إذا كان التاريخ هو فقه الحرية حسب تعبير ( كانط ) أي أن الأحداث التي يصنعها الإنسان على مستوى الفرد والكل تقودها فكرة قيمية وهي الفكرة التي ناضل من أجلها العديد من الفلاسفة والثوار والمصلحين والأنبياء هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن هذه القيمة ( النسبية ) لم تتحقق والسؤال الذي يمكن صياغته هنا. لماذا تعددت الأشكال المطروحة والطرق العديدة للوصول والهدف أو الغاية واحدة ؟ وإذا كانت الغاية تبرر الوسيلة… ميكافيليلاً، وربما يكون هذا التشبيه، أن الهدف من ناحية يصنعه المجتمع ومن ناحية أخرى يكون هذا الصانع هو الذي يبدل مسيرة الهدف من مرحلة تاريخية الى أخرى ، وعندما نقول ( المجتمع ) فإننا لا نحيد ما نسميه السلطة بعيدا عن المجتمع ، حيث يصيغ التقابل ( والاختلاف ) بين الأيديولوجي ( في بعده السياسي ) والثقافي ، وحيث يتداخلان حّد الاندماج ويتباعدان حّد القطيعة والسلطة كمفهوم ( أيديولوجي ) من ناحية تجريدية تضع نفسها في أهداف وفي رؤية مغايرة عندما نبحث عنها داخل التشكلات الاجتماعية ومؤسساته المختلفة فإنها تختفي ولا وجود لها ويمكن الاستدلال عليها من خلال تمظهراتها فقط ، وعندما نتساءل أين يمكن ان تتمظهر الأيديولوجيا فإننا ندرك أنها تتمظهر في سلوك الأفراد ومؤسساتهم وقيمهم ومعتقداتهم ، وبالتالي فإن الاتجاه الأول يحيلنا إلى مقولة إن الأيديولوجيا تصنع الثقافة وبالتالي تأخذ دورها وهما هنا عاملان متكاملان بل متداخلان .
ولو نظرنا إلى الثقافة ( كمركب من المعارف والعقائد والقوانين والأخلاق والعادات والفنون التي ينتجها المجتمع جيلاً بعد جيل ويكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع ، فإنها ( أي الثقافة ) تحوي مجموعة من الأهداف التي تحصرها الأيديولوجيا في مجال اشتغالها وفق دلالات غائية تشترط وجود هذه الأهداف ( مرحليا ) ولعل احتدام التوترات المتعلقة بفكرة الهوية ( هوية الجماعة وموقعها على خريطة العالم السوسيو- ثقافية وعلاقتها بالآخر ، ومع اشتداد الانغلاق أيديولوجيا ( الخصوصية ، الأصالة ) ، وتبقى هذه المعادلة المتواترة بين ( الأيديولوجيا ، الثقافة ) أسيرة التاريخ ، ومن هنا يمكن النظر إليهما معا كمفهومين عصيا عن التباعد والتعارض .
وعلى صعيد آخر نجد أن التاريخ كمسيرة للحرية يخبرنا بعدة قطائع حصلت ما بين الأيديولوجي ( السياسي ) والثقافي وتاريخ الأديان كنموذج أول هو القطيعة الأولى ما بين الأيديولوجي من ناحية والثقافي من ناحية أخرى ، إذ أن الدين أو العقائد كمفاهيم مكونة للثقافة تقع في مواجهة الأيديولوجيا تماما والدين هو مواجهة ما بين العبيد والسادة فالأولى تغلق الحياة وتضعفها والثانية تفتحها وتطورها ، كما يذهب إلى ذلك نيتشه في ( أصل الأخلاق وفصلها ) . كما أن الدين هو مواجهة الفقراء كسلطة تحدٍ لاخلاق الأغنياء ومواجهة الضعف للقوة ، حتى تصل هذه المنظومة الأخلاقية إلى منظومة أيديولوجية ، تقر بأن المساواة هي أقل ما تطالب به لتصل هذه المنظومة إلى ذروتها ( في الفكر والحياة ) ، وتتحول ( الثقافة ) من نقيض للسلطة إلى سلطة تمارس دورها وربما تكون العصور القروسطية خير مثال على ذلك ، كما أن الحركات السياسية المعاصرة والتي ظهرت مع نهايات القرن الماضي شاهد حي على ذلك . وعلى مختلف التشاكلات ( المعرفية ) أو التجاهلات التاريخية ، فإن البطل صانع الانتصارات وسافك الدماء هو نفسه البطل الذي بالعدالة والتسامح ( المجتمع ) .
كما تشكل المعلوماتية ووسائل الاتصال أهم منتجات الثقافة المعاصرة بتحليلاتها المختلفة التي تعتمد الوسائط البصرية والصور التي يتم بثها لتمرير ونشر رسائل وبرامج (مقصودة) وموجهّة أيديولوجيا ( وهنا الثقافة والمعرفة في خدمة الأيديولوجيا ) ، إذ يمكن بث صور الكوارث والحروب والقتل كمأساة بشرية وبرؤية أخرى يمكن تقديم مشاهد الموت والقتل والصراع في أفلام السينما والمسلسلات التلفزيونية على أسس وافتراضات أيديولوجية ، وتتحول الثقافة الى وسيلة سياسية تحكمها استراتيجية وتساهم في صناعة مواقف وآراء ومفاهيم لها إطارها التاريخي وهدفها الأيديولوجي الموجه .
من جانب آخر شكلّت مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية بنية جديدة في مواجهة قواعد وعلاقات وعادات تتناقض تماما مع القيم المدنية والحضارية ، وطرأت تحولات جذرية على المفاهيم المكونة للثقافة بالرغم من تعارضها مع المكونات الدينية للمجتمعات (الرق، العبودية، الثأر… الخ) وتأسست رؤىَ وأفكار جديدة (الاختلاف والحوار في مواجهة الجدل والاحتدام).
فإن كثير من الفرضيات والتي اتكأت على جدل تاريخي… بين الثقافة والأيديولوجيا ولمراحل مختلفة ساهمت في تصاعد الوتيرة والتلاحق المستمر لتلك العلاقة ، وانسحبت في ظروف كثيرة إحداهما لصالح الافتراضات العلمية والمعرفية حينا وفي أحيان كثيرة شكلّت أساس الصراعات الغائية … ، وبالتالي فإن هدم ثقافة شعب أو أمة وإجبارها على التماهي والخضوع مع / أو لثقافة أخرى يعتبر في حدّ ذاته تناقضا صارخا ودليلا قويا على عدم وجود ذلك التكامل ( الوهمي ) والافتراضي ما بين الأيديولوجي والثقافي ، مع أن كل ثقافة في بنيتها الأصلية وفي لا وعيها يسكنها ذلك الفصل ما بين الأنا والآخر ، كما أن المجتمع يحتمي ويتشبث بقيمه ( مهما كانت الدوافع والمصلحة ) وكرد فعل للتمسك بانتمائه ( الثقافي الديني والحضاري ) ، وما استغلال وجعل الهوية مشروع سياسي وخطاب أيديولوجي يؤكد هذه الفرضية .
وإذا كان الآخرين هم الجحيم حسب المقولة السارترية ، وتصور الآخر أنه ( أدنى ) قيمة وأقل إنتاجا بنزعة الكراهية والعنصرية كرسّت لها السياسة ودعمت فرضيتها ولعل استمرارية ما يسمى بالمفهوم ( العالم ثالثي ) يكرس ويدعم ( صورة انحرافية سلبية قائمة على تمثـُل مجبول أساسا بالعداوة – كما يقول هشام جعيط ) ، وبتصور مغاير حسب ما يذهب إليه محمد الخضراوي – رهان الحضارة ( ذلك أن مليشيات الثقافة تتغيأ خلق وهم جماعي بتزيين الفاشية والقمع في عيون القطاعات العريضة الجائعة التي تصفق مذعورة … ولكنها توقّع من حيث لا تدري على قرارات موتها البطيء ) ، ولقد عمقت الأيديولوجيا السياسية من الهوة وبالتالي فإن أي نموذج يقدم من الآخر وبخاصة خارج ( الأنا ) هو نموذج يقابله الرفض والتناقض فالمجتمع وثقافته ينطلقان من نقص الآخر وعجزه وبالتالي تتكون ثقافته بهذه ( الذريعة !! ) فمثلا لا وجود لدين خارج فضاءه الاجتماعي الثقافي والطرح الأيديولوجي يعتمد على مقولة ( أنه لا وجود لفضاء ثقافي صحيح خارج عنه ) لذلك فإنهما يقفان على حدي نقيض الأول يتمثل في ذاته ويعيد إنتاجها وصياغتها عبر الأجيال والآخر يرفض هذا الاتجاه نهائيا.
