أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - سيد هادي















المزيد.....


سيد هادي


سهر العامري

الحوار المتمدن-العدد: 2174 - 2008 / 1 / 28 - 12:08
المحور: الادب والفن
    



لم يكن سيد هادي برجل عمل فهو يكاد أن يكون كفيف البصر لولا بصيص نور يتسلل الى عينه ليريه الأشياء التي تحيط به عن قرب ، أو تلك التي يمر بها وهو في طريقه من قريته الراقدة على ضفاف نهر صغير ، متوجها نحو سوق مدينة لا تبعد كثيرا عن القرية تلك .
كان هو في رحلته الصباحية هذه يعتمد على عصا طويلة يتبين فيها الطريق ، وهي لهذا السبب لم تفارقه أبدا ، وفي بعض الأحيان كانت هي سلاحه الوحيد التي يطرد بها الكلاب النابحة ، وهو يمر بين أزقة قريته أو حين يمر من أمام القرى المتناثرة على الطريق الذاهبة الى ذلك السوق ، وفي أحيان أخرى كان يشد بها على الأطفال الذين يطاردونه بهدف أن يسمعوا ضحكته الغريبة التي تميز بها عن بقية الناس .
سماع هذه الضحكة الغريبة كانت أمنية عزيزة على قلوب أبناء تلك القرى وذلك السوق ، ولهذا تشاهدهم يندفعون وراءه فرادى وجماعات ينتظرون اللحظة التي سيستوقفه بها أحدهم ليشاهدوه وهو يرفع رأسه الى عنان السماء ، وكأنه يريد أن ينظر الى الشمس ، ثم يضع كف يده اليمنى على فمه ليطلق ضحكته العالية والغريبة في ذات الوقت .
ورغم مضايقات الأطفال الكثيرة والمزعجة تلك لكنها لم تدفع به الى البقاء جالسا في كوخه المتداعي ، والمشاد من قصب الهور ونبات برديه ، فجلوس مثل هذا الجلوس يعني موته الحتمي ، فهو لم يملك من حطام الدنيا غير ملابسه وعصاه وكوخه الذي تقاسمه فيه امرأة متواضعة الصورة وولد صغير ، وهو في حالة الفقر المستديمة هذه لا يختلف عن حال الكثيرين من أبناء قريته وأبناء القرى المجاورة الأخرى ، ولكن الفارق بينه وبينهم هو أن البعض منهم يستطيع أن ينزل في زمهرير الشتاء الى بطن الهور ليتسل منه صيدا من السمك يعتاش عليه ، ويطعم نفسه وأهله منه . وهناك بعض آخر يستطيع أن يحصد من قصب الهور مقدارا ليصنع منه حصرانا يبيعها ليعيش على مردودها ، ولما كان هو لا يملك قوة البصر التي عند الآخرين فقد عمد الى الخروج من كوخه ذاك بشكل يومي كي يحصل على القليل مما يجود به الآخرون عليه سواء كان هذا الشيء المجاد به نقدا أم عينا ، فالأمر سيان عنده .
ولكن ضيق اليد هذه قد دفع به الى الإدعاء من أنه يستطيع أن يشفي المريض من مرضه عن طريق تميمتين اثنتين يكتبهما لهذا المريض بعد أن يوضح له ولأهله طريقة استخدامهما ، والشروط القاسية التي يجب مراعاتها ، وخلاف ذلك فإن هذا المريض لن يشفى أبدا . وقد كان هو في توضيحه ذاك ، وفي فرض شروطه تلك يدخل الرهبة والخوف في نفس المريض وفي نفوس مرافقيه الذين يأتون معه من أماكن قد تكون بعيدة عن القرية التي يسكن بها هو .
- عليك أن تشد واحدة من التميمتين بزندك لمدة عشر أيام ، ولا يجوز لك أن تفتحها مطلقا ، أو تطلع على مضمونها ، فإن فتحها والاطلاع على مضمونها سيفسد عليك العلاج بها ، وحينئذ لا تشفى من مرضك أبدا !
- نعم .
- إياك أن تطلع عليها أحد ! احذر من ذلك شديد الحذر !
- نعم أخرى وبحياء مفرط ردت أم حسن نيابة عن ولدها الصغير الذي أرعبه سيد هادي بكثرة تحذيراته ، وصرامة أوامره ، هذا بالإضافة الى قباحة الصورة التي عليها سيد هادي نفسه ، تلك الصورة التي كان يرى فيها حسن أنها صورة شيطان لم يراها هو قط ، ولكن سمع عنها الكثير من أهله وأقرانه ، وقد زاد هذا التخيل البعيد لصورة الشيطان الخوف في نفس حسن دون أن يصرح به لأمه التي لاحظت عليه أحيانا أنه كان يرتجف مع كل كلمة تصدر من فم الطبيب المداوي الذي واصل كلامه قائلا :
- أما التميمة الأخرى ، ومن دون أن تفتحها كذلك ، عليك أن تضعه في طاسة مملوءة بالماء الى نصفها ومن ثم تقوم بشرب هذا الماء قبل الفطور صباحا !
- نعم . ردت الأم التي كانت تتمنى لو تفل سيد هادي في فم ابنها ، فقد يكون في ذلك شفاء عاجل يتخلص فيها طفلها من معاناة مرض يعتصر معدته على الرغم من أن أم رشاد حدثتها بحديث ابنها المرير ، وكيف أنه ظل طوال يوم كامل يستفرغ ما في معدته بعد أن بصق بفمه سيد أخر ، يدعى سيد كاظم .
هذه واحدة من المهن التي يزاولها سيد هادي والتي عرفتها عنه القرية التي يعيش بها ، وكذلك القرى المجاورة ، ولكنه كان في الوقت نفسه يمارس مهنة أخرى هي قول شعر الرجز الذي يقوله عفو خاطر في مناسبات مختلفة مثل وفاة شيخ عشيرة يجد في رثائه منفعة حين يمن عليه أهل الميت بقليل من المال أو الطعام ، ومع هذا فقد كان هو يفضل أن يقول شعره الحماسي هذا في المناسبات العامة التي تدعو فيها السلطات الحكومية الجماهير الغفير بوجوب التظاهر تأييدا لانجاز قام به الملك أو الرئيس ، أو يقوله في تلك المظاهرات المزيفة التي تدعو لها الحركات الدينية والسياسية بعد ما صارت تنافس الحكام بتجارتهم هذه ، وذلك حين تقوم هذه الحركات بدفع أجر معين لكل متظاهر يرقص لها لساعات في شارع من شوارع تلك البلدان التي خيم عليها الظلام والتخلف .
ولهذا وفي صباح صيفي مشرق خرج سكان قرية سيد هادي من الرجال عن بكرة أبيهم ، حاملين الرايات الملونة ، تصاحبهم زغاريد النسوة ، وهن مقرات في بيوتهن ، وكلما لعلعت في سماء تلك القرية أصوات طلقات نار من فوهة بندقية تعالت تلك الزغاريد . وبعد أن احتشد الرجال والصبية جميعا ساروا نحو مركز الشرطة صاحب الدعوة التي بُلغت الى قرى كثيرة يوم أمس .
كان الصبي حسن يتابع سيد هادي وهو يندفع في حماس مثل الآخرين ، ولكنه كان يفكر في أحسن إهزوجة سيقولها أمام مأمور مركز الشرطة ذاك . مثلما كان يسأل نفسه : كيف سيصف الملك ؟ وكيف سيثني على الإتحاد الهاشمي الذي لا يعرف عنه شيئا ؟ حتى أنه سأل أكثر من رجل عن معنى كلمة : إتحاد !
- أ تعرف ما هو الاتحاد ؟ سأل هو رجلا يلهث راكضا مثله .
- علمي علمك !
- ولكن لماذا تركض ؟
- سل نفسك لماذا تركض أنت ؟
- أنا أسعى لرزق ، وأريد أن أصوغ إهزوجة جملية أدعو من الله أن يرزقني بها رزقا طيبا ! فأنت تعلم أن سيد هادي قد كنس الإفلاس جيوبه ولم يبقَ في كوخه من الطعام حفنة من شعير . بعدها وضع يده على فمه ، ورفع رأسه نحو السماء وأطلق ضحكته التي يعرفها الجميع .
- نحن أكثر منك فقرا - يا سيد - اشكر ربك الذي منحك موهبة قول الشعر فتتكسب به من خلال زواج فلان أو من خلال موت علان .
في تشيع جنازة الحاج حميد شاهد الصبي حسن سيد هادي وهو يهزج ، وقد كان لاهزوجته وقع في نفوس الكثير ، ولهذا فقد هزج المشيعون بها كثيرا ، لو لم ينزل هزاج آخر ويستبدلها بإهزوجة أخرى بعد أن لاكت الأفواه كثيرا بإهزوجة سيد هادي التي وصف بها المتوفي بأول بيضة تضعها الشاهينة ، أنثى طائر الشاهين الكاسر في عشها ، بينما شبه أمه بالشاهينة نفسها فقال : أنت أول بيضة في العش وامك شاهينة !
وإذا كان الحاج حميد المتوفي واحدا من عامة الناس ، ويمكن لسيد هادي أن يقول فيه ما يقول ، ولكنه اليوم في امتحان عسير ، فهو يريد أن يعرف المناسبة التي أجبرت بها الشرطة أبناء القرى على التظاهر تأييدا للاتحاد الهاشمي الذي لا يعرفه كل الهاتفين له بما فيهم سيد هادي رغم أنه يعرف شيئا نزرا من كتابة بعض الآيات القرآنية التي يخطئ في كتابتها كثيرا . ولهذا كان هو يتحرق لمعرفة كنه هذا المسمى ليتمكن فيما بعد من الحصول على مكافئة من مأمور الشرطة الذي سيقف مستعرضا الجماهير الهاتفة على العادة ، والمحتشدة أمام مدرسة ابتدائية وحيدة مشادة من الطين .
قبيل الوصول الى تلك المدرسة سمع سيد هادي واحدا من المحتفلين يريد السلام على ملا حسين ، فقال بنفسه هذه بغيتي ، هذا هو الملا حسين ولا بد أنه يعرف معنى : اتحاد هاشمي . ولهذا لم يترك فرصة السؤال تفوته بعد أن استوقف الملا .
- هل عرفت - يا ملا - لماذا خرجنا اليوم متظاهرين ؟
- كل ما استطيع أن أقوله لك هو أنني سمعت بهذا الاسم من قبل ، ولكنني لا أعرف حقيقة معناه ! ومختصر القول هو أن الذي كنا نهتف له من قبل بـ ( يعيش ) علينا أن نهتف ضده اليوم بـ ( يسقط ) !
لكن جندبا قادما من بغداد ساعتها لزيارة أهله في إجازة تمنح للجنود بين الحين والآخر هو الذي أنقذ الموقف ، حيث راح يشرح لمجموعة من المحتفلين الذين بادر سيد هادي بالانضمام لهم ، وقد خرج بنتيجة مفادها أن العراق بملكه الذي يُرد في نسبه الى بني هاشم رهط النبي محمد قد أصبح في اتحاد من الأردن الذي ينتسب ملكه الى البيت نفسه ، ولهذا سمي هذا الاتحاد بالاتحاد الهاشمي ، وأن هناك دول كبرى تؤيده وتباركه وفي مقدمتها بريطانيا العظمى وأمريكا .
