|
فاديا سعد في روايتها (ما عدت .. انا) الانفتاح على الانا في مواجهة الاخر
جمال كريم
الحوار المتمدن-العدد: 2173 - 2008 / 1 / 27 - 09:05
المحور:
الادب والفن
ان اكثر ما يلفت النظر في رواية (ما عدت .. انا) للروائية السورية فاديا سعد (دار حوران، دمشق 2003) هو تنقلها المدهش عبر ازمنة وامكنة متمايزة ومتباعدة بمهارة تعتمد على نسيج سردي جميل يحفز القارىء على ان يكون جزءا من هذا النسيج، لا كيانا خارجا عنه، فهي رواية (ذات) انسانية حركية واعية اكثر منها سكونية، ذات خائفة وقلقة في الوقت نفسه، ذات يهيمن عليها المنطق العقلاني الصارم على حساب الانفعالات الغرائزية الطبيعية، ذات تعيش منفاها الوجودي داخل محيطها الاجتماعي المتمايز، اننا، في هذه الرواية، ازاء شخصية (جمال) المرأةالتي تستطيع ان تشخصن فرديتها وريبتها من الاخر على المستوى الروائي (الفني) وان تدرك في الوقت نفسه كينونتها الاجتماعية على الصعيد السوسيولوجي، فبالرغم من ملامح الاحباط او الضعف في بعض المواقف الحياتية الا اننا نستشف انها تسعى وبقوة الى تأكيد وجودها الانساني والحضاري في آن معا، وهي بذلك تعبر من خلال هذا التأكيد على قدرتها الرؤيوية العميقة في ادراك الواقع الاجتماعي بتكويناته المتنوعة والمختلفة، بل المتصارعة والتي تفضي بنا الى قضاياه واشكالياته الكبرى ولكن من دون تحديد موقف فكري او عقائدي بعينه، ان (جمال) الشخصية الرئيسية في الرواية تمثل نوعا من الوعي الوجودي وليس الوجود ذاته فهي لا تعيش على اوهام او رؤى خيالية او امان قابعة في الرأس فحسب ، بل هي شخصية تؤنسن المشهد الحياتي ثم تعبر عن وعيها باعتبارها كائنا اجتماعيا ينتمي الى نسقه الانساني الجمعي، لكنه في الوقت ذاته، وهذا ما نلاحظه من خلال بعض الحوارات الذاتية تخشى او بتعبير ادق تصطدم بجدار الفصل الحضاري والمعرفي بل الوهمي في حقيقته، فيما يصطلح عليه بعالم الشرق والغرب.. وبالتالي يكون المال شعور قوي جامع بالانتماء الى السماء الاولى وشعور بالخيبة ازاء الاخر المتمثل بميشيل المرموز له بالرجل الانهزامي والذي يحيله الغرب الى تاجر لاله القتل والتدمير، والمتمثل ايضا، بالغرب ذاته، ذلك العالم المادي الذي يدافع بكل الوسائل عن ماديته على حساب المثل والقيم الروحية المستلبة في عالم ميكانيكي انحطاطي، "كانت جمال سعيدة، فمن النادر ان يعيش شخص ما في العالم المشبع بالملذات ويقول (ما زلت اذكر ماضي احبائي)" (ص11). تسرد فادية سعد في روايتها حكاية جمال، المرأة الحالمة والناقدة بل المحبطة في بعض مطامحها وميشيل الرجل الانهزامي الذي لا وطن له سوى مطامحه الشخصية المادية، يهاجر ميشيل الى بلاد الاحلام والحريات والديمقراطيات، ينقطع ويغيب عن بيت طفولته وشمسه الاولى ليحيله بيت الاخر "الغرب" الى تاجر لاسلحة الموت والقتل والدمار، يلجأ ميشيل الى بريطانيا، هاربا مع الهاربين من دول القمع والقتل والخوف والاستبداد وتحديدا يكون ضمن سفينة التهريب الخاصة بالعراقيين الذين ملأوا البحار والاراضي هربا من بلاد تقتل أبناءها ، تشغل الرواية على عنصر الوصف اكثر منه في السرد، خاصة اذا ما ادركنا ان الوصف حاضنة للاشياء والشخصيات في حين يكون السرد رؤية للافعال والاحداث لذلك فان الرواية تتعامل مع المشهد الواقعي الحياتي المعيشي مثل هجرة ميشيل الى بريطانيا والتي تشكل بالنسبة اليه نفي للمكان الاول ـ الوطن ـ لكن الاول بالتأكيد ليس نفيا للثاني ـ اعني بريطانيا ـ أي بتعبير اخر هو ينتقل عبر زمكانية من منفى الى لا منفى، ومثل لقاء جمال بتشارلز في بريطانيا بعد ان يحثها ميشيل على ان تتخذ قرارا في السفر من خلال رسالته الاخيرة لها "في رسالة ميشيل الاخيرة قرأت: (اكتشفت