النتاج الأدبي ينهل مادته الأساس من الواقع الاجتماعي، بل يمكن اعتباره مرآة تعكس تشابك وتنافر العلاقات الاجتماعية في مجتمع ما. وقد يكون بعيداً عن الواقع عندما تكون معطياته تستند إلى واقع الخيال والتصور، لكنه بذات الوقت يقتنص آلياته من الهامش الاجتماعي وليس محوره الأساس.
ومفهوم الالتزام وعدم الالتزام الأدبي، يخضع في إحدى مكوناته الأساس إلى المنظومة الأخلاقية للمجتمع التي تستند إلى ثنائية الخير والشر. وهذه الثنائية قديمة، قدم المجتمعات البشرية وظهور الأديان.
وتطور المفهوم مع تطور العلاقات الاجتماعية وتراجع منظمومة القيم الموروثة مع الزمن، وهذا التطور اكتسب آليات جديدة نتيجة التناحر الطبقي في المجتمع وأفرز أدباً خاصاً بالطبقات.
وأن ظهور وصياغة المفهوم بشكل متكامل ترافق مع بدء الحرب الباردة بين القطبين، وبانتهاء هذه الحرب لم يتغير هذا النهج (بشكل كبير من قبل معتنقيه) بل انخفض وهجه مع هزيمة المنظمومة الفكرية المنتجة له على الصعيد العالمي. فلم يعد (جيل العولمة الجديد) يكتثر لمفهوم الالتزام وعدم الالتزام الأدبي، لأن فجوة الصراع الطبقي قد تقلصت نتيجة التطور الذي طرأ على العلاقات الاجتماعية. ويمكن مناقشة مفهوم الالتزام وعدم الالتزام الأدبي من خلال ثلاثة محاور:
1-الالتزام الأدبي الأخلاقي:
يستند في صياغة النص الأدبي إلى ثنائية الخير والشر، فالنص الأدبي الملتزم يمكن التعبير عنه في هذا المحور بالاصطفاف مع قيم الخير والنص الأدبي غير الملتزم يجانب محور قيم الشر. والصراع بين قوى الخير والشر لم ينتهِ مع الزمن بل أصبح أشد ضراوةً كونه اتخذ منحاً لصراع قوة الإرادة بين الطرفين. ويعبر عن ذلك ((نيتشه)) بقوله: تلك إرادتكم كلها، أنتم يا أكبر الحكماء، تلك إرادة القوة لديكم. ومن أجل هذا تتحدثون عن الخير والشر وعن تقويم القيم..أنكم بقيمكم وبأقوالكم في الخير والشر، إنما تمارسون قوتكم أنتم يا من تُقومون القيم. وهذا هو حبكم الخفي وشعوركم الذي تفيض به نفوسكم.
ومنظومة قيم الخير والشر في التعبير الأدبي، ليس لها علاقة بالتطور (المحدث) للالتزام الفكري (الطبقي) بالأدب كونها تستند إلى مفاهيم متافيزيقية. فهنالك العديد من الفلاسفة والمفكرين ذات المنشأ الثقافي-الكنسي ومن أبناء الطبقة الراقية في المجتمع من هاجم الدين والدولة، وأخذ على عاتقه تعرية منظومة قيم الشر التي استخدمتها الكنيسة في مساندة الحكام ضد العامة من الناس انطلاقاً من محاباة الخير ومكافحة الشر. ويستهزئ ((وليم بليك)) بقيم الدولة والدين بقوله: تبنى السجون بحجارة القوانين، وتبنى المواخير بحجارة الدين.
إذاً الالتزام الأدبي في هذا المحور اتخذ معاييره من القيم الميتافيزقية في التعبير عن الالتزام، فالنص الأدبي الذي يدافع عن قيم الخير يعد نصاً أدبياً ملتزماً وبالضد من ذلك فأن النص الأدبي غير الملتزم يغرف من قيم الشر معطياته.