ساعتها تنفس سيد هادي الصعداء ، واعتزل عن الجمهور ناحية ، وراح يفكر مع نفسه ، ويتساءل بأي شيء سأصف الملك ؟ فليس من المعقول أن أصفه ببيضة أنثى طائر الشاهين مثلما فعلت ذلك مع الحاج حميد ! وليس من المقبول أن أتعرض لوالدة الملك مثلما تعرضت لوالدة الحاج نفسه ! فربما سيُساء فهم ما أقوله ، وعندها سيسلخون جلدي ، فالمسألة لا تخص رجلا من عامة الناس ، إنه الملك المفدى الذي تخضع له العباد والبلاد .
نهاية حسم سيد هادي أمره وقرر أن يشبه الملك بنوع من أنواع الأفاعي القاتلة التي تعيش عادة في الصحارى ولا تعيش في المياه ، وهذا النوع من الأفاعي يدعى بـ ( الصّل ) الذي يميل في لونه الى لون رمال الصحراء ، ويكون أرشق في بنائه الجسمي من أفاعي المياه ، كما أنه سريع في هجومه ، يقتل من يصيبه في الحال . وقد استعاض سيد هادي عن أم الملك بأبيه وشبهه بصل كذلك ، ولكنه زاد على ذلك يأن جعل الرئيس الأمريكي يفاخر بهذا الملك رغم أن سيد هادي كان لا يعرف اسم الرئيس هذا ، ولا اسم الملك كذلك ، ولكنه عمد الى استخدام الاستعارة المكنية في تشبيهه ذاك على ما يعرف في علم البلاغة الذي لا يعرفه سيد هادي كذلك .
حين اكتملت في ذهنه عناصر الاهزوجة تلك شق جموع الهاتفين طالبا منهم التوقف عن الهتاف ووقف في أقرب نقطة من مأمور المركز ذاك ثم هزج : صِل من صِل متولد ريس أمريكا يفاخر فيه ! فاندفعت الجموع الهادرة تهف بعده مرددة إهزوجته التي دخلت الى قلوبهم بحماس شديد ، ولكنها لم تدخل الى قلب مأمور مركز الشرطة الذي لا يعرف من لغة العرب ولا من بلاغتهم شيئا ، فقد ولد هو في أسرة بغدادية منحدرة من أصول إيرانية .
حين علم سيد هادي بتلك الحقيقة غرق في بحر مأساة عميق ، ولام حظه العاثر الذي لم يجلب له غير الهم والنكد ، وعلم أنه لن يحصل على ثمن ما قاله رغم أنه أرهق فكره كثيرا في انتقاء ألفاظ تلك الاهزوجة وفي رسم صورتها البلاغية فهو قد تجاوز فيها التشبيه الى التشبيه البليغ ثم الى الاستعارة المكنية وهي أرقى صورة في هذا التسلسل البلاغي ، ولقد كان هو واثقا لو أن الملك الهاشمي نفسه سمع اهزوجته تلك لثابه عليها خير مثاب .
- أتعرف - يا سيد - أنني للان حافظ إهزوجتك : صل من صل متولد ريس أمريكا يفاخر فيه ! قال حسن ذلك وهو يلتقي سيد هادي صدفة في ذات المكان الذي أنشد فيه الاهزوجة تلك قبل العشرات من السنين . لم يكد حسن أن يفرغ من كلامه حتى وضع سيد هادي يده على فمه وضحك ضحكته الشهيرة التي ما اضحك مثلها إنسان أبدا ، ثم سأل حسنا : والآن قل لي : ما عدد الرجال الذين يفاخر بهم الرئيس الأمريكي في العراق اليوم ؟ لقد كان عندنا ملك واحد يفاخر به الرئيس ذاك حين كنت أنت صغيرا وحين سمعت اهزوجتي التي ما زلت تحفظها ، ولكن الآن صار لدينا الكثير من أشباه الرجال الذين يتسابقون في خدمة ذلك الرئيس دون أن يفاخر بهم مسؤول أمريكي واحد ، وكل ما تسمعه من إطراء أمريكي لهذا المسؤول أو ذاك فهو في حقيقة الأمر دفع لهذا المسؤول كي يتمادى أكثر في خيانة وطنه.
- لكنني - يا سيد - أراك واقفا منذ سنوات هنا على هذا الصراط !
- أما تدري أن الحكم الذي أصدره عليه منكر يقضي أن أقف هذا الوقوف الذي لا أدري متى ينتهي ، فأنا من الذين خفت موازينهم وثقلت بنفس الوقت ، ولهذا أصبحت ما بين الجنة والنار !
- وما هي مبررات حكم كهذا ؟
- بسبب من أنك أتيت لي قبل سنوات تطلب مني أن أكتب لك تميمتين كي تستشهد بهما في بحث كنت تكتبه عن العلاج الخرافي في الريف ، وطلبت مني وقتها أن أسمح لك بفتحهما ، وقراءتهما ، والتصرف بهما كما تريد وترغب ؟
- نعم . أنا لا زلت أذكر ذلك ، وكأنه حدث اليوم . ولكنني أذكر كذلك أنني قدمت لك دينارين وقتها ثمنا للصفقة التي تمت بيننا .
- نعم . قال سيد هادي ثم وضع يده على فمه وضحك ضحكته المعهودة ليعود بعد ذلك لمواصلة حديثه : هذه الصفقة - يا حسن - هي التي جعلت موازيني تخف ، لأنني خنت سر المهنة التي كنا نحن كتبة التعاويذ نعتاش عليها من خلال الأمراض الكثيرة التي تنزل بالناس هنا مثلما تعلم أنت ذلك . بعدها أطرق سيد هادي طويلا ، وراح ينظر الى النار برهبة وخوف ، وهي تتميز من الغيظ ، بينما كان هو معلقا على ذلك الشريط المتأرجح عقوبة له على خيانة تلك وعلى قبوله الرشوة من حسن التي بلغت دينارين لا غير .
كان حسن يعتقد اعتقادا راسخا أن سيد هادي الذي طالما تغنى من أنه ابن رسول الله لن يقبل أن يخون كتبة التعاويذ من أبناء جلدته خاصة وأنه كان يردد كثيرا على مسامع الفقراء من الناس في قريتهما قوله تعالى : إن الله لا يُحِب من كَان خوَّانا أَثيما. لكن سيد هادي حين جابهه حسن بتلك الحقيقة رد عليه قائلا :
- أنا - يا حسن- معدم ! أكل الجوع مني ومن أفراد أسرتي العظم ، وتحت ظلم هذا المارد الرهيب رضيت أنا بتلك الخيانة التي كانت عاقبتها أن أظل متدليا على الحالة التي تراني فيها ، وكلما لفحني لسان من ألسنة النار الحامية هذه فر قلبي من بين أضلعي فرار طائر جبان ، ولكنني ، والحمد لله ، أتمتع بحسنات أخرى جعلت الموازين عندي تتساوى ، فوقفت وقفتي هذه التي أثارت استغرابك .
