أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر12















المزيد.....


الرحيل إلى المجهول تدمر12


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 2174 - 2008 / 1 / 28 - 05:29
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


دقوا الباب. قالوا:
ـ أخرجوا إلى العرس.
تدفقنا إلى الباحة, إلى العرس, كأسراب الحمام الجافل, نحمل لحومنا الحزينة, البقية الباقية من أنفاسنا, من أحلامنا, نبضنا على أكتافنا من أجل أن يتغذى جلادنا عليها. قالوا:
ـ جاثياً على الرُكب بالقرب من الجدار, تعروا, أيديكم فوق أعلى رقابكم المنكسة.
بقوا ورائنا صامتين مدة طويلة.
يكون الجلاد في قمة تألقه, مجده, في عليائه, في عرسه عندما يمهرالأرض والسماء للون الدم وشهواته, عندما يغرس هذا المبهج الصارخ في ثلالم الشجروالحجروحناجرالأطفال ووجوه النساء. ينتشي ويرتعش, تعتريه رعشة اللذة اللذيذة عندما يشم رائحة اللون الأحمرالقانئ اللزج المسكون في النارالملتهبة النازفة من جروح المعذبين والمقتولين. خياله يسيل كدفق كوهج كشهوة كلما تدفق الموت من حوله. يشتهي أن ينسج الوجع الموجع على صوت الآهات التي تخرج من أنوال الأجساد. يعزف سيمفونية مجده الوهمي المشيد على الحطام, كأنه يضاجع الهوام, الرغبات المجنونة, يضاجع ذاته, كأنه في يوم عرسه مزفوفاً لنفسه في لحظات تقديسه لوجوده, لخلوده السلطوي الكريه.
كل الأوجاع مشروعة ومشرعة ما دامت تديم ديمومة الجلاد وبقاء صوته عاكفاً على لحن آلات خلوده وبقائه على عرش الأموات والضحايا وأصوات المعذبين من كل الأجناس والأعراق.
بقوا ورائنا صامتين مدة طويلة.
كان قلبي يقول لي:
ـ ماذا ينسج هؤلاء الأوغاد لنا من حقد. كنت أرجف من الخوف, سنابلي تكاد تتكسرمن طوال الأنتظارالمر. في العادة يتهامس هؤلاء, يتفاهمون بالإشارات, بالخيوط السرية التي تعلموا على رسمها بين بعضهم. لم يستغرق الوقت مدة طويلة حتى جاء الخبر اليقين. العرس بدأ. لبس الجلاد أجمل ثيابه, تعاويذ ورقيات, نياشين مزيفة, أوسمة سوقية فارغة, ونجوم مصنعة على مقاسه. مضى في الرقص على أنغام الصراخ الموجع والآهات الخرساء الساكنة في الحلق. قالوا:
ـ واقفاً. وقفنا كما طلبوا منا.
راح كبل الجلاد يضرب بكل قسوة على الظهروالرأس. ضرب موجع, أصوات الكوابل تلتف مع رقرقة حرارة الصيف, يعلوا ويرتفع ليمتزج بالأنين المرالخارج من صدورنا. لم يكن يسمح لنا أن نرفع أيدينا إلى الأعلى أو نلتفت إلى الوراء. كانت الضربات تأتي متواترة وغيرمنتظمة. نحس بهواء الكبل وهو يرتفع في الهواء, إلى الأعلى ليهوى على الظهرأوالرأس. ولأننا لا نعرف من منا سيتلقى الضربة لكون وجوهنا بأتجاه الجدار ومنكسة لهذا نحس باللسعة عندما يمتزج الكبل بلحم الظهر. مضى أحدهم قائلاً بعد أن رأى سيلان الدم والبقع الزرقاء والحمراء على الظهروجوارالرقبة وهو يتآوه من الشبق:
ـ أجلبوا ماءً من المهجع. تنطح البعض منا وجلبه. قالوا له: بللهم بالماء. راح يرش الماء على ظهورنا من أجل تبريد اللون المقدس, لون الشهوة, اللون الأحمرالنازف. تركونا في الباحة جاثمين على ركبنا في حراسة الحراس الذين على السطح.
راح التعذيب الممنهج يصدرمن الشرطة الذين على السطح:
ـ منبطحاً, أزحف على الأكواع والركب. رحنا ننفذ ما يقولون, زحفاً على أرض الباحة إلى أن سال الدم من أطرافنا, نلهث من التعب ومتاهات غيضنا المكتوم. صرخ علي أحدهم:
ـ رئيس المهجع. بعد أن حييته ووقفت باستعداد تام. قال:
ـ أذهب إلى هناك, إلى عند الذي في الزاوية, ليقف. بعد أن وقفت مقابله وجهاً لوجه رحنا ننتظرما يأمربه هذا الشرطي. قال:
ابصق في وجهه, وجه الختيار, الشايب الذي أمامك, أبوالشعرالأبيض. وقفت مذهولاً لا أعرف ماذا أفعل. قلت حضرة الرقيب أول:
ـ الختياررجل كبير في السن, إنه بعمر والدي وجدك كيف تريدني أن ابصق في وجهه. كنت أتكلم معه ووجهي منكساً, لا أستطيع أن أرفعه. /رفع الرأس في سجن تدمرتعتبرجريمة في نظرهم/. قال:
ـ يا أبن الشرمو.. علم نفسك. هنا لا يوجد أبوك أوجدك. هنا أنت أقل من حشرة, أنتم حثالة. تتكلم معي وكأني صديقك. ستدفع ثمن هذه التفوهات بعد قليل يا أبن.. . قلت:
ـ حاضر حضرة الرقيب أول. أردف:
ـ أبصق عليه.. على الختيار. وقفت مصدوماً بينما الشرطي يتابع صراخه وصياحه:
ـ ستبصق. أبصق يا أبن الشرمو.. أبصق يا أبن القحب.. أبصق يا خائن, يا عميل. وقفت لا أدري ماذا أفعل, محتاراً في أمري. لحظات صعبة, لحظات لا يمكن أن توصف. عارعلى عار يشد خصره علينا. إن بصقت لن أفلت منهم, وإن لن أبصق لن أفلت منهم أيضاً. لم أعد أعرف ماذا أفعل. هل هناك في الدنيا نذالة أكثرمن هذه النذالة وقذارة أكثرمن هذا الوضع.
نظرالمرحوم أبو نجم, عبد الله قبارة في وجهي بحزن, عيناه ترمشان بسرعة, ترتعشان, فيهما حزن دفين, قطرات الدمع تسبح في مقلتيه, شفتاه ترتجفان, ملامحه ذابلة من القهروالقلق والتوتر. قال أبونجم:
ـ ابصق.. لا تتردد.. إنه قدرنا.. ضريبة علينا دفعها. المطلوب أكبر.. أكبر من هذا. أبصق ولا تخجل.
/كان عبد الله قبارة طياراً حربياً مسرحاً من الجيش أيام الوحدة السورية المصرية/
وقفت أنظر إلى وجهه الذي يكسوه البياض.. إلى شعره الأبيض, الاشيب, إلى ملامحه, سنه الكبير, التجاعيد التي رسمتها السنون والأيام على جبينه وصدغيه وقامته المنحنية. أقرأ تضاريس الزمن ومخلفاته على شرائح وجهه ورأسه وقلبه. كانت الشرطة واقفة تنتظر المهزلة.. تنتظرأن تمارس هذيانها وهزيمتها على نفسها من خلالنا.
كنت مدركاً إنهم يريدون كسرنا, كسرأروحنا, كسرروح الرفض في دواخلنا. إنهم يريدون أن يكسروا لون الإنسان الجميل فينا, يدمروا جمال الحياة في قلوبنا.
مدرك ذلك تماماً. لكنها لحظات صعبة للغاية أن تتحدى سلطة جائرة تمارس عليك كل قسوتها وسطوتها وأنت لا تملك شيئاً سوى أن تقول لا.
ساد الصمت الكامل في هذا الخلاء المغلق والمطلق.
تناهى إلى سمعي صوت حناجرمرقرقة, صنوج عذبة, صوت أطفال صغار. نسيت نفسي, غرقت أذني في بحرأخر.. لم أستيقظ منه إلا على أنغام موسيقة صادحة بألوان الطبيعة, متناثرة على مساكبنا, روائح النعناع البري وخلائط الختمية والزعتروالشيح مترافقاً مع صوت ناعم جميل, فيه هسيس الطبيعة وحفيف أشجارها الحنونة. صوت يصدح بنداء الحياة قادماً من وراء الأفق ملفوفاً بالحناجرالوردية المزنرة بنبض الفجروهوائه. أيقظني هذا الصوت من وهاد الحلم المرعب, من كابوسي, حملني على مجاديف الشمس وحطني فوق أشعتها الصباحية. صوت رقيق ناعم كأنسياب الماء في الماء في مجراه الآمن, مثل النسائم الربيعية وهي تتناغم ببعضها, كضربات الناي على القصب. صوت رسل الرحمة جاء من وراء الأسوار.. صوت متناغم مع حفيف الشجر وثغاء الغنم.. صوت الطبيعة الصافي الندي والرقيق.