وفي سياقات أخرى وأشكال البهرجة والاحتفالية والفلكلور وهذه المعايير تساهم في خلق صراع وتواتر بين الثقافة والأيديولوجية ( محليا ) ، ومحاولات الفصل السلطوي ( المادي ) بين فئات المجتمع على أساس التمايز ( الثقافي ) ، كما يذهب إلى ذلك : خليل أحمد خليل في كتابه سيوسيولوجيا العنف بأن ( إنكار الآخر كقيمة مماثلة للانا والنحن ، كقيمة تستحق الحياة والاحترام ومرتكزة على استبعاد الآخر عن حلبة التغالب أما بخفضه إلى تابع وإما بنفيه ) ، يأخذ هذا التصور بعده السياسي ويدعم منظومة الصراع والتناقض بين مؤسسات المجتمع الثقافية من جهة والسلطة كسياسة من جهة ثانية .
وتأخذ هذه ( الصورة ) أبعادا أوسع لتجد اشتغالاتها بين ثقافات وقوميات وأيديولوجيات ( الماركسية والرأسمالية ) ( الحروب الصليبية والإسلام ) … ، وبالتالي فإن ثقافة المجتمعات التي تعرضت وتتعرض للتشويه أو الهدم خارج عنها تعيد صياغة نفسها بشكل آخر يلبس ثوب ( الأيديولوجي ) السياسي أو الاقتصادي ولكنه ليس تمثلا وأنما هو تمثّل مزيف في حالات كثيرة كما هو الحال عند منظومة ما يسمى ( بالكتلة الشرقية الأوروبية سابقا – حلف وارسو ) ، إذ أن الماركسية كمذهب يحمل ثقافته وسياسته داخل منظومته المذهبية عبارة عن تهويمات على مستوى الذهن ولكن على صعيد الواقع الاجتماعي هناك ثقافة وسياسة معارضة.
وهنا يصطدم المذهب الأيديولوجي والثقافي وينكفي المجتمع وثقافته على ذاته ( منتظرا خلاصه ) ويستمر التعارض ما بين الأيديولوجيا والثقافة وكأن السياسي محكوم بالقطيعة مع الثقافي حيث انه لم ينتج منظومة متكاملة وإنما عبارة عن شتات وتجزئة أحالت الافراد داخل مجتمعاتهم ( وفي صدام مع المؤسسة ) إلى ذرات متعلقة على نفسها كل منها يتهم الآخر لكي يلغيه .
بيمارستان الخطاب السلطوي
تصاعدت وتيرة الخطاب ( الايديو – ثقافي ) كمفاهيم متباعدة ومتطاحنة عبرّت عنها أشكال المعرفة وتداولاتها السياسية ، روجت لها ( المشاعر ) الأثنية ، وتحولت معها الخطابات النفعية وفرض مفاهيم سياسية ثقافية اقتصادية مستمدة من فلسفة ( عصر الأنوار) ، والهيمنة وتأكيد مبدأ التفاوت العرقي وسبر أغوار علاقات السيطرة والتفوق والتمايز عبر ( رسملة الثقافة الغربية ) وأدلجتها ، وهذه المقاربة تكاد تكون استفهامية في جملها ، في رؤياها وفي مناشدتها لإشكالية الخطاب ( الأيديولوجي – الثقافي ) كمفهوم للتقارب والاختلاف المأخوذ عنوة في رحم الثقافة الإنسانية ليُعاد إخصابه أيديولوجيا ( كجنين غير شرعي ) ، مستنسخا ، يقايض ميراثه ووجوده وانتماءه ( وعيا مغلوطا ) .
ولعل ما يذهب إليه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في رفضه لمفهوم الأيديولوجيا إذ يعلن " تبدو لي صعوبة استخدام مفهوم الأيديولوجيا راجعة لأسباب ثلاثة : أولها أنها تقابل دوما شئنا أم أبينا شيئا مثقل الحقيقة ، ثانيها : أنها تحيل بالضرورة إلى ما يقوم مقام الذات ، وأخيرا أن الأيديولوجيا هي دوما في موقع ثان بالنسبة لشيء يشكل قاعدة وبنية سفلى .
وبالتالي فإن الكثير من المفاهيم المماثلة لمفهوم الأيديولوجيا اتصلت بالممارسة النصية والاركيولوجية ( كمفهوم اللاشعور عند فرويد ، مفهوم الوثن عند نيتشه ، ومفهوم التيه عند هايدغر ، ومفهوم الصراع عند ماركس ) ، وكما نضجت مراهقات الأيديولوجيا في متاهات التاريخ فإنها نمت وترعرعت في بيمارستان الخطاب ، إرادة القوة ، المعاقبة والمراقبة ، والعنف … ، فالمعلم وإن وجد في معبد ( دلفي ) على حد تعبير ( هيراقليدس ) لا يظهر ولا يُخفي : أنه يحيل ويشير قط ، ومثلما كانت ( الاكليزيا ) أي " الجمعية العامة " ملتقى المواطنين الرجال في أثينا … ، فإنه يمكن استدراك أن اللحظة التي يتحول فيها الخطاب إلى ( شوزفرينيا ) تاريخية وادعاءات أيديولوجية متناقضة في علاقاتها تدعي ( حملها ) للعصاة السحرية لحل مشاكل الاختلاف والتعارض القابع في النص والخطاب الاجتماعي ، وتُعاد رسم تشكلات بُنى التناقض والتصارع عبر تاريخ الفكر الذي هو تاريخ وجود الإنسان.
