصطدامها بالنص الأصلي، تساءلت جليلة بكار: كيف يمكن أن نترجم هذا النص، نقتبسه، نختزله، نمسرحه، دون أن نخونه؟
لا شك انها مجازفة صعبة، وطريق محفوف بالمخاطر، وثمة عقبات كثيرة. إذ كيف على المستوى الفني أن تعمل مقاربة لموضوع مثل "الجنون" وفي نفس الوقت تتحاشى مخاطر الابتذال والتصورات العمومية والعرض المحكوم بالصدفة والارتجال والاستسهال والنمطية؟
ومن جهة أخرى، كيف يمكن جعل الخطاب ممكنا وفي متناول فهم الجميع؟ هل يتم ذلك بالعودة الى أبسط الأشكال المسرحية؟ وكيف يمكن تنفيذ ما هو باطني متوهم وفانتازي وهذياني، باعتبار البطل شخصا مجنونا، وكيف يمكن في الوقت نفسه تنفيذ ما هو واقعي يومي معاش، باعتبار البطل فردا ضمن جماعة متعينة في المحيط والأسرة والمصحة .. الخ.. ؟
كيف يمكن لك أن تؤاخي بين ما هو واقعي وبين ما هو خيالي؟
بمعنى آخر: كيف يمكن لك أن تقدم "اللامعقول" بخطاب معقول؟

ثلاثية "جنون":

ينتظم عمل فاضل الجعايبي الأخير وهو مسرحية "جنون" بناء ثلاثي الأبعاد يمكن إجماله كما يلي:
1. النص
2. نص العرض
3. عرض النص
وبالإحالة الى صانعي هذه المنتظمات الثلاث، تصبح الخطاطة الثلاثية كالتالي:
1. ناجية الزمني
2. جليلة بكار
3. فاضل الجعايبي
حيث قدمت الاولى كتابا علميا يقع على تخوم السيرة والرواية والتاريخ المرضي، وقدمت الثانية نصا دراماتورجيا للسرد الطبي برؤاها كامرأة مسرح، بينما قدم الثالث "تشخيصا" متعينا للنص الوسيط ، نص جليلة بكار، وليس لنص ناجية الزمني. ومن هنا تأتي أهمية العمل.

من هي ناجية الزمني؟:

هي محللة نفسانية تعيش بين باريس وتونس. وكتابها الذي صدر العام الماضي عن منشورات "آرماتان" بفرنسا يحمل عنوان: "يوميات خطاب فصامي" أو "شيزوفريني". وله عنوان ثان هو :"التحليل النفسي بدون أريكة" وهو نص سردي حول حالة مريض في مستشفى الأمراض العقلية في "منوبة" بتونس.
التقت ناجية الزمني في الثاني من حزيران عام 1998 بنظرة شاب يدعى "نون" كان يسند الجدار بظهره قرب الباب فارع الطول ونحيف متهدل الاكتاف لا يتحرك حينما تبادره بالتحية يكز على أسناه بقوة في حين تجنح نظرته الى الهروب والاختفاء. ففي صيف 1997 واثناء حفل خطوبة شقيقته ولحظة تلاوة الفاتحة انتابت "نون" عاصفة من الضحك والبكاء التشنجي ثم نوبة عنيفة استوجبت نقله فورا الى المستشفى. والطبيب النفسي الذي عاينه كتب في سجله المرضي: "اختلال في التوازن الشخصي يؤشر بداية تفكك فصامي".
إذن نحن في الكتاب أمام محللة نفسانية، وشاب في الخامسة والعشرين مصاب بداء الفصام أو الشيزوفرينيا. واذا ما كان العلاج التقليدي لمرضى الفصام يتم عبر ما يسمى بالصدمات الكهربائية، ففي حالة هذين الكائنين حدثت، وبدون أي احساس بالمفارقة، ما أسمته المؤلفة نفسها، حدثت بينهما "صدمة حب علاجية".
ما هو نوع هذه الصدمة أو الصعقة؟
تجيب ناجية الزمني ببساطة: انه شعورها ولأسباب غامضة لا تعرفها، ان هذا المريض متفرد ومختلف، وان شيئا ما في داخله قابل للانقاذ.
الكتاب يتضمن أساسا حكاية المريض الفصامي "نون" مع محللته النفسية. ولكنه بدرجة أكبر أيضا يحكي لنا قصة تنامي وعي هذه المرأة التي اختارت تلك المهنة الشائكة. ويحكي الكتاب لنا أيضا بشكل يجعلنا ننخرط في الموقف تماما ذلك الرفض المدهش لواقع مستشفى الامراض العقلية المر، ولحتمية المرض والاعتقال.
سيرة المؤلفة هي مسيرة طويلة تستغرق شهورا وأعواما في رحلة استكشاف ونزول الى قاع العوالم السفلية قاع المنبوذين والمهمشين وأصحاب السوابق والمومسات والمهربين. انه رفض للمؤسسة الطبية المحايدة، ومحاذاة طويلة للجنون.
لقد كان "ميشيل فوكو" دائما يقول ان المستشفى هو مكان للمعاقبة، ان لم يكن ثكنة للاعتقال.

تعريف تنفيذي بالمسرحية:

الكتابة لجليلة بكار والاخراج لفاضل الجعايبي الذي صرح لأكثر من وسيلة اعلام ان مسرحية "جنون" هي نتاج عمل جماعي وقد خص بالذكر الفنانة الكبيرة "فاطمة بن سعيدان" الشريكة في جميع الأعمال المسرحية والسينمائية لفرقة مسرح "فاميليا".
قام بتشخيص الأدوار اضافة الى جليلة بكار وفاطمة بن سعيدان كل من محمد علي بن جمعة كريم الكافي نجوى الجندوبي بسمة العشي صالحة النصراوي قيس العويديدي.
السينوغرافيا لقيس رستم. والاضاءة لفاضل الجعايبي. ساعد في الاخراج نرجس بن عمار. صوت هشام الشيرشي. ملابس منية زروق.
ادارة الانتاج الحبيب بالهادي.
انجز المشروع بدعم من وزارة الثقافة وبمساهمة بلدية تونس.

الشخصيات حسب العرض:

- "نون"/ شاب أمي من عائلة ذات أحد عشر طفلا والده موظف في الكمارك مستبد ومدمن على الكحول ولكنه ملتزم بأداء الصلوات الخمس يعامله بفضاضة منذ طفولته. يعيش نون مع أمه وهي امرأة خنوع متعبة تجاوزت منذ أمد بعيد الاحساس بالحياة الدنيئة التي تعيشها الاسرة. اخوة نون وأخواته عاطلون عن العمل ومنهم من هاجر ومنهم من دخل السجن ومنهم المومس ومنهم مهرب المخدرات. صديق زنجي عاشق مغتاض لإحدى أخوات نون ولا يكف عن ملازمته.

- "المحللة النفسية"/ على علاقة سيئة بالمصحة التي تعمل فيها وبأساليبها اللاانسانية التي تعامل بها المرضى. يصبح "نون" بالنسبة اليها الركيزة الحية لرغبتها في المقاومة ضد سوء المعاملة اللامحتملة والتي يعاني منها المنحرفون ذهنيا في المصحة. ايمانها كطبيبة وكمحللة نفسانية بطرق العلاج الأكثر حداثة ومنها العلاج "دون أريكة" وتطبيقها ذلك في علاج حالة نون داخل المصحة ومن ثم خارجها تجعلها تتكشف على عالم اجتماعي غريب يجعلها تدرك مدى البون الشاسع الذي يفصل بين وعيها البورجوازي الصغير وبين نزعتها الانسانوية وحقيقة الواقع. تكتشف الطبيبة أيضا عبر الرصد الاكلينيكي لحالة نون تعدد مستويات الشخصية عند شاب أمي مريض قادر بشكل نادر على التعبير عن حالته بشاعرية متفردة وصفا ذهني واضح. هذه العلاقة الاغترابية التي جمعت بين الطبيبة والمريض تساعد على الكشف عن كل الاسرار مثل شذوذ المريض الجنسي وتجارب الاغتصاب عنده ونكاح المحارم وتدخل الجميع الى مناطق الخطر مثل محاولات القتل والانتحار بكل وسائله، وتكشف اثناء فترة التحول التي أعقبت لقاءهما عن كل الغموض الملازم لعلاقة امرأة برجل، متروك كل منهما الى أشباح ماضيه. يعيشان مصيرهما بالتناوب العنيف في دائرة الخوف والجنون. رحلة علاج ووجود خارج كل المقاييس تحول حياة شخصين الى قدر مأساوي. نون شاب ذهاني شاعر في الصميم جلدته الحياة بلا رحمة وعملت كل أشكال السلطة من الأب الى المصحة على إخصائه وسحقه. يلملم أشلاء أناه المفصومة بفضل امرأة وربما بفضل الشعر أيضا. هي طبيبة نفسية متمرسة تنحدر من آخر سلالات الطوباويين مخلصي البشرية.

الأم:/ تشك في طريقة معالجة الطبيبة النفسية لابنها وتلتجئ من أجل ذلك الى زوايا الدراويش وتكاياهم وتستجدي طب المشعوذين وبركات الاولياء الصالحين.

خاء:/ شقيق نون الأكبر، مروج مخدرات وقواد محترف يدفع بأخواته الى البغاء. خرج حديثا من السجن بعد أن طلق زوجته الألمانية التي أخذت منه ابنه الوحيد يحافظ على علاقة "سادوماسوشية" مع امه ويغذي كرها فحوليا لأخيه الأصغر نون مساهما في تعميق سقوطه في الجريمة والجنون.

واو:/ أخت نون الذي ترفض اعتباره مجنونا. شخصية مغامرة وتعشق مصورا فوتوغرافيا يعدها بمستقبل فني وهمي لكنها ترفض بشكل مطلق دعوات جيم صديق أخيها الشذوذية.

سين:/ أخت نون الأخرى وهي أم عازبة يعيش ابنها غير الشرعي عند أحد الأقارب البعيدين. تعمل خادمة عند أحد الأثرياء لكنها "صالحة" لكل شئ. شخصية انتحارية وعلى حافة الهذيان تبدي عدوانية شديدة من أجل الدفاع عن نفسها واخفاء بؤسها العميق.

قاف:/ أصغر شقيقات نون خرساء ومتخلفة نوعا ما وهي كبش فداء بالنسبة الى نون الذي يرى فيها ما يراه في بقية شقيقاته وأمه تجسيدا للشر المطلق كما ترسخه الأخلاق الدينية ونظرة الأب الفحولية.

جيم:/ صديق نون وملازمه. أسود البشرة أو ما يسمى بتونس تمييزا بـ "الوصيف" يعشق "واو" ويراودها عن نفسها باستمرار. عاطل عن العمل ووريث ثري لعائلة من التجار الزنوج. وتعلق جليلة بكار على هذه الشخصية قائلة انه آخر حفيد لأجدادنا الأفارقة.

الممثلون حسب التشخيص:

- جليلة بكار في دور المحللة النفسية كانت متألقة كعادتها وقد لعبت دور الجوقة اليونانية المتلبس بدور الراوي كما هو عند "برتولد بريشت" في تعليقه على الاحداث داخل الخشبة وخارجها وفي نفس الوقت كانت تكسر بايقاع متناوب أي ايهام ربما كان سيحصل بين الخشبة والمتفرجين. ولقد نجحت في ذلك أيما نجاح وفي تصوري كان ذلك عائدا الى تكنيك أدائي اعتمدته جليلة وربما لأول مرة في عدم انغماسها في الشخصية وفي انها كانت تقول لنا دائما ها انني أمثل وحسب. لقد كانت وفية لـ "بريشت" دون أن تتنكر "لستانسلافسكي".