بعد أن سال الحزن دموعا من عيني سيد هادي الواهنتين ، وبعد أن أطلق حسرات حارة قال : لكن قل لي - يا حسن - كيف سيكون حساب الذين جلسوا مع شياطين الأرض ورضوا لأنفسهم أن يخونوا وطنهم تلك الخيانة التي سيسجلها التاريخ بحروف من المهانة والذل ؟
كان حسن قد بذل جهدا كبيرا في كتابة بحثه ذاك بعد أن كلف به من قبل أستاذ يلقى عليهم محاضرات قيمة في الأنثروبولجي . وقد كان هو على معرفة تامة بسيد هادي الذي يسكن معه في ذات القرية وكان سبب المعرفة تلك هو أن سيد هادي كان طبيبه الذي اعتادت أمه على حمله إليه كلما أصابه مرض من الأمراض الكثيرة التي تفتك بأبناء تلك القرية والقرى المجاورة ، وكثير ما كان يسمع سيد هادي بعد أن كان يكتب تعاويذه مرددا : إياك أن تفتح هذه الأوراق الملفوفة ! والآن قد حانت الفرص لحسن أن يكتشف سر تلك الأوراق الذي لا يعدو عن كونه كلمات وأشكال لا يجمعها جامع ، وذلك عن طريق دينارين قدمها لسيد هادي الذي يصيح شيطان الإفلاس في جيبه دائما كما يقول هو ، وقد كان هدف حسن من تقديم الدينارين له هو أن يصل الى نتائج مهمة في بحثه الذي أمضى فيه أكثر من شهر وهو يدور بزورق على القرى الراقدة في أحضان الماء من أجل أن يجمع أكبر قدر من المعلومات عن التطبيب الخرافي في الريف ، ليناقشها مع أستاذه بعد أن يرحل بتلك المعلومات الى بغداد.
لقد أتم حسن كتابة بحثه ذاك بعد أن جمع معلومات كثيرة من الأطباء الخرافيين المنتشرين في كل القرى الجاثية على ضفاف من التخلف والحرمان ، ولكنه بعد جمعه ذاك صار على يقين من أن تلك المعلومات لم تأت لهؤلاء البشر من فراغ ، ولا بد أنها قد وصلتهم من مصادر أخرى ، يجهلها هو ، وقد أيده في ذلك أستاذه الذي كان يتشوق لقراءة ذلك البحث أملا بنشره في أحدى المجلات العلمية ، ولهذا السبب فقد قام الأستاذ بإرشاد حسن على بائع كتب رديئة الطباعة والورق ينشرها أمامه على أرض رصيف من شارع الرشيد ، وينشر معها كذلك طواقيا يضعها الكثير الناس في العراق على رؤوسهم ، وقد اعتاد حسن على رؤية هذا الرجل الكهل ، الذي كان يدعى سلمان العجمي جالسا أمام بضاعته وهو مطأطئ الرأس على مقربة من سوق الصفافير الشهير ، كلما مر من هناك .
- عد الى كتاب : الرحمة في الطب والحكمة لجلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي ، فستجد بغيتك فيه ! قال الأستاذ ذلك ، وانصرف مودعا حسن .
ذهب حسن الى سلمان العجمي على عجل ، وكان وهو يخطو نحوه يظن ، وبدافع الحرص على إنجاز بحثه ، أنه لن يستطيع الظفر بنسخة واحدة من ذلك الكتاب ، كما أنه كان يريد أن يثبت صدق ما توقعه عن مصدر المعلومات الخرافية المنتشرة في الكثير من العراق بل وحتى في المدن الكبيرة ، ذاك التوقع الذي حدث أستاذه عنه .
- بكم هذا الكتاب ؟ سأل حسن البائع سلمان العجمي ، وهو يرفع الكتاب من على الأرض ، وراح يتأكد من عنوانه واسم مؤلفه .
- بدينار ؟
أخرج حسن دينار من جيبه دينارا ، وسلمه بغبطة للبائع رغم أن الكتاب كان لا يساوي مئة فلس ، وكان يعج بالشعوذة والخرافة ، وأنه من بنات أفكار فترة الظلام والانحطاط التي سادت العالم الإسلامي ، ولكن حسن اعتقد أن وضاعة تجارة سلمان العجمي التي لا تتجاوز تلك الكتب الصفراء ، وتلك الخرق التي توضع على الرؤوس ( العرقجينات ) هي التي تدفع بسلمان العجمي الى رفع الأسعار بسبب من عدم بيع الكثير منها ، ولكي يعوض عن الساعات الكثيرة التي ينفقها كل يوم ، وهو يعيش بين خطى المارة وضجيج السيارات الذي لا ينقطع .
هكذا أعتقد هو في بادئ الأمر ، لكن اعتقاده هذا قد بدده صديق له يعمل تاجر قماش في مدينة قريبة من قريته وقد اعتاد هذا التاجر القدوم الى بغداد من أجل شراء أنواعا مختلفة من الأقمشة ، وكانت الصدفة وحدها هي التي جمعت بين حسن وبين صديقه علي حين كان يهم بشراء الكتاب من سلمان العجمي الذي كان على معرفة سابقة بصديق حسن ، علي .
- من أين يعرفك سلمان العجمي ؟ سأل حسن صديقه عليا .
- أنا على معرفة قديمة به !
- عجيب ! أنت على معرفة قديمة به ! أضاف حسن . وقد استولت عليه دهشة كبيرة ، ولهذا عاد ليسأل صديقه ثانية .
- هل تشتري منه أنت كتبا رثة مثل هذا الكتاب الذي اشتريته أنا منه ؟ فأنت تعلم أنه رجل فقير لا يبيع ولا يشتري في القماش ، وكل ما يملكه هو هذه البقعة الصغيرة من رصيف في شارع الرشيد .
- وما أدراك أنه لا يملك شيئا ؟ يبدو أن مظهره قد غرك ، فأعماك عن حقيقة هذا الرجل الذي تقول إنه فقير .
- على فرض أنه غني ، فلماذا يعمد هو الى هذا الأسلوب في البيع ؟ هل رأيت رجلا غنيا يرضى لنفسه أن يجلس تلك الجلسة الحقيرة ولساعات طويلة من كل يوم ؟
لاذ علي ببرهة صمت وهما يخطوان باتجاه شارع المتنبي ثم أخرج من جيبه علبة سجاير روثمان الشهيرة والتي كانت تهرب الى العراق عن طريق الكويت أو عن طريق إيران ، ثم قام بإيقاد سيجارة منها وراح يستل روحها بقوة ، وكأنه لم يدخن طوال حياته ، ومع ذلك لاحظ حسن شيئا من الخشية يطوف بوجه صديقه ، علي ، وأحس أنه يريد لهما أن يبتعدا عن سر هذا الرجل . لكن حسن عزم على معرفة هذا السر، وقبل أن يسأل بادره علي قائلا :
- لقد حملني سيد هادي سلاما خاصا لك ، وهو يرجوك أن لا تذكر اسمه حين تكتب بحثك ولا تفضح سر بضاعته!
- دعنا من سيد هادي الآن ، فأنا عرفت سر مهنته ودجله بدينارين ، ولكنني أريد منك أن تكشف لي سر سلمان العجمي .
- عدنا الى حديث سلمان العجمي ثانية . قال علي .
- ما الذي يمنعك من البوح بسر العجمي .
- سلمان العجمي - يا حسن - منذ أن نزح الى العراق في مطلع الخمسينيات يعمل في تهريب مختلف البضائع من إيران الى العراق ، فهو على صلة ببعض من أفراد أسرته الذين يسكنون هناك ، وهو ليس فقيرا كما تظن ، فهو يملك أكثر من بيت في مدينة الكاظمية ، كما يملك بستان نخيل فيها ، هذا عدا الأموال الطائلة التي يكتنزها .
- كيف عرفت أنت أنه يملك بستانا وبيوتا ؟ هل قال لك هو ذلك ؟
- أبدا . لم يقل لي .
- كيف عرفت إذا ً ؟
- كنت قد سألت تاجرا ذات مرة عن نوع من القماش الحريري الذي يستهوي النساء كثيرا وكان يسمى : ستن ، فقال لي التاجر : لا تتعب نفسك في السؤال عن هذا القماش ، ولكن عليك بسلمان العجمي ، وكان سلمان ساعتها واقفا يحادث التاجر هذا ، فسألني سلمان العجمي فيما كنت راغبا حقا بشراء هذا النوع من القماش، فأجبت بالإيجاب ، ومن دون أن يتعرف على هويتي طلب مني مصاحبته ، فهو يعلم أن التجار أمناء على المال الذي هو وطنهم المفدى .
من على الرصيف جمع حسن بضاعته الوضيعة المتكونة من كتب صفراء لا تتجاوز العشرة ، وتلك الخرق التي رأيتها أنت ، ووضعها في سلة من خوص سعف النخيل ، ثم وقف على حافة الرصيف طالبا من سيارة إجرة الوقوف . حملتنا السيارة أنا وهو الى بستان يقع على أطراف مدينة الكاظمية من بغداد ، تكثر فيه أشجار النخيل ، مثلما تكثر فيه سواقي المياه ، وفي أحد أطرافه انتصبت غرفة كبيرة من الطين ، والى جانبها انتصبت سقف وقف على عمودين ، وكانت أرضه مفروشة بحصران فرشت عليها سجادة للصلاة ، سألني سلمان العجمي فيما كنت أصلي ، فأجبته بنفي ، ولهذا أخرج هو من زاوية في تلك الغرفة قنينتين من البيرة ، وبينما كنا نشرب السكر منهما ، قال لي : أتعلم أن هذا القماش الذي تراه أمامك هو من أفخر أنواع الأقمشة الحريرية ، وإن النساء المتزوجات يرغبن فيه أكثر من النساء الغير متزوجات ، وهو بعد ذلك قماش صُنع في دولة إسرائيل وهُرب الى العراق من إيران ، ولهذا السبب فنحن لا نعرضه في الأسواق ؟ أما بالنسبة لك فإنك تستطيع أن تحمله الى الخان ، ومن هناك سيرسل لك الى الجنوب مع ما تشتريه من قماش استوردته الدولة ، وبهذه الطريقة سيضيع بين ذاك القماش المستورد عن طريق رسمي .
كان سيد هادي الذي ما زال معلقا على ذلك الشريط المخيف الذي يفرق بين الجنة والنار يرى أن سلمان العجمي كان أكثر حيلة منه ، وأشد مكرا ، فهو كما يرى يكون مع المصلين مصليا ، ومع الشاربين شاربا، وبهذه الوسيلة استطاع أن يبني قصورا ، ويملك بساتين تتراقص بأشجارها على شواطئ دجلة ، أما هو فقد ظل مرميا في قرية على ضفاف الهور يمتص دمه البعوض ليلا ، ويأكل لحمه الحرمان والعوز نهارا، وكان عليه أن يهتف لكل حاكم جديد حتى لو كان من نسل سلمان العجمي ، ومع كل هذا العذاب فقد كان جزاؤه الأخير هو أن يظل معلقا فوق ذاك الشريط المرعب .
ستظل هكذا - يا سيد هادي - معلقا على ذاك الشريط !
ستظل في المنطقة الوسطى أبدا تعلق نفسك بآمال النجاة ، ولكن آمالك تلك هي في حقيقة الأمر أوهام ! نعم. أوهام يا سيد !
= = = = = = = = = =
* قصة قصيرة .



#سهر_العامري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدن وشعراء
- رحلة الغزال الى الدنمارك
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 15
- عن المعارك الدائرة في مدينة الناصرية !
- العراق فی تقرير للمخابرات العسكرية الدنماركية !
- الكلب المسعور يطوف في المنطقة العربية !
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 14
- عرب الأهوار الضيف والشاهد 13
- الفشل يلاحق المشروع الأمريكي في العراق!
- الغزال 3
- العلم العراقي وهج الوطنية ، وجامع القلوب !
- غوار الطوشي في النجف !
- الشيوعية: تلكم الكلمة ، وذلك الآمل !
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 12
- حزب الفضيلة والخطوة الاستباقية !
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 11
- الحقيقة التي يجب أن لا تغيب !
- الغزال 2
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 10
- الهلع يستولي على عملاء إيران في العراق!


المزيد.....




- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - سيد هادي