صوت الأطفال الصغار, صوت أطفال مدينة تدمريأتي عبر سحابة الصيف النائمة وراء الواحات, مرشوشاً بماء الزهر. وقفت استرق السمع برهافة وقلق. نسيت الشرطة ورفاقي والجلاد والباحة والدنيا والكوابل وراحت ذاكرتي في شرود:
رحت إلى الخابوروالبور, إلى طفولتي, الصفصاف والزل وغزلان براري الجزيرة الخضراء.
في ذلك الشفق الحلو, كنت أجدف القارب مع والدي. كان الفجر خمراً بلون النبيذ المعتق, رخواً, كسولاً, بسيطاً وساذجاً. مشغولاً في رفع غطاء الليل عن وجهه. يبعد النجوم المرصعة في السماء عن دربه في صمت أقرب الى السكون. كانت الأرض ناعسة, مسترخية, متكئة على نفسها, إلا من بعض الأصوات الخجولة التي تأتي من هنا وهناك. تستيقظ طيورالصباح, تغرد بهمس أقرب إلى الهسيس الخجول, كأنها تستأذن القفرللتناغي والمسرة. خوارالأبقاريتناغم مع نقيق الضفادع, الصقوروالشواهين في صمتها السكوني, الجمال والمعيزفي طريقها إلى المراعي.
صوت الخابورينهض في لبي من غفوته ليحلق ويطير.
كنا نجدف الهوينة, ليأخذنا القارب على مداه. يشق طريق سيره عبرالانسياب المرن. قال والدي:
ـ لنسرفي الجوف, وسط مجرى النهر, إلى المكان العميق. علينا أن نسيطرعلى التيارالقوي. أجلس في مكانك, حاول أن تساعدني حتى نرفع الأغصان الكثيفة, رؤوس الدغل والحرش, ميل بجسدك نحو اليمين, انحني قليلاً, أحمل الأوراق النازلة إلى الأسفل. ها.. أقتربنا من الركن الأخضرللنهر, لندخل هذه البقاع الجميلة من أرض بلادنا الخلابة تحت ظلال الماء والأشجارالمتنوعة. لنرى ما بها. سنحاول أن نتعرف ونستكشف الأسرارالكبيرة للخابوروما يختزن في جوفه من قوة ورباطة جأش تاريخي. تمهل. أفرد جسدك وتمدد حتى لاتصطدم بالأوراق المذببة, حتى لا تجرح نفسك. دع الماء يأخذنا إلى الأمام .
كان والدي يعن من التعب, مشغول البال, لخوفه أن نتوه ونضيع. كان مرعوباً من أن نتوه ويبلعنا الخابور. مغموساً بالاستسلام, يختزن جوفه الهزيمة قبل أن نبدأ. كنت أقول لنفسي من أين يأتيه كل هذا الخوف. طلب مني مرات كثيرة أن أصمت وأدقق النظربكل شيئ. يحذرني من الأفاعي وجريات/ نوع من السمك/ الماء وأنواع كثيرة من الحيوانات المنقرضة. يلتفت كثيراً إلى اليمين والشمال. يلتفت ويراقب فيما حوله بتردد, يرفع رأسه إلى الأعلى ويخفضه إلى الأسفل بسرعة كبيرة خشية أن يهجم علينا شيئ خرافي غامض. كان يتجه بمحاذاة الحواف على مسافة غيربعيدة من أشجار الصفصاف الملتفة. في كل خطوة يهتف أنتبه, أسمع, لا تتحرك كثيراً, هناك, وقع, حركة, غموض, غامضة, هس.. هس, ابتعد, أقترب, أبقى في مكانك, تعال إلى هنا, استند على أخشاب القارب, أمسكه جيداً حتى لاتقع وتغرق, ربما.. ربما تقع ولا أستطيع أنقاذك. وراح يجدف, ويقول:
ـ دعنا نجاهد أكثرلنبعد أوراق الزل من طريقنا. الأن التيارقوياً ورشيقاً, واثقاً من قدراته على حملنا, سيتولى أخذنا على جسده وظهره, سيسيربنا, يدفعنا إلى الأمام. أحس إننا على الأعشاب الناعمة الطرية. أنظرإلى الشمس كيف تبزغ, كيف تطل وتجلس في حوض السماء مثل بقعة منيرة, أنظرإلى أشعتها كيف تخترق فراغات أوراق الاشجار العملاقة وتتسلل منها بشكل متقطع.