- محمد علي بن جمعة الذي شخص دور الشاب المجنون "نون" لا يمكن أن نقول عنه انه كان ناجحا أو متميزا أو أية مفردة تدل على الوصف. ببساطة لقد كان "معجزة أدائية" وقنبلة فنية فجرها في قلوب المشاهدين المخرج فاضل الجعايبي ليخرج الجميع معترفين في ذهول كيف استطاع هذا الممثل الشاب أن يكون وعلى مدى مائة وعشرين دقيقة في قمة التركيز دون أن يخرج ولو لثانية واحدة عن "جنونه". لقد كان واعيا بشكل مدروس الى البئر الذي يسقط فيه حتى كبار الممثلين وهم يؤدون أدوار المجانين. وأعتقد ان الفنان الكبير "حسين رياض" هو الذي قال ان أصعب دور يواجهه ممثل محترف هو دور شخص ثمل أو مخمور. وبالقعل فقد تجاوز محمد علي بن جمعة نمطية الاداء والقالب الذي وضعت فيه شخصية "المجنون" في المسرح التونسي والعربي عموما. ولا أشك في ان هذا الممثل في دوره مع الجعايبي سيحصل على جائزة أحسن ممثل في أية مسابقة تشترك "جنون" فيها.

فاطمة بن سعيدان لعبت دور الأم المستلبة وكانت مقنعة بشكل أكيد واستطاعت أن تبين لنا ان غياب الأب في الاسرة لا يعني عدم وجوده. لقد كانت للحظات مهمة في حياة "نون" على المسرح تجسد ببشاعة تلك السلطة الافتراضية.

كريم وقيس، نجوى وبسمة وصالحة، الممثلون المتألقون، بالاضافة الى المرونة والرشاقة وحسن النطق التي أبدوها جميعا، فانه يمكن القول انهم هدايا فاضل الجعايبي الحقيقية الى المسرح التونسي في أزمته الحالية.

لماذا يوميات خطاب فصامي؟:

تقول جليلة بكار عن سبب اختيارها لكتاب ناجية الزمني "يوميات خطاب فصامي" لكي تعمل منه اقتباسا مسرحيا: ان نص ناجية الزمني هو بمثابة النزول الحقيقي ليس فقط الى عالم المريض النفسي بل هو نزول الى عالم شديد الغرابة والخصوصية مغلق وقلما تتم الاشارة اليه. عالم متكتم عليه ومحتقر ومنبوذ ومطموس وهو موضع لرفض متعدد الاسباب وغير مبرر. انه عالم يمثل غالبية سكان الحواضر وضواحيها. ولأنه يثير القلق ويمثل خطرا محدقا بالنسبة للبعض، وعصي على التحكم والاحاطة بالنسبة للبعض الآخر، فان هذا العالم أصبح بالنسبة لي موضوع انغماس حتمي. وهكذا كان الذهاب الى الآخر الى ذاك المجهول المهمل من دون أحكام مسبقة
أيديولوجية أو سوسيولوجية أو عاطفية، هي فرصتي للوقوف على خبايا أخرى وفرصة لتحديد عناصر الخوف والحذر ومحاولة للفهم من دون أي اختزال أو استنقاص.
وعما اذا كان موضوع الجنون بحد ذاته أو ما تسميه ناجيه الزمني بالتحليل النفسي دون أريكة هو الذي حفز جليلة بكار على هذا الاختيار تقول: ان عبارة "تحليل نفسي من دون أريكة"تعني فعلا ما هو خارج المؤسسة الاستشفائية، وتحديدا في منطقة المريض نفسه، وهكذا نتجرأ على التعبير عنه داخل محيطه العائلي وفي أماكنه الأثيرة. ان الشئ الذي جذبني أكثر الى هذا المريض هو قدرته على أن يكون في المدار الانساني بفضل أو بالرغم من جنونه. ان حديثه المتعدد الدلالات حول الحياة والموت والعائلة والسلطة والمسؤولية والحرية، هو في الحقيقة كلام يتنزل في صميم الجوهر الفلسفي. انه كلام مسكون بالمفارقة ومخترق لكل امتثال في الوقت الذي يكون فيه بعيدا عن الابتذال بشكل واضح.
ولكن هل المسألة تتوقف عند تقديم شخصية شاب مجنون على المسرح؟ تجيب جليلة بكار قائلة: نعم ولكن كل شئ يحدث كما لو أن جنونه ولد صحوة لفظية، أي من أجل التمكن من لغة حقيقية، لغة شعرية تجعل خطاب المريض الشيزوفريني غير المتماسك في الظاهر، أكثر صدقا ودلالة على كثافة الواقع. وتمضي جليلة بكار قائلة: ولعلني في موضع ما أعتقد انني تماهيت مع شخصية المريض كثيرا ولربما يعود ذلك الى كوني ممثلة تكتب كلام شخص مجنون وترتقي به ليكون كلام مهرج أو بهلوان.

فاضل الجعايبي يتدخل:

وبوصفه مخرجا للعمل فلقد تساءل فاضل الجعايبي عن هذا التماهي بين مؤلفة العرض المسرحي وبين شخصية المجنون في الوقت الذي كان منتظرا أن تجد جليلو بكار نفسها في الطبيبة النفسية التي لعبت دور شخصيتها في العرض نفسه. بيد انه من الواضح حسب ما تفيد به جليلة بكار في شهادتها المرفقة بدليل المسرحية، انه لا التباس في هذا الشأن إذ توضح قائلة: انه في القراءات الأولى لنص ناجية الزمني، تلك التي تسميها جليلة بكار بالقراءات المثقفة بين قوسين، وجدت نفسي، والكلام لجليلة، الى حد ما في الطبيبة النفسية. فموقفها وطريقة مقاربتها وصراعها ضد المؤسسة، بدا لي كل هذا في غاية الأهمية. فصمودها وبقاؤها وفية لمبادئها الاخلاقية وقناعاتها الفلسفية وانخراطها في حرب ضروس، هو بمثابة "تطهير" شخصي حقيقي. أجل، تمضي جليلة بكار موضحة، كنت تحت طائلة إغراء الشخصية. وكان المخرج الى حد ما مساهما في ذلك. ولكن، شيئا فشيئا، وعلى ضوء نقاشاتنا حول مسألة الاقتباس والكتابة الدراماتورجية والشخصيات، فإن شخصية "نون" وبقية أفراد عائلته بدأت تكتسب أهمية متزايدة. وفجأة أخذت شخصية الطبيبة النفسية ورحلة بحثها تستقر في المستوى الثاني من الاهتمام بالرغم من التلازم الوثيق ما بينهما.
وزيادة في تبرير عدم انصياعها لموضوعة الجنون المفروضة من سياق كتاب ألفته محللة نفسية، تقول جليلة بكار ان الجنون كموضوع للكتاب كان نقطة ارتكاز ولكنه لم يكن النقطة الوحيدة، فان الذي يهم في الأخير هو العالم الباطني للذات البشرية وليس جنونها أو انحرافها أو وضعيتها الاجتماعية. وبالنسبة لنون، فان النظرة التي يلقيها على العالم نظرة شخص مقاوم ضد الموت. ولعل احساسه بالاختلاف عن الآخرين والذي يحمله في داخله بشكل دائم رغم كونه أميا، هو أجمل ما يبهر فيه وما يثير.
وبشأن الخيانة المزدوجة التي قامت بها جليلة بكار، فالكتاب أصلا بالفرنسية وهو لا علاقة له بالمسرح لا من قريب ولا من بعيد، تقول متحدثة عن رهان الاقتباس انه اذا ما كان عليها أن تخون أحدا فانها تفضل خيانة ناجية الزمني مؤلفة الكتاب وليس نون بطل الكتاب لأن هذا الأخير ذات معذبة والكلام الذي حاولت ناجية استخراجه منه هو كلام في غاية الندرة والأهمية. واذا ما كانت المؤلفة الأصلية قد ترددت حين تأليفها لهذا الخطاب الفصامي بين اليوميات والسرد الروائي، فان جليلة بكار كانت واعية لمفارقتها لمقام التأويل الى مقام تأويل التأويل. وكانت الرحلة الممتعة من الحكي الى التشخيص كما شهدناها على خشبة المسرح البلدي ليلة الثاني من شباط فبراير الجاري.

موقف الطبيبة من العرض المسرحي:

وفي نهاية كلمتها المرفقة بدليل المسرحية تقول جليلة بكار مثمنة موقف وجهد ناجية الزمني ان مساهمتها على المستوى العلمي وفي كل ما يتعلق بالمسائل النظرية كان كبيرا. وعلاوة على ذلك فانها لم تطرح أية مشكلة ازاء ما يجب أن يبقى وما يمكن أن يحذف من نصها الأصلي أو حتى بخصوص قراءة كل من جليلة بكار أو فاضل الجعايبي لكتابها. ويبدو انهما قد ضاعفا اللقاءات معها للتداول والتشاور الا انه يبدو كذلك ان ناجية الزمني لم تحضر الا تمرينا مسرحيا واحدا.

المشهد الأخير والشاعر المجنون:

لا أحد يناقش جذور فاضل الجعايبي البريشتية. لكنني أقول انه بريشت المعاصر بنسخته التونسية العربية. بريشت ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. ذلك "البريشت" الذي يقول عنه "رولان بارت" في آخر كتاب له قبل أن تصدمه سيارة ان كل الذي عمله وكان يود أن يعمله انما هو التشبه بما فعله "بريشت". و"بريشت" المعاصر هذا هو ما يمكن نسبة فاضل الجعايبي اليه، لا "بريشت" المأزوم بالروح الايديولوجية الضيقة الأفق. بريشت الملحمي الذي يروي تاريخ الانسان لا بريشت الذي يحمل بيده مطرقة. ومن هنا يمكن تفسير ثلاثة مشاهد مهمة من المسرحية الأخيرة لفاضل الجعايبي المسماة "جنون" أثارت لغطا وتساؤلات كبيرة بعد العرض، مع التذكير بأن المسرحية قائمة في بنائها على نظام الوحدات المتشظية في مشاهد كثيرة تلعب فيها الاضاءة بدلا من الستارة دور الفاصل بينها. والمشاهد المعنية هي المشهد الأخير، ومشهدين يتوزعان بشكل منتظم على نصفي المسرحية تقرأ فيهما جليلة بكار قصيدة لشاعر تونسي شهير كان نزيلا في مستشفى "الرازي" للامراض العقلية بتونس كتبها في 12 ديسمبر من عام 1969. ولا أدري ان كان هو نفس المصحة التي كان بطل كتاب ناجية الزمني ونص جليلة بكار وعرض فاضل الجعايبي، نزيلا فيها؟
ونظرا لأهمية القصيدة في شبكة علامات العرض وعلاقاته، ننقل هنا قصيدة الشاعر الراحل "منور صمادح" التي استلهبت تصفيق الجمهور طويلا ولمرتين ليلة العرض، ويقول فيها:

قل لمن همهم في الناس وخاف الكلمات
انما أنت شفاه ظمئت للكلمات
ونداء حائر في الصوت بح الكلمات
أو تخشى الناس والحق سجين الكلمات
أو تخشى الناس والحق رهين الكلمات
وجماد أو نبات أنت لولا الكلمات
حيوان أنت لا تفقه لولا الكلمات
أنت انسان لدى الناس رسول الكلمات
فتكلم وتألم ولتمت في الكلمات

هل يمكن قراءة المسرحية من زاوية انها سيرة باطنية لشاعر اتهم بالجنون؟
هل يمكن أن نقول ان "منور صمادح" هو الفتى "نون" في واحدة من تجلياته، وتجليات الشعراء كثيرة؟
المسرحية مفتوحة على فضاء التأويل، وتأويل التأويل كما تقول جليلة بكار. وفي النهاية كل شئ رهين بالمتلقي وكيف يقرأ الامكان.
أما بالنسبة لمشهد النهاية وهو مشهد الذروة بحق، فإن الابهار وقوة التأثير والضغط على المشاعر وصل فيه الى أعلى مدى ممكن. فقد تضافرت الموسيقى والاضاءة والديكور وحركة الممثلين وهم يلعبون بالكراسي بشكل عنيف ومجنون، على خلق احساس حقيقي بالكارثة. لقد كان جوا قياميا "أبوكاليبسيا" ان صح التعبير، عمد فيه فاضل الجعايبي بأسلوب مفاجئ ومبتكر الى تحطيم الفضاء واسقاط ستائر صالة العرض جميعها لنشهد خرابا شاملا وغروبا في الأفق. وهناك يطل علينا البطل، "نون" المجنون وهو يمشي بين الأنقاض حامر بين يديه جهاز تلفزيون مطفأ، بينما كانت جليلة بكار تقرأ عبر الميكروفون الذي كان أحد أهم مفردات العرض، قصيدة "منور
صمادح".
قال لي بعض المتابعين لحركة المسرح التونسي في الحقبة الأخيرة، وأنا أؤيد كلامه من مشاهدتي الخاصة، انه لم يسبق للمسرح البلدي بتونس العاصمة أن شهد مثل هذا الاقبال لمشاهدة عرض أول لمسرحية، حتى ولا للجعايبي نفسه. كما انه لم يسبق لي شخصيا أن شاركت في التصفيق اثر عرض مسرحي متأثرا ومن حولي جمهور تترقرق الدموع في عينيه، بهذا القدر من الحماس. وكم نحن في حاجة الى شئ من الحماس ولو كان يسيرا.



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تَحْفرُ الخيولُ قبرَ الفجرِ
- جسر على نهر دجلة أو قراءةٌ في تسنن حسن العلوي (2-2)
- جسر على نهر دجلة أو قراءةٌ في تَسَنُّن حسن العلوي (1-2)
- جنون في كتاب بعد أن كانت مسرحا
- موطني موطني نشيد بين شاعرين
- المرأة والحداثة والتفكيك والجندر في العالم العربي في حوار مع ...
- حتى نارك جنة.. الوطن بين رضا الخياط وشكري بوزيان
- الكلامُ المُسْتَعَادُ
- فن الشعر في ملحمة گلگامش
- Marcella
- ذكرى أبي القاسم
- مفاهيم سبتمبرية جديدة حول الإرهاب والحروب الإستباقية وحقوق ا ...
- د. الطيب البكوش: إن مساعدة الشعب العراقي أعسر تحت الاحتلال، ...
- بين الهندسة والبستان: قصيدة نثر طويلة عن المساءات الخمسة عشر
- غرفة في فندق الراحة أو مديح العذراء كريستينا ستوكهولم السعيد ...
- المفكر التونسي د. فتحي بنسلامة في حوار مع حكمت الحاج
- سبعُ قصائد
- البيت قرب البحر كالمجهول باهر وساطع
- التّحليل النّفسيّ على محك الإسلام
- حساب الغبار


المزيد.....




- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - -جنون- جليلة بكار وفاضل الجعايبي: رؤية جديدة للانسان والشعر والعقل والحرية