2-الالتزام الأدبي الفكري:
هذا المحور يسقط منظومة فكرية محددة على النص الأدبي ليتم تحديد تطابقها الفكري، فأن تطابقت فكرياً معه أصبح النص الأدبي ملتزماً وأن اختلفت معه وصم بعدم الالتزام. وكما أشرنا في المقدمة إلى أن هذا النهج هو من نتاج الحرب الباردة بين القطبين (الصراع بين العالمين الرأسمالي والاشتراكي).
وعليه فأن الأيديولوجيا أصبحت هي المحددة للنص الأدبي الملتزم من غير الملتزم، ويجد ((فاضل ثامر)) بأن النص الأدبي هو نتاج يحمل وشم العصر وطابعه وأحاسيسه، وأن هذا النص يحمل بالضرورة بصورة مباشرة أو غير مباشرة جذراً أيديولوجياً محدداً.
وأجد أن هذا النهج (الأيديولوجي) لتقيم الأدب الملتزم من غير الملتزم قد أساء للأدب نفسه، وأخضعه لمعيار (زائف) ومحدد وملزم ولا يمت بصلة إلى الأدب ومنظومة القيم الميتافيزقية.
ويجد ((سارتر)) بأن (الالتزام) في الأدب الملتزم ينبغي أن لا ينسينا (الأدب) في أي حال من الأحوال، وبأن شاغلنا يجب أن يكون خدمة الأدب بزرقه بدم جديد، وفي الوقت نفسه خدمة الجماعة بمحاولة منحها الأدب الذي يلائمها.
وهذه (البدعة) الذي فرضها الفكر الماركسي على الأدب من خلال ترويجه لمفهوم الأدب الملتزم وضرورة تطابقه مع النهج الماركسي انتهت مع انتهاء مرحلة الحرب الباردة وهزيمة المنظومة الفكرية الماركسية ذاتها، فضلاً عن ذلك أباحت النظرية الماركسية لنفسها الحق في اعتماد منهجها في تقييم الظواهر الاجتماعية وملحقاتها من خلال إسقاط معاييرها الفكرية على أي ظاهرة بما فيها الأدب والفن من أجل التقييم والتصنيف.
ويجد ((عبد السلام العالي)) بأن الماركسية كانت تقدم نفسها منهجاً قادراً على تفسير الأدب والفنون (المسرح والقصة والشعر) فضلاً عن السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية، بل كانت ترى في (أفعالنا العادية) اختياراً سياسياً ولا يمكن للمرء (وربما للتاريخ) أن ينسى ما تمخض عن هذا من مبالغات وتبسيطات بل جنايات وخلط بين المستويات والقيم. كان يكفي أن تنعت ((بتهوفن)) أو ((شكسبير)) بنعت من النعوت (السياسية) لتنتزع عن أعماله كل قيمة، وتُبطل مفعوله الغني والتاريخي.
ويمكن ملاحظة هذا النهج القسري بوضوح مفروضاً على الأدب العراقي، فهناك العديد من الشعراء والكتاب والمثقفين لا يستحق وفقاً للمعايير الأدبية أن يكون شاعراً أو أديباً أو مثقفاً. لكن يجيز السلم الماركسي تسلق هذه العينات (الطارئة) لتجد نفسها (بغير وجه حق) في المقدمة بالرغم من أن هناك العديد من المبدعين من شعراء ومثقفين من يفوق إنتاجهم الأدبي وفقاً للمعايير الأدبية نتاج ذاك (المتسلق) وهم لا يجدون (ولا يحبذون) تسلق السلالم الفكرية للترويج لنتاجاتهم الأدبية.
لذا يتطلب الأمر، إعادة تقييم النتاجات الأدبية لبعض الأدباء العراقيين، بغية أنصاف الأدب والأدباء وبالتالي إعادة ترتيب قوائم التسلسل للأدباء والشعراء العراقيين إنصافاً للحقيقة ولمعايير الأدب!!. وأخيراً، يمكننا القول بأن هذا المحور لتقيم الأدب الملتزم من غير الملتزم أثبت فشله وبطلانه وهزيمته وفقاً للمعايير الأدبية.