اليوم كم هي واسعة حقول البؤس! وكم هو خصب ترابها المجبول بالدمع! كم هي شحيحة مياه حلمنا.. لم يعد يتشكل منه شلال للامل، اول للرقص الصاخب.. ان نعيش لحظات الفرح المسروقة صار اكثر من حلم، واكبر من قدرة متواضعة للعيش.. بعد الشهر الموعود وخيالات الشجرة السامقة) و (هناك امر خطير لا استطيع ان اخبرك نه شيئا.. يجب ان تاتي مهما كان ظرفك) (ص30) تسافر جمال الى الاخر ميشيل ابن عمتها، والاخر بريطانيا وكادت ان تشطح في لقاءاتها مع تشارلز لولا انها كالت اكثر ميلا للعقلانية منه الى الحياة القائمة على المغامرة المجهولة النتائج. تتمحور رواية "ما عدت" حول شخصياتها الثلاث الرئيسة جمال، ميشيل، تشارلز، وتحرص الكاتبة على انسنتها وبما يؤكد مواقفها واختلالاتها وصراعاتها وبالتالي حضورها الروائي الخاص مقارنة بشخصيات الرواية الثانوية امثال هاني الاعلامي الناجح وهيام المرأة المرموقة وبسام الذي تبرز خصوصيته في نهاية الرواية حيث يستقبل جمال في المطار عند عودتها. وهناك ايضا سلمى وام سمير وتوفيق وصفاء ولا ننسى من ذكر جمال لوالديها باسلوب تركيزي مكثف وكما تحاول بعض الفنون في تقليد ومشابهة الواقع تحاول رواية "ما عدت انا" ان تقارب الهدف نفسه عبر رصد الوعي السايكولوجي للشخصيات والتعبير عن معاناتها الاجتماعية والروحية وتسجيل حالات اغترابها الانساني والحضاري ومعتمدة في سردها او وصفها على حد سواء على انتقالات جميلة ومحبكة داخل النص بين ضمير "انا" و "هو" و "انت، نحن" ويبقى حضور الضمير "هي" المرموز له بالمرأة قويا وفاعلا بل يحيلنا الى لغة عاطفية انحيازية تجاه المرأة الانثى المستلبة على حساب الرجل السلطة صانع الحروب والمآسي "ومهما كانت وجهات النظر حول الدكتورة هيام: هي تدرك ان العبقرية غير.. لكنها ذكية بما يكفي لتحقيق اهدافها في مجتمع تسيره الغرائز والمال، والسلطة وهذا هو سر قوتها، بينما يعتقد الرجل انه عبقري بما يكفي لكي يحطمها، ويتحطم في سريرها" (14). ان الوعي بالاستلاب والذي تواجه به الذات/ الانثى، نفسها والعالم الموضوعي يهيمن، تماما، على شخصيات لارواية، "صوتهن لن يسمع حتى لو اجتمعت نساء الارض ليوقفن الحروب وقتل ابنائهن" (ص29). :لم تفكر صفاء يوما ان هناك اشياء اخرى تشد الرجال في سريرتهم العميقة غير "حوض المرأة" كان هذا تعبير خاص بها. وتعتقد انهم جميعا مدعوون تجاه ما يحصل خارج السرير" (ص 59). لقد سعت فاديا سعد بتأن ومهارة الى توظيف الكنايات ـ الضمائر ـ على مستوى السرد او الوصف في الرواية وتوفقت الى حد كبير في ازالة الحدود بين ازمنة وامكنة الشخصيات على طول الرواية لتؤكد على الحضور بمعناه الانساني وبمعنى المعاناة والصدمة الحضارية المادية تجاه الانا الاخر. وصلت صفقات الاسلحة الى بقاع قصية من العالم ضمن خطط دقيقة. ووفق قواعد لعبة لا تتغير، لم يتوقع ميشيل ان تكون الامور خارج سيطرته حيث كان ينتقم من كل حياته وذكرياته (ص124) "يعلق الذين يعرفون بخفايا الامور: "اشعلوا حروبا مفتعلة"، "غذوا الروح العنصرية"، "حقوق الانسان منتهكة" يشارك كل على طريقته في تدمير الارض (ص125)، لا يخفى على القارىء الحاذق ان الاسلوب الجميل والممتع الذ وظفته فاديا سعد في روايتها لا يضعنا فقط بمواجهة الذات القلقة داخل محيطها الوجودي وانما يجعلنا امام اشكاليات انسانية كونية تدميرية تستفز احكامنا وقيمنا ومثلنا الاخلاقية السائدة، الا يكفي كل ذلك لان تصرخ فاديا سعد لتقول: "ما عدت انا" والعالم لم يعد هو العالم.
#جمال_كريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سهيل ياسين في -خطاب عاثر-.. سرديات تبحث عن اليوتوبيا المستحي
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|