صمت والدي وراح يعدل من مكان وقوفه. يبدو إنه تمالك الشجاعة بعد أن رأى النورالمبهج في قبة السماء لهذا مضى يقول:
ـ اصغ جيداً. اسمع . أصوات الطيورالمختلفة, راقب أعشاشها الصغيرة في جدوع الاشجار. يوجد هنا الكثير من السلاحف والنوارس والطيورالصداحة المختلفة, عصافير وبلابل وشحاريروعلى مبعدة قليلة توجد الثعالب والذئاب والغزلان الخابورية.
ثم مضى التيار يأخذنا الهوينا على الراح
صارالجومنعشاً, يبدوأن الشمس ودعت خجلها وجلست تنظرإلينا من شرفة السماء. وبحركة غريزية بسيطة دفع والدي القارب بمساندة العصا إلى الضفة اليمنى قال:
ـ أنزل معي إلى الكيش, مستوى النهرمع منسوب الأرض. تعال نسحب القارب ونضعه هناك. كان يشيرإلى جهة حيادية, مهزومة, مسترخية على الضفة, تجلس على الطرف وتداعب بقايا الماء. قال:
أمسكْ هذه السنارة. أسحبها, شدها الى صدرك, يبدوأن حظك اليوم جيداً, علقت سمكة كبيرة بين براثنك القوية. أسحب الخيط أكثر, أنظركيف ترقص في الهواء, أخرجها إلى البر, ها هي بين يديك. أمسك السمكة العالقة وحررفمها من السنارة, لا تدعها تفلت منك. أمسكها جيداً حتى لا تنزلق من بين يديك الصغيرتين, الناعمتين. مد أصبعك في فمها وتعرج لتصل الى غلاصمها. ثم شد عليها بشكل جيد. دع زعانفها وذيلها يسبحان في الفضاء.
كان الجميع واجمون ينظرون إلي باستغراب. كنت في شرود.. أستيقظت على صوت الشرطي وهو يصرخ بصوت عالي.. يا أبن الشرمو.. يا أبن.. قلت لك ابصق في وجهه. أين أنت! إنك تخالف الأوامر والتعليمات. حسابك عندي يا خائن. ثم راحت أصوات الشرطة تتعالى من كل الأطراف.. ابصق في وجه الختيار يا عرس.. يا ديوث.. يا منيك.. يا أبن المنيو..
قلتُ له:
أين السمكةََ!
عادت ذاكرتي إلى محلها. صاروجه أبونجم في وجهي, عيناه في عيني. رغاء حنجرته في فمي, ورغاء حنجرتي في فمه, كلانا بصق في وجه الآخر. هذا هو قدرنا.. قدربلادنا أن يحكمها مخصي ذو قرون ناطحة. بصقتُ على نفسي, عليه, على مصيري, مصيره, مصيرنا ومصيربلادنا, بؤسي وبؤسه وبؤس بلادنا ووضعها. قال الشرطي:
ـ أنت الذي يلبس البيجاما, أبواللون الأصفر, أذهب إلى المهجع وأجِلب ماء.