هذه المغامرة تُحيلنا إلى مقولات ، وأجساد ، ومساحات للمطاردة الوهمية ( بين الأيديولوجيا والثقافة ) ، وتجد مبرراتها عند سارتر ورينيه جيرارد ذلك أن " العلاقة التي يقيمها الإنسان مع غيره هي التي تؤدي إلى تواجه / صراع رغبات "، وبينما تنهمك الثقافة بدراسة السلطة وعنفها وتحليلها ، تذهب الأيديولوجيا ( السياسية ) لممارستها وتطبيقها عبر السجون والتعذيب وإنتاج العقوبات والإرهاب والتخويف … الخ ، كما تتجلى تلك الجدلية في صراع الأفراد من اجل الحياة ( صراع الارادات ) ، وتبتعد هذه الرؤيا لتأخذ مجالا في النص الديني ( السيوسيو – ثقافي ) في شكل تعاقد وارتباط اجتماعي ( تشريع ) النص واحتكاره والخضوع للرمزي ( للدين ، للدولة ، … ) وتكتسب الثقافة المدجّنة ( شكلا هامشيا مستلما ) ويظل يعيش التاريخ مأزقه الأيديولوجي .
وباعتبار أن الأيديولوجيا منظومة من التمثلات والتصورات ونسقا من المفاهيم السلطوية ومسرحا للعنف المادي والرمزي … غير أنها في حالات كثيرة لا تطال الواقع ( ولا تمسه !! ) .
وكما أن التاريخ هو نص الصح ، فهو أيضا النص المغلوط ( والمؤدلج ) والمزور … وإذا كان الوجود يحاول كتمان الحقيقة ويعمل من أجل خضوعها لسلطته ، ولا يبوح بها ، فإن هذا الكتمان هو الكيفية الأولى لانفتاحه مهما كان المنحى أو الطريق وبعبارة سارتر ( الطريق إلى الجحيم مرصوفا بالنوايا الطيبة )، فإن حالة الإتلاف بين مفاهيم متناقضة ومتباعدة ومتواترة مفتوحة على فضاءات وتجليات وخطابات عدة ، سوف تغادر جميعها حلبة الحاضر إلى الماضي ( التاريخي ) وتتحول إلى مفكرة للنفي وأرشيف للإهمال ، لنجد أنفسنا أمام ( مكر ) التاريخ الأيديولوجي وخدائعه والذي سيعتمد الأيديولوجيا كنظرية للوعي ولدعم بنيان الخطاب السياسي وبالتالي فإن انسحاب البُنىَ الواعية (ثقافيا) ، شكل فراغات تتباعد وتفسح حقلا معرفيا خصبا وجديدا على حساب ثقافة الآخر وتشويهها ومسحها عبر وسائط وحلبات صراع خطابية جديدة (العولمة ، ما بعد الحداثة) وعلى حّد تعبير التو سير: "الحقل الذي يرى ذاته في الموضوعات والمسائل التي يعيّنها…
كما تنشد العولمة تأليف ثقافة ذات بعد واحد ومن نمط استبدادي على حّد قول عبد الإله بلقزيز.فهي محكومة بأفكار وتصورات وتراكمات معرفية كما إنها وبرأي حسن حنفي ( تعبير واقع ومستمر وفي أشكال متجددة عن الوعي المركزي المهيمن انطلاقا من الغرب) وعبر كل هذا الشتات والاضطراب والصراع بين مختلف الثقافات والأيدولوجيا تتشكل خطاباتنا واستناداتنا المعرفية، نراهن على الفكر والإبداع ليخلصنا من هذا التشظي وتقويض سلطة الرمز والهيمنة المتوحشة والتخلص من الإرث الاستبدادي والفوضى التي تكرس لمزيدٍ من التناقض .
اسنادات
Danielle Archibugi: Cosmo- political Democracy, New Left Review, NLR, July /august 2000.
هنري لوفيفر : ما الحداثة، ت: كاظم جهاد، دار ابن رشد. بيروت، 1983.
السيد ياسين : العالمية والعولمة، دار نهضة مصر ، القاهرة ،2000.