3-الالتزام الأدبي النقدي:
هناك معايير للنقاد لتقييم النص الأدبي منها ما يتعلق بالتقنية واللغة وتماسك النص ومواصفات أكاديمية أخرى، ومنها ما يتعلق بالالتزام والأصالة والجمال والمواقف الشخصية..وغيرها. لذا (يمكننا) القول لا توجد معايير ثابتة بهذا الاتجاه باستثناء الجانب الأكاديمي للنقد الأدبي الذي يتقيد بشروط النقد التقنية.
إما مقاييس الجودة وعدم الجودة للنص الأدبي، فإنها هي الأخرى لا تخضع لقواعد محددة وإنما تتعلق بتجربة الأديب وبقدرته على عكس الظواهر الاجتماعية بشكل صحيح.
ويجد ((أفلاطون)) أن أساس كل عمل جيد وخالد في الأدب هو الإخلاص التام من الفرد لنفسه، والإخلاص التام منه لتجربته الخاصة في الحياة.
في حين هناك من يجد أن الأدب الجيد هو الذي يعبر بصراحة عن الحقيقة، والأديب الجيد هو من يعبر عن شعوره بصدق وأمانة. وينتصر لهذا الرأي ((أحمد أمين)) بقوله: الأديب الحق هو الذي يتكلم بصراحة عن نفسه وعن شعوره وتجاربه، وربما نجد أديباً أقوى في الطبيعة وأوسع ثقافة وأكمل في الفن ولكنه أقل صراحة. وسواء كانت تجارب الأديب صغيرة أو كبيرة فيجب أن تكون هي محور أدبه وأن يهتم بها وأن يصف بصدق وأمانة ما عاشه وما رآه وما أشترك فيه وأحس به.
وهناك من يضع مقياساً أخراً لتقييم الأدب ويعبر عنه بالأصالة وعدم الأصالة، وهذا الاصطلاح أكثر شيوعاً في الفن منه في الأدب. كما أنه لا يجد قبولاً لدى البعض الأخر، حيث يعبر ((يبورا روت)) عن ذلك بقوله: الأصالة مفهوم خادع، بسبب الطريقة التي يمكن التلاعب في هذا المفهوم واستخدامه لإقناع الناس بأنهم يحصلون على شيء يتسم بالعمق، بينما لا يتلقون سوى سلعة من السلع.
ويبقى أن نشير إلى أن وظيفة الأديب ليست كوظيفة رجل الدين في إسداء الوعاظ للعامة ولا كوظيفة الشرطي في الكشف عن الحقائق لإثبات الجريمة، وإنما وظيفته استخدام تلك الحقائق وتسليط الضوء على جوانبها غير المضيئة للاستفادة منها في إصلاح مواطن الخلل في العلاقات الاجتماعية.
ويجد ((أحمد أمين)) بأن وظيفة الأدب ليست بكشف الحقائق، وإنما الانتفاع بالحقائق المعروفة وإثارة عواطف الناس بها وجعلهم يشعرون بها أكثر مما كانوا يشعرون من قبل.
في حين يطالب ((منير البعلبكي)) بأن تكون وظيفة الأدب معالجة المشكلات الأساسية والملحة للمجتمع، وتصوير الواقع المعتم تصويراً يكشف عن مواطن الخلل فيه، ويهيب بنا إلى إصلاحه.
وهكذا نجد هناك تعدداً للآراء والتوجهات للنقاد لتصنيف الأدب وتقيمه، ويبقى مفهوم الالتزام وعدم الالتزام للنص الأدبي (حمال أوجه) يمكن استخدامه للإشادة أو الإساءة للنص الأدبي.
ستوكهولم بتاريخ 4/12/200.