كانت الماء مقطوعة. قال عمرأبوالبيجاما ذات اللون الأصفربعد عودته من المهجع خالي الوفاض, بيدونه فارغاً, مرفوعاً في الهواء:
ـ الماء مقطوعة حضرة الرقيب أول, لا يوجد ماء في المهجع. قال الشرطي:
ـ أنت تكذب, لا تريد أن تجلب الماء إلى الباحة. ثم نادني وقال:
ـ أذهب وهات الماء. رحت ركضاً. كان ياسين الحاج صالح يحاول أن يملئ بضعة قطرات من الماء من الحنفية المقطوعة في البيدون. قال لي ياسين:
ـ خذ هذه القطرات وسد فمه بها. أخذت البيدون وخرجت وقلت للشرطي الذي على السطح:
ـ فيها بضعة قطرات من الماء. الماء مقطوعة. التفت الشرطي إلى عمروقال له:
ـ انبطح على الأرض يا أبوالبيجاما الصفراء. ثم طلب من أبو البيجاما الزرقاء أن يصعد على ظهره. رفض أبومالك, مصطفى حسين الصعود على ظهرعمرالحايك. قال له الشرطي:
ـ أصعد على ظهره يا أبن.. شتائم بكل المفردات. لكن أبو البيجاما الزرقاء لم يقبل أن يتزحزح عن موقفه. ظل ساكتاً, لا يتكلم ولا يتحرك, نظراته الهائمة تجول في المكان, فيها مليون سؤال وسؤال. التمت الشرطة كلها على السطح, راحت تصرخ بعالي الصوت:
ـ نفذ الأمريا أبن الشرمو.. أصعد على ظهره يا أبن القح.. نفذ الأوامر. لكن أبومالك لم يكن يرد, لم ينفذ الأوامرالمقدسة. صرنا نحس أن الإدارة كلها صارت على السطح من كثرة الصراخ والهياج والزعيق. طلبوا مني أن أطلب منه أن ينفذ الأوامر. لكنه رفض أن ينطق بحرف واحد. بقي صامتاً تماماً, ساكناً في مكانه. أقتربت منه وتكلمت معه همساً, طالباً منه أن يصعد على ظهرعمر. كان وجهه مغسولاً من الألوان, لم أعرف شكل اللون الذي استقر عليه, ينظرإلي بعينيه مثل ذبيحة على أبواب النحر, دون أن يرد علي. قلت له: ستكون الفاتورة مضاعفة يا أبو مالك. حاول أن تفهم أننا بيد مجرمين, لن يتورعوا عن تصفيتنا, ضعها في بالك. لم يغيرأبو مالك موقفه وبقي واقفاً لا يتكلم. قال الشرطي:
ـ أدخلوا إلى المهجع.
لم تمض بضعة لحظات حتى سمعنا صوت القارس وهو يرتطم بالأرض علامة على مجيئهم إلينا. الكوابل تضرب الحيطان. راحت قلوبنا تقرع في داخل قلوبنا من الخوف والاحتمالات الغريبة الغامضة. قلت للمهجع في لحظة غضب:
ـ سأبلغ الشرطة أن أبومالك رجل مريض بالانفصام, حتى لا يجلدوا الجميع, وإنه بحاجة إلى العلاج. جاء صفوان عكاش إلي وقبل رأسي وقال:
ـ لا تخطأ يا صديقي. ستعرض أخينا ورفيقا وصديقنا مصطفى حسين للأذى, أرجوك فكر جيداً أن ما تقوم به خطأ جسيم. سيدخلوا بيننا, سيتسللوا بيننا, يكتشفوا أسرارنا ويفككوا اللحمة التي بيننا. لا تتركهم يعرفوا أي شيئ عنه. لن يرحموه أبداً, لن يعالجوه كما تظن وتتصور, سيزيدوا عليه, علينا, سيعذبوه أكثر. سيزيدوا جراحه ووجعه, سينفردوا به كل يوم ويعذبوه. لا تتهور. أرجوك فكرقبل أن تقدم على فعل لا تحمد عقباه. تذكر:
إنهم متذمرون منا, لأننا لا نتعاون معهم, لا يعرفوا أي شيئ داخل المهجع. إنك تفتح الباب لهم ليدخلوا من خلاله, يخربوا علاقاتنا. إنهم يريدون أن يعرفوا كل شيئ عنا. ثم تعالت أصوات كثيرة من الأخوة أن ما يقوله صفوان صحيحاً. قلت:
ـ حسناً. يبدوإنني مخطئ, لا أدرك مخاطرعملي. إن ما تقوله, ويقولوه أخوتي في المهجع صحيحاً. سنرى ما نستطيع أن نفعله. فتح الباب ودخلوا, راحوا يصرخوا ويضربوا الجدران بالكوابل:
ـ وجهك إلى الحائط.. رأسك في الأرض يا أبن.. شتائم بالجملة والمفرق. وقفنا في الجهة الغربية من المهجع. صاح الشرطي علي أن أذهب إليه:
ـ ماذا لديك يا رئيس المهجع, ماذا حدث عندك. قلت:
ـ أبو البيجاما الزرقاء لديه أوجاع في ظهره, ديسك ولا يقوى, لا يستطيع الوقوف على ظهرأبوالبيجاما الصفراء. قال الشرطي:
ـ هذا هوالموضوع, لا شيئ آخر. قلت:
ـ لا أدري أن كان هناك شيئ آخر. لا يوجد شيئ آخر حضرة الرقيب أول.
كنا جميعنا مستعدون نفسياً على أننا سنجلد جميعناً لا محالة. كنا ننتظرالإشارات التي ستصدرمنهم. قال الشرطي:
ـ ليخرج أبو البيجاما الزرقاء والصفراء إلى الباحة. بعد أن خرجوا, أغلقوا الباب ورائهم, راحوا يجلدوا عمر الحايك ومصطفى حسين. أصوات استغاتاتهم تصل إلى عنان السماء.
بعد أن جلدوهم أخرجونا إلى الباحة. قالوا جلوس. بعد أن جلسنا, تركونا تحت لسعة الشمس الحارة. تولى الشرطة الذين على السطح في أكمال المشوار. قال الشرطي:
ـ ضعوا شرفكم في أفواهكم. كل واحد منكم يضع حذائه في فمه, شرفه في فمه. أيدينا وراء ظهورنا وأحذيتنا في أفواهنا. كل لحظة يذكرونا. أنت أبو اللون الأخضرثبت شرفك في فمك.. انت أبوالصدرية البيضاء أنزل شرفك من فمك دقيقة واحدة مع ضحك رخيص وفاجر. رفع أبو نجم يده إلى الأعلى ووجهه منكساً وقال:
ـ حضرة الرقيب أول. قال له الشرطي ماذا لديك يا أبن المنيو..:
ـ لا أستطيع أن أضع حذائي في فمي. قال:
ـ لماذا يا أبن الشرمو..
ـ لا توجد أسنان في فمي يا حضرة الرقيب أول. طقم أسناني لا يستطيع أن يحمل.. تعالت ضحكاتهم وصراخهم وراحوا يشتموه بكل الكلمات البذيئة والرخيصة.
ثم راحوا يطلبوا منا أن نعوي أو ننهق أو نموء مثل القطة بينما الحذاء في فمنا لا يبارحه.
ثم ماذا أقول:
هذا هو الاستبداد.. هذه هي سورية الأسد.
المشكلة أن البعض يتحدث عن العدالة الاجتماعية. أنا لا أدري عن أي عدالة أجتماعية يتكلمون وأمامهم جبل عالي من الخراب على كل الصعد. هل تداول السلطة تتنافى, تقف عثرة أما العدالة الأجتماعية. قبل هذا وذاك عليهم أن يعيدوا شيئ من كرامتهم الإنسانية التي أنتهكها هذا النظام المجرم, بعدها ليقولوا ما يريدون قوله. يبدو أن الاستبداد لم يعلمنا شيئاً, لم يعلمنا أن كرامتنا البشرية تحت حذاء شرطي أسمه حافظ بشارحافظ الأسد.
يتبع



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول تدمر11
- الرحيل إلى المجهول تدمر10
- الرحيل إلى المجهول تدمر 9
- الرحيل إلى المجهول تدمر 8
- الرحيل إلى المجهول تدمر7
- الرحيل إلى المجهول تدمر 6
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الأخير
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الثاني
- ملكة دول الشمال مارغريتا
- الرحيل إلى المجهول تدمر5
- الرحيل إلى المجهول تدمر 4
- الرحيل إلى المجهول تدمر3
- الرحيل إلى المجهول تدمر2
- الرحيل إلى المجهول سجن تدمر1
- الملك السويدي كارل الثاني عشر
- الملكة السويدية كريستينا
- الرحيل إلى المجهول ما بعد النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 3
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 2


المزيد.....




- الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا روسيا بشأن مكافحة ت ...
- أثار غضبا في مصر.. أكاديمية تابعة للجامعة العربية تعلق على ر ...
- السويد تعد مشروعا يشدد القيود على طالبي اللجوء
- الأمم المتحدة:-إسرائيل-لا تزال ترفض جهود توصيل المساعدات لشم ...
- المغرب وتونس والجزائر تصوت على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام وليبي ...
- عراقجي يبحث مع ممثل امين عام الامم المتحدة محمد الحسان اوضاع ...
- مفوضية اللاجئين: من المتوقع عودة مليون سوري إلى بلادهم في ال ...
- مندوب ايران بالامم المتحدة: مستقبل سوريا يقرره الشعب السوري ...
- مندوب ايران بالامم المتحدة: نطالب بانهاء الاحتلال للاراضي ال ...
- جدل في لبنان حول منشورات تنتقد قناة محلية وتساؤلات عن حرية ا ...


المزيد.....

- ١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران / جعفر الشمري
- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر12