|
ميرَاثٌ مَلعون 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2179 - 2008 / 2 / 2 - 08:19
المحور:
الادب والفن
بركانُ منزل آل " صورو " ، ما عتمَ أن ثارَ على حين فجأة . إنه صوتُ " مريم " ، المميّز ، الملتحم مع أصوات اخرى ، ذلك المتناهي إليّ في تلك الليلة المتأخرة ، الربيعية . كان شجاراً ، نسوياً ، مندغماً بتوسلات ذكوريّة ، مُهدئة . إندفعتُ إلى الشرفة ، لحظة تناهي الطرقات الملحاحة ، العصبيّة ، على باب بيتنا ، والمخلف صدىً عميقاً في الدهليز الموحش . تحت شرفتي كان الزقاقُ ، بدوره ، يتلوى في العتمة ـ كحنش ضرير ، يقظ . وأبعدَ فوق ، في سمائه الصافيَة ، رمقني نجمُ " الزهرة " بعين حسناء السّفح . ما لبثَ أن تناهى إلى موقفي صوتُ الأمّ ، الواهي ، يدعو قريبتنا الجميلة ، الثائرة ، إلى الداخل . بعيدَ ساعة اخرى من الأرق ، وحينما كنتُ في طريقي إلى البيت التحتاني لقضاء حاجة ما ، فإنّ هسيس المرأتيْن ، الخافت نوعاً ، كان ما فتأ يبوح بمناجاةٍ مريرة ، شاكيَة .
ها أنا ذا في مكاني المعتاد ، في الحجرة العلوية ، أرقبُ من خلل النافذة الموقف الصباحيّ ، الحَرج ، المتأثر مثيله الليليّ ، المُجتلب . ثمة في أرض الديار كانت ضيفتنا ، الطارئة ، مجتمعة بزوجها المُحاول صلحاً والمُلحّ عليها ، كما يبدو من حركاته ، على العودة لبيتهما . وبالرغم من فداحة الموقف ، فإنني ما وجدتُ حائلاً معيّنآ ، يمنعني من عقد مقارنةٍ بين الزوجين ، السعيدين . " مريم " ، المجبول جسدها من عجينة اللوز ، الناضج ، كانت مرتدية بنطالاً منزلياً ، قطنياً ، تتداخل حلكة سواده بالأحمر المُزهر ، المنصاح من ربيع كنزتها . فيما بدا " يوسف " ، في إنحنائة هامته المديدة ، القاتمة ، أشبه بـ " ساتير " ، أسطوريّ ، على وشك إلتهام ضحيّته . ساعة أو نحوها ، أمضتها الجميلة مطرقة ً صامتة ، منصتة للكلمات المنهمرة من عل . حتى إذا وضعَ الرجلُ يدَه على كتفها وبلطفٍ بيّن ، فإنّ المرأة الصغيرة ، رفعت رأسها ، أخيراً ، عن نظرةٍ غير طيّبة بحال . بيْدَ أنني ، بالمقابل ، غبطته حالماً ، محلقاً في سرّي ، المنتشي بالعينين الساحرتين .
أنفاس المنزل ، أضحَتْ من أريج ياسمين ، خالص . هذا الحضور ، الزاهرُ ، ما كان له إلا أن يبددَ كآبة حياتنا . وهيَ ذي " ماما دنيا " ، تدعونا إلى بيتها ، العامر ، بغية قضاء الوقت المُضجر في لعبة " كونكان " ، إعتادتْ دوماً على الفوز بها . هكذا وجدتُ يوماً الجسارة لديّ ، كيما أغري الجميلة بتكرار اللعبة فوق ، في عليّتي ، منتهزاً عندئذٍ فرصة َ قيلولة الأمّ ، المألوفة . خجلي قدّام قريبتنا هذه ، كادَ أن يكون صفحة من الماضي ، ما دمتُ أجدني الآن غير هيّابٍ من الإتكاء ، بوعي وبدونه ، على ركبتها القريبة ، في غمرة التلصص على أوراق اللعب ، المحتفيَة بأناملها الناصعة ، الرقيقة ، كما على تفاصيل جسدها ، المتفجرة من بنطالها الضيّق والواضحة ـ كتضاريس الجبل . لا غروَ ، إذاً ، أن تتفتح زهرة فتوتي في هذه الجنة ، العابرة ، المتنزلة من السماء الرحيمة وأن تمضي الأيام على مهل ، معيّدة ً ، غيرَ عابئة ً بالقفر المترامي بعيداً . وكان يوماً ، عدتُ فيه أبكر من المعتاد من عملي الجديد ، المؤقت ، في مكتب محام على قرابة بنا ، بما أنني أعدّ أوراقي للتسجيل في كلية الحقوق . وها أنا أتوجّه مباشرة ً إلى الحمّام ، للتزوّد بالماء الساخن ، الضروريّ لحلاقة ذقني ، فأدفع بابه الخشبيّ لأقف من ثمّ مذهولاً ، أخرسَ ، بمواجهة العريّ ، الصارخ ، للبدن الحبيب . كانت يمناها ما تني متسمّرة حتى قعر الإبط ، الحليبيّ ، المنسجم فضته ، الفاتكة ، بنصاعة الطاسة المرفوعة من لدنها . موقفنا هذا ، المتسمّر ثمة ، إستمرّ بعض ثانية ، فما أسرعَ هيَ أن تكوّمت على نفسها ، متدثرة بالزبد المرغيّ وإبريز شعرها ودواري الربيعيّ .
*** كما تولي الأعياد ، ببهجتها وطفولتها ، كذلك الأمر مع الأيام السعيدة . وإذاً ، آبتْ قريبتنا إلى بيتها ، بعدما وجدَ " يوسف " أنه لا مناص من مواجهة أمّه ، والتشديد عليها بعدم التدخل فيما لا يعنيها . " فاتيْ " ، ستضحي منذئذٍ وحتى وفاتها بعد شهر ، تقريباً ، أسيرة حجرة القهر ، مرددة على مسمع الإبن ، هذه المفردة : " ديّوث ! " . عثروا عليها ، ميتة ، في صباح صيفيّ ، رائق ، فأخرجوها من باب تلك الغرفة ، الموصد على مكائد أسيرة . رحلتْ عن دنيا ، ملعونة الزمن ـ كما إعتادت القول ؛ الزمن ، المُبيح فيه الإبن حرية المرأة ، تحدياً لإرادة الأمّ . من جهتها ، فأمّي وعلى الرغم من تطيّرها مما كان متداولاً عن العين الزرقاء ، المسحورة ، للعجوز المرحومة ، فإنها هُرعت للقيام بالواجب ، الأخير . وحينما عادتْ من بيت الحِداد ذاك ، كان التأثر متجلياً في قسماتها ، علاوة على إنزعاجها من التقولات المعتادة ، المتهمة هذه المرة " مريم " ورجلها بأنهما حبسا العجوز ومنعا عنها الطعام والشراب . كانت " زينيْ " ، صديقة المرحومة ، هيَ المتولية بث الأقاويل تلك ، بتنقلها الدائب عبرَ بيوت الزقاق : " يا حسرة ، ألم نجدها جلدة على عظم ؟ " . ولكن الحياة ستمرّ على كل حال بحكمتها ، الأزلية ، ولن يهتمّ حيٌّ ، قليلاً أو كثيراً ، لسيرة فناء متكررة . ها هوَ إبنُ المتقوّلة نفسها ، المعروف في الحارَة بنعت " قيْ " ، يتأبط ذراع زوجه في الطريق لمنزل آل " صورو " ، في زيارة عائلية معتادة . هذا الرجلُ ، ذو القامة البدينة ، المقتصَدة الطول ، كان لا يفترّ عن تذكير الخلق بوظيفته ، الحساسة ، مبرزاً مسدساً رسمياً من طرف مؤخرته ، العريضة ، ومصعّراً وجنته ـ كفلاح عسكريّ . ليس غريباً ، والحالة تلك ، أن يلازم الرجل ، غالباً ، دكانَ " كور تعزي " ، ما دام هذا الأخير مشنوعاً من الجيران بصفة " مخبر " .
مع أفول الأيام الأخيرة ، الحارّة ، لذلك الصيف ، ما أبهتُ بترك عملي عند المحامي ، ملقياً بخطوي على الأثر في دروب التسكع . تحت وطأة الضجر ، سرتُ في شوارع المدينة القديمة ، متأثراً خطىً موتى . ما أكثرها العيون الحسان ، الملتفتة لعينيّ ؛ أنا غير الآبه ، اللحظة على الأقل ، سوى بسيرة الأسلاف . ما إتصلتْ ، مرة ً ، أسوارُ الحاضرة بحدّ " صالحيّة الأكراد " . سأبقى ، إذاً ، هائماً وغريباً . ولن أبالي ، أيضاً ، بهذا الحارس ، الروميّ ، ذي القلنسوة الفولاذية ، المتوج أعلاها بوبر قان ، والخافر مع أنداده مجلس الشيوخ الموقر ، المشغول بمشروع ألوهيّة عاهلنا ، غيرَ الشرعيّ . ستتوّجه كذلك أطيافُ الأسلاف ، كما توّج ربّة َ السّفح ، جنوني ؛ ثمة ، أين برجها المتوحّد . العتمة تحلّ رويداً . الدروبُ قوافل بلا مشاعل . بمحاذاة الحديقة ، الكبرى ، وجدتني أستعيد أنفاساً هاربة ، مهوّمة عبرَ السور المعدنيّ ، الواطيء ، المظلل بأغصان الزيزفون . ثمة رائحة نفاذة ، يانسونية الهوى ، أوغلتْ في مماشي الحديقة جميعاً ، منبعثة على الأرجح من نوافذ " نادي المحاربين القدماء " . إهتديتُ إلى مقعد ، رطيب ، في آخر القوس شبه الدائريّ ، المُشكل ما يُشبه الفراندا ، والمحدق ببركة المياه الرحبة . كنتُ أتحسس خضرة مجلسي ، لما إعتادت عيناي الغلسة الكثيفة ، لتتفتحا من ثمّ على وسعهما ، بما كان من مرأى شبح ما ، آدميّ ، متكوّم في مقعدٍ قصيّ على الجهة الاخرى من الممشى . كان مطرقاً برأسه بعد ، فما عتمَ أن راح يطلق همهمة ، غريبة المفردات ، فيما بصره يتناهى إلى موقفي . شعرتُ بضيق مفاجيء ، غيرَ معلل . فما لبثتُ بدوري أن قدتُ قدميَ خارجاً ، نحوَ الباب الرئيس ، مروراً قرب مجلس الرجل هذا ، الغامض . وإذ تسنى لي ، عندئذٍ ، أن ألمحَ وجهه ، فقد بدا بعين فاغرة ، منطفئة ، أكثرَ شبهاً بسيكلوبٍ خرافيّ .
لما دلفتُ البيتَ ، الغارق في دياجيره ، تعالى حينئذٍ شدوَ الآذان ، الداعي لصلاة العشاء . توهمي رقاد الأمّ ، المبكر في الساعة تلك ، ضافرَه ما كان من شكواها مؤخراً من صداع معذب ، دوريّ . ترويحاً للوحشة ، أشعلتُ مصباح الشرفة ، ومطلاً من ثمّ على الزقاق العتم ، المقفر من صخب الطفولة . وبينا أنا مراوحاً خطوي ثمة ، إذا بهمس لإسمي ، يرتفع من الجهة المقابلة . وعلى الأثر ، إنزلقت " مريم " بخفة إلى باحة بيتها التحتاني ، ليبرز هيكلها عبرَ الباب . كانت ظاهرة التوتر ، فيما تشير لي بالنزول للإفضاء بأمر ما . ثمّ أخبرتُ منها بأنهم هناك ، في بيت أختي ، قد بعثوا في طلب الأمّ ، لأنّ " شيريْ " في المشفى ، على وشك الوضع . لاحت علامة ما ، ملغزة ، على الملامح الجميلة ، القلقة ؛ علامة تعاسة ، إستعدتُ مشهدها في اليوم التالي مباشرة ً .
*** دفنتْ " شيري " قرب جدث أبيها ، العقيد ، في البقعة المحتضنة مراقد آله والمتبعّل عشبها وزهرها تحت هاجرات لاهبة . كان " قادريكي " الكبير ثمة ، متحاملاً على مرضه العضال ، محلقة جهامته فوق رؤوسنا ـ كباز جريح . ولكنّ منظر الأمّ ، الفاجع ، كان منبع وجعي وعبرتي ؛ أنا المتبقي لها ، في الجهة الاخرى من هذا الخلاء ، الميّت . مساء اليوم ذاك ، الأسود ، وما أن فرغنا من التعازي ، المضجرة ، حتى غادرنا ، " نورو " وأنا ، إلى طاولة السكر ، بدعوة من " ناصر " . خلا العرق ، الحارق ، ما كان هناك مازة . وما لبثت الأناشيد ، النبويّة ، أن إنداحتْ بصوتٍ وَلهٍ ، صوفيّ ، مناشدة إلهاً شاءتْ إرادته إنتزاع روح ، شابّة ، بفعل خطأ طبيّ أو لعنة سلالية . الليل فوقنا ، أجنحة رخ ، ثكلى . ومنزل آل " صورو " ، بدا أكثر قفراً من حفرة مشغولة للتوّ . كنا ثلاثة أعماق ، سحِقة ، مغلفة بإصرار مكروب ـ كبرَكٍ آسنة ، خلفها شتاء راحل .
ـ " الموتُ كذبة كبرى . ثمة روح أزليّ ، حسب " بلا فاتحة ، إستهلّ " ناصر " تهويمه ، الثمل . ثمّ تابع القول : " كلّ نفس حيّة روحٌ . وحتى هذه .. " ، وإمتدت يده نحو فراشة بائسة ، مهوّمة حول المصباح الشاحب ، فإلتقطتها بأنامل خفاش ، لتتركها من ثمّ تهوي في الفراغ بأجنحة كسيحة : " كلنا يعلم أنّ " شيخ قمْبُز " ، الوليّ ، معمّر كنبيّنا " نوح " . ويقول لكَ جاهلٌ ، أنّ الشيخ ، أخيراً ، لا بدّ ويرحل عن دنيانا . هاكَ ، أيّها القرد ، مثلاً ! لقد أخبرَ شيخنا من أحدهم بحادثة ، عجيبة ، وقعتْ له أثناء العسكريّة . كان المُخبر متوجهاً إلى قطعته ، الكائنة على أطراف البادية ، حينما كبحَ السائقُ من سرعة الحافلة وما عتمَ أن أوقفها على طرف الطريق : " هلمّ وساعِد الشيخ على الصعود " ، قال لمعاونه بلهجة حالمة . هذا الأخير ، المتابع الرحلة عبرَ ضوء السيارة الأماميّ ، ما كان قد لمحَ أحداً يلوّح للحافلة . وعلى كل حال ، فإنه إنصاع لأمر معلمه . دقيقة اخرى وعاد المعاون خاوي الوفاض ، بما أنه ليسَ ثمة شخصاً ليساعده ، فوجد السائقَ متهالكاً بلا حراك في مقعده . وإذ هزه من كتفه ، إنزلق هذا إلى جانب وعلى فمه إبتسامة رضى . كان ميتاً " . صمتَ محدثنا ، ثمّ راح على الأثر ينفث دخان لفافته ، السميكة ، المعترك تبغها ، الرخِص ، بكيْفٍ ثمين . أمّا عبرة الملحمة هذه ، القمبزية ، فما تأخرَ الرجلُ الحكيم عن إتحافنا بها : " وبالجملة ، أنّ السائق ، وحده ، من رأى ذلك الشيخ ذي الرداء الأبيض ! لماذا ؟ لأنّ رحمة الله شاءتْ النجاة للركاب ، ما دام أجلُ السائق قد حلّ بنوبة قلبية ، قاتلة " .
كهذا المطر ، الذي يغسل الدروبَ من أوشاب الشتاء ، الزمنُ ؛ يدرج بين طياته أحزاننا ، وقلوبنا غيرَ العارفة بعد ، أبوّة ً . وحشة المنزل ، بددها نوعاً حضور الطفولة . عند الوضع وقبل إسلامها الروح ، انجبتْ شقيقتي طفلة جميلة ـ كصورة عنها ؛ كأنما لتكون حضورها ، المفتقد ، في الحياة . وبهذه الصفة ، ربما ، أعطوها إسم أمها ، الراحلة . لم يعد مرآها وشقيقها ، الوحيد ، ليثير غير مشاعر حبورنا وبهجتنا . من بعد ، ليس مبرراً إغراق البراعم هذه ، الطرية ، بقطرات إستعبار ، مالحة ، لا تفعل أكثر من إتلاف نسغها وجذورها ، على السواء . حادثة عارضة ، على الأثر ، كادت أن تجرّ الحارَة ، مجدداً ، إلى درب الدّم . ويبدو أنّ صديقي " نورو " ، المستهتر ، كان يطيل من وقوفه على شرفة منزله ، المحاذية لسطح بيت " زيني " . حتى كانت إحدى المساءات الربيعية ، الحارّة ، التي بثت النخوة في أوصال " قيْ " ؛ ذكر الدار ، الوحيد . ثملَ حتى الفضيحة ، ثمّ خرج كي يزلزل بوابة منزل " قادريكي " ، شاتماً لاعناً آله ، أجمعين . من قبل ، ما جرأت زبانية قط ، على بلبلة هدوء كبيرنا . فأتى هذا الغرّ ، المسلح بوظيفته الخطيرة ، بحجة أنّ " نورو " يتحرش بزوجته . " ماما دنيا " ، المفتقدة رباطة جأشها على غير المألوف ، ما أسرع أن بعثت في طلبي . رأيتني بعدئذٍ مرابطاً على درجات البرج الجنوبيّ للملجأ ، المشرف على موقف الحافلات الكبيرة ، منتظراً صديقي . ما أن لمحته عن بعد ، وهو يترجل من السيارة إلا وأتقدّم منه ، كما على سبيل المصادفة ، مقترحاً عليه العودة للسوق لحضور فيلم سينمائيّ . خانتني ، أنا الآخر ، أعصابي . فإضطررتُ لإخباره بحقيقة الأمر ، بما أنه هجسَ بمكروه ما ، دهمَ أسرته . هكذا إندفع " نورو " مهرولاً صوبَ البيت ، بعدما كان قد تفقد وجود المطوى في جيب جينزه ، الأماميّ . حينما وصلنا الزقاق ، عرفنا أن المسألة حلت بودّ ؛ وبسلام ، نادر المثال . فيما تلى من أيام ، بات إبن " زيني " يتملق لكلينا ، رامياً على جلساتنا ظله ، الثقيل .
*** في وحدة الشرفة ، العتمة . في الهبوب العاصف ، أو الهدوء الكاذب ، المحملة بهما سنيكَ الخالية . لتتجاهلَ ما دأبتَ عليه من اللامبالاة ، المريرة ، فيما تطرحُ سؤالاتَ العمر المنقضي ، الموصد . ما من طيف بعد ، يهبكَ مفتاحَ جوابٍ . أنتَ الحائرُ بألغاز الكون ، كهوفاً وسراديبَ وأجنحة ً متناثرة في سرمده ، والمتعثرة بها رؤاك ؛ العاجز قدّام عنادٍ ، مكابر ، يموّه حقيقته ـ كرقّ ، سعيدٍ بعبوديته . لا حبّ في حياتكَ ، إذاً ، بل رغبة حسب . لا علاقة مع الآخر ، متبادلة بإلفةٍ وحميمية وشاعرية ، سوى في الفراش . لا بسبب غرور في الطبع ؛ إنما هيَ لعنة ٌ ، خالدة ، متنزلة من الفلك ، ما فتأ " برجُ العذراء " علامة ً لطالعكَ .
حينما صارَ " ناصر " داعية ً لمُستخلفٍ ، سريّ ، كنتُ أستعيد تأكيده ، المُشفع بمثاله الطريف ، الموسوم ؛ ألا وجودَ للموت في حياتنا . وهيَ ذي سراديب النفس ، الأكثر غوراً ، مؤمّنة ً بدورها على يقين ، متمكن ، أن لا مكان للطهارة على أرض الخطيئة ، الأولى ، المتفيئة صخورَ " مغارة الدّم " . والأمّ ، غير المتناهية إليها أفكار جيلنا الجديدة ، ما كان لها إلا التمترس في مسراب الأعماق ، واجدة فيها ربما حكمة أجدى . أتنبّه ، من جهتي ، لفتور علاقتها بربيبتها ، الفاتنة ، وجلساتهما المعتادة ، التي راحَ يشوبها الصمت المتطاول . محبطاً بقوّة ، جازَ لي ، أخيراً ، أن أعرفَ ما يُغضب والدتي . الحارَة ، المتضجرة أمسياتها ، أضحى لها ما يُشغلها من اقاويل . وسيارة " بويك " الأنيقة ، السوداء السمة ، كان عليها التهادي خلل الزقاق ، الضيّق ، بكل طمأنينة ، وهيَ في طريقها لمنزل آل " صورو " . وها هوَ إبن " زيني " ، متأنقاً ببدلة سبور ، ناصعة ، يغادر مركبته وفي يده كيس بلاستيكيّ ، موشوم بماركة أجنبيّة ، فيما اليد الاخرى ، المعطرة ، تحيل فتحة الأنف عن مشام القمامة الأهلية ، المتناثرة هنا وهناك . تنبعث إذاكَ طلقات نارية ، مألوفة ، من جهة ما من الحيّ . حزيناً ، يبدو لي الصدى المتخلف عن الإطلاقات تلك ، وكما لو أنها تحية شرفٍ لهذا الغندور ، الخطير .
فتحتهما ، إثر إغفاءة مديدة أو مبتسرة ، عينيّ . ربما كان ذلك بفعل زلزلة خطىً مقتربة ، ما عتمَ رعبي أن جسّم صاحبها بشخص العمّ الكبير ، المتناهي إلى موقفي على السطح . بلا نأمة ، رفعني كما لو كنتُ غلاماً غريراً ، ثمّ راحَ يتمتمُ جملته المعتادة ، الأليفة : " لا حول ولا قوة إلا بالله " . في غمرة رعدتي وقشعريرتي ، ما كان لي إلا إستطابة دفء يديه ، الجبارتين . هكذا ينتقل بي بعدئذٍ إلى الناحية الاخرى ، المقابلة ؛ أين البرج الجهم . متيقناً من إنحسار الظل ، العملاق ، أفتحُ عينيّ على وهج القمر ، اليقظ . ولا ألبث من ثمّ أن أتناهض نحوَ النافذة القريبة ، المضاءة بنور ورديّ ، خافت . أدلفُ ، مرتعشاً ما فتات ، إلى مجاهل الحجرة ، الحبيبة ، مسنوداً بقوة الأنفاس المتبقية ، كما والبرد المتغلغل في كياني . ثمة ، على السرير الوثير ، كانا راقدين بصورة متدابرة ـ كثور وغزال في برونزية ، أنتيكية . راعني أنّ وجهها الرائع ، المندس في الوسادة ، يبوح بإغفاءةٍ غيرَ محققة . أهمّ بالتراجع ، وإذا بيدٍ دافئة ، لهفى ، تطوّقني برغبةٍ يقظة ثمّ تردفني خلف الظهر ، العاري . مرعوباً ، توهمتُ تدابري ، المجنون ، مع رجلها . ولكن الجميلة ، الجريئة ، تواصل إلتحامها بي ، فتمسك كفي ضاغطة ً إياه على نهدٍ شبق ، عارم التوثب . وهوَذا همسها ، المنغوم ، يتسلل لسمعي : " نومُه عميقٌ ، فلا نخشينَ شيئاً ! " . فقرات ظهري ، الباردة ، ما تني منغرسة في ظهر الآخر ، الساخن . بلا جدوى ، أجاهدُ في الإنسحاب من تكويرتها الصلبة ، الخرافية ، المتشبثة بأناملي المنقبضة ، المرتعدة . وكان القمرُ حينئذٍ عينَ عملاق ، ساهرة ، متوهجة في أعماق عينيّ .
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذهبٌ لأبوابها
-
ميرَاثٌ مَلعون 3
-
ميرَاثٌ مَلعون 2
-
ميرَاثٌ مَلعون *
-
كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
-
أختنا الباكستانية ، الجسورة
-
جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
-
زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
-
زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء
-
الإتجار المعاكس : حلقة عن الحقيقة
-
زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء
-
نافذتي على الآخر ، ونافذته عليّ
-
من سيكون خليفتنا الفاطمي ؟
-
طيف تحت الرخام
-
زهْرُ الصَبّار 11 : المسراب ، المساكين
-
زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون
-
جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
-
الحل النهائي للمسألة اللبنانية
-
زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون
-
أشعارٌ أنتيكيّة
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|