جواد حمدي غرايبه
الحوار المتمدن-العدد: 2171 - 2008 / 1 / 25 - 08:22
المحور:
الادب والفن
حدثني ابن رشد قال:
خلت نفسي عدت للحياة من جديد، لهذا العصر التقني العنيد، في بلاد مليئة بالغرائب المفاجآت، التي تقلب الرؤؤس وتزيد الآهات، إذ أصيح العالم دولا كثيرة، تتسابق في صناعاتها المثيرة، باختراع جديد اسمه الكهرباء،الذي نشر النور والضياء، ففكرت بهذا الانقلاب العظيم، وبدأت أقارنه بعالمي القديم.
رحت أسير في مدينة عظيمة، بناياتها عالية وشوارعها سوداء مستقيمة، بقيت أمشي وكلي استغراب، مما أرى حولي بخوف و ارتياب، وأسأل نفسي أين أنت الآن يا ابن رشد؟ ومن هؤلاء الذين يعيشون الآن حولك في هذا العهد؟ فهذه البلاد ليست بلادي، ولغتهم ليست بلغة أولادي، ولكني تجرأت وسألت أحد الناس، هل لك أن تحررني مما أعيشه من لبس وباس؟ فنظر إليّ باندهاش، مستغربا مما ألبس وكيف أعتاش، فسألني بلغته الأعجمية سؤالين: هو آر يو؟ وَت دو يو وَنت؟ فقلت لنفسي: الآن بدأت آلامي، فهذا المخلوق لن يفهم كلامي، وخلال هذا الحوار، مرَّ بقربنا شخص ساقته إليَّ الأقدار، وسألني بلغتي: من أنت أيها الشيخ الجليل؟ فانشرح صدري لهذا الإنسان النبيل، فتركت ذلك الأعجمي، وتحدثت مع هذا الآدمي، الذي استقبلني بكل ترحيب، وبعث في نفسي الراحة والترغيب، لأسأله عن كل غريب، فقطع عليَّ تفكيري معيدا عليّ السؤال: لم تجبني يا ذا القدر والإجلال. فقلت: أنا ابن رشد العالم القانت، فقاطعني قائلا: صاحب كتاب تهافت التهافت، فقلت: نعم يا بني فهل عرفتني؟ متمنيك عن أسئلتي أن تجيبني، فقال : حياك الله يا أستاذنا، فأنت ممن أناروا الطريق أمامنا،فاسألني وأنا لك مجيب ، عما يدور في ذهنك اللبيب، فقلت : عرّفني بنفسك الآن ، وماذا تفعل في هذا المكان؟
فقال مستغربا : ألا تعرف هذه البلاد؟ يا معلم البشر والعباد؟ فقلت: دعك من هذا التبجيل ، وأجبني بالتحليل والتفصيل، فقال : اسمي محمد بن يعرب، أتيت من بلاد المغرب، لأكمل دراستي العليا، في هذه الدولