|
استعادة لغياب بعض رموز الثقافة العراقية .. استعادات ... كمال سبتي يموت على أريكة باردة في المنفى
صالح هويدي
الحوار المتمدن-العدد: 2175 - 2008 / 1 / 29 - 08:59
المحور:
الادب والفن
توفي كمال سبتي في 24 نيسان عام 2006 عن عمر جاوز الخمسين عاماً في منفاه الهولندي، إثر نزيف دهمه وهو على أريكته ولم يعلم بحدث الوفاة إلا بعد أيام من غيابه واضطرار الشرطة لاقتحام منزله الذي فارق فيه الحياة. ولد الشاعر عام ،1955 وتخرج في بغداد في معهد الفنون الجميلة، قسم السينما- فرع الإخراج، ثم التحق بأكاديمية الفنون الجميلة، لكنه فصل منها ليساق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في شباط ،1985 ليعيش مخاطر الحرب العراقية الإيرانية التي أورثت شعره بعض مظاهرها الموجعة، شأن معظم شعراء جيله، قبل أن ينتدب للعمل مصححاً بجريدة القادسية.
لكن فرصة أتيحت لكمال حين وجهت له دعوة ثقافية من ليبيا عام 1989 مع عدد من الأدباء العراقيين، ليهرب متنقلا بين تركيا وقبرص ويوغسلافيا التي حصل فيها على اللجوء، وليبقى في بلغراد سبعة أشهر ثم يغادر إلى إسبانيا التي اقترن فيها بامرأة إسبانية. لكن هذا اللقاء لم يلبث أن انفرط عقده ليفترق عنها موجها وجهه شطر هولندا التي استقر في جنوبها منذ عام 1997 حتى آخر أيامه. واصل كمال الدراسة بجامعة مدريد المستقلة بإسبانيا، إذ التحق بكلية الفلسفة والآداب فيها. في مقابل هذا كله كان هناك حكم بالإعدام قد صدر بحق الشاعر عقب هروبه وعودة الوفد الذي كان معه، بسبب من كون هروبه حدث وهو على ذمة الخدمة العسكرية. صدرت للشاعر ثماني مجموعات شعرية، أربع منها في بغداد، وأربع في المهجر، هي: “وردة البحر عام 1980”، وهي المجموعة التي كان قدمها للنشر عام 1977 إلى وزارة الثقافة والإعلام ببغداد، وتغير عنوانها بعد أن كان “سفر الخروج” إلى عنوانها الأخير، وتم حذف قصيدتين منها هما”الخروج وسمادير”، ثم مجموعته “ظل شيء ما عام 1983” و “حكيم بلا مدن عام 1986” و “متحف لبقايا العائلة عام 1989” و “آخر المدن المقدسة، بيروت عام 1993” و “آخرون قبل هذا الوقت، دمشق 2002” و “بريد عاجل للموتى، هولندا 2004” وأخيرا مجموعته “ صبراً قالت الطبائع الأربع عام 2006” المطبوع في دار الجمل في ألمانيا. ترجم شعر كمال سبتي إلى عدد من اللغات، كما اختير في انطولوجيا الشعر العربي باللغة الإنكليزية وانطولوجيا الشعر العربي باللغة الإسبانية.
منزلته بين شعراء جيله
برز كمال سبتي بين أقرانه من شعراء السبعينات، بوصفه صوتا متفرداً، فلقد بدأ مسيرته بكتابة قصيدة النثر، ثم ما لبث أن امتلك في وقت مبكر ملامح خاصة به. ولعله من أوائل الشعراء الذين أسسوا لما عرف بمصطلح النص المفتوح والقصيدة السردية، لا في شكلها المجاني، وإنما في مفهومها المقنع اللافت. فقد كان من بين قلة من مجايليه من يحسن العروض الخليلي ويمتلك وعيا بالبحور الشعرية وعللها وزحافاتها، كما كان متمكناً من لغته، قارئاً نهماً للتراث العربي والإشراقي منه خاصة، وللأدب والفلسفة الغربية في الوقت نفسه. يشهد شعره الذي كثيراً ما يبدو مضمخاً بالحواشي والاقتباسات والإحالات الدالة على خزين قراءاته في الفكر والفلسفة والميثولوجيا والتاريخ والأسطورة والتصوف. ومما أذكره أن مجلساً ضمنا مع عدد من الأدباء في اتحاد الأدباء والكتاب وبيننا كمال، فانعطف الحديث نحو الرواية الغربية وما ترجم منها إلى العربية، وما قرأناه منها، حتى فوجئت بكمال وهو يستمر في تعداد ما قرأه من روايات فاق ما ذكرناه جميعاً من نقاد وشعراء وروائيين. يلاحظ على الشاعر أيضاً شدة اعتداده بنفسه وبشاعريته، وقد كان دائم الحضور في حلقات النقاش مع الزملاء في مقهى حسن عجمي أو حدائق اتحاد الأدباء التي يظهر لك فيها صخاباً حيوياً، خائضاً في سجالات لا تخلو من حدة. فإلى جانب ما عرف عنه من آراء متطرفة في إنكار منجز الأجيال السابقة على جيله، ولا سيما في مرحلته الأولى، كان صعباً عليه أن يقارنه أحد بشعراء جيله. لكن هذه الحدة خفت في ما بعد، ولا سيما عقب هجرته، وهي المرحلة التي شهدت خصبه المعرفي والنقدي ومرونة أفقه وإنجازه عددا من الدراسات التنظيرية في الشعر والشعرية، وعلاقة كل منهما بالفكر والشاعر والعالم.
نماذج من شعره
من شعره في السياب هذا المقطع الذي يخاطبه فيه: “أترجع؟ ماذا دهاك؟ ورأيتْ سحباً دون ماء سال منها اليباس كتاباً تناقله التائهون ورأيت مطراً حنظلاً وقوافل تعطش في مشيها ها هي جيكور نار وأشلاؤها مطر مظلم مطر ليس يعرف أنك تبكيه كل يوم..” ومنه أيضا هذه السطور من مجموعته الشعرية “حكيم بلا مدن”: “مَنْ يُبعدُ الشّعراءَ عَنْ هذي المدينَةِ ؟ كان أفلاطون يسأل والمدينة بعد لم تخرجْ من الكلمات.. لم تسمع سوى صمت من الغابات يخلق مركباً للبحر مسحوراً وأغنية يرددها الشراعُ: الآنَ أقبِلْ يا بني وغيّر الأحجار غيّرت، انطلقتُ وهذه الأحجارَ.. لم أحفل بعتْمةِ كل بحرٍ.. هكذا أبصرتُ: أفلاطون يسألُ والمدينةُ بعدُ لمْ تخرجْ مِنَ الكلماتِ..”. ومنها ما ورد في قصيدته “جلسة قبل الحرب” التي تبدو وكأنها نبوءة لطريقة موته المدهشة وهو لا يزال على ذمة الخدمة العسكرية، مملوءا بغبار الحرب وكوابيسها: “جلس الجميع على الأريكة متعبين: الليل والأشجار والجندي والقمر الحزين يقول أولهم: تعبت من الظلام فتضحك الأشجار من ضوء القمر لكأنما تلك الأريكة مثل تابوت تفتّح نصفه لكأنما كان القمر يلقي على الجندي نظرته الأخيرة وكأنما الجندي جندي يموت على الأريكة مثل تمثال تكسر نصفه وكأنما الأشجار تخفي مأتماً شهد الجميع: الليل والأشجار والجندي والقمر الحزين عزاء جلسته الأخيرة.”. ولنقرأ من نصه المعنون “قوارب المليكة” هذه السطور: “روح من الفخّار تهبط، والتلول تنام فوق الريح مثل قوارب، لا يسمع الحطّاب أغنية الخريف، ولا أنين الغابة الليلي، تهبط، والمليكة بعدُ- نائمة على الأوقات، قرب سريرها شيخ يردد سرّه اليومي “كان هناك”، والكلمات لم تهدأ.. ولم يهدأ حنين الغابة الليلي، أهبط من جنوني، يهبط الفخار قرب سريرها فأردّ عن صحوي تلول الريح، أدفعها بعيداً عن مليكتنا التي رسمت قوارب في المنام.. وتمتمت: مُدني، سيوقظها الخريف لتسمع الحطاب منهمكاً يشق طريقه والشيخ لفّ سواده أفقاً وأغنية”. ويمثل نص كمال سبتي المنتج الإبداعي النقي الذي يبدو وكأنه استمرار لمنجز الأمس وثمرة لتربة الفضاء المكاني والنفسي الأول، على رغم اندماجه العضوي بالمجتمع ممثلا في التحاقه بالدراسة الأكاديمية وارتباطه بامرأة إسبانية زمناً. ومن اللافت أن فكرة الموت والوحدة ظلت قابعة في وعي الشاعر ولاوعيه معاً، لتبرز في أشكال مختلفة ومظاهر وأقنعة متعددة، كهاجس دائم وعلى النحو الذي حدث تماماً، كما مر بنا من قبل، أو في عدد من النصوص الأخرى: “أمضي.. وحدتي: سيدة دمعها ما جفّ بعدُ.. يا للبعد.. يا حيرة شعري.. حزين ووحيد قبل عامين كنت أعرف الذكرى: تنتهي زرقاء في البعد يا للبعد.. زرقاء.. كروحي.. كنهر/ يا جمرة المحطات هذا كل شيء نحن ابتعدنا عن الناس... وضعنا ضعنا.. فلا أحد يدري بنا في الليل البعيد احترقنا/ الغرباء.. الذين يتصيدون عثراته، ويكيدون له مأتماً سيرمونه من جبله الوحيد. وسيسقط صارخاً للمرة الأخيرة إنني وحيد فلأمت سيبكي الجبل الغرباء الذين يتصيدون عثراته كل مرة سيحتفلون بموته. وسيرى هو وليس أحد غيره ان موته فرح أيضاً وسينطلق سعيداً. وهو ساقط من جبله”. لقد تلونت القصيدة لدى كمال سبتي وتعددت أشكالها وأساليبها، فكان شاعراً حداثياً جريئاً، واثقاً من نفسه، حين لم تمنعه حداثته المبكرة من العودة في آخر ديوان شعري صدر قبل وفاته من العودة للشعر الموزون من حيث الشكل. غفا كمال، الشاعر الجنوبي العاشق الحزين إذن على أريكته ولم يدر في خلده أن دمه سيغير هواه ومجراه هذه المرة ليجد له طريقا آخر للتسرب، تاركاً إياه لرقدته ولمناشدات محبيه في الوصول به إلى الفضاء الذي أحب.
كاتب عصامي لقد كان كمال شاعراً وأديباً عصامياً، نذر نفسه للشعر وظل يلهج به طوال حياته القصيرة، مع غلبة سمة المشاكسة في طبعه، مصحوبة بقلق وحساسية مفرطة وصراحة مباشرة جارحة لا تخلو من الحدة، بدا فيها لبعضهم أشبه ما يكون بالشخصية الفوضوية أحياناً، وهي مظاهر غالباً ما ترافق الشخصيات العاطفية الحساسة.
#صالح_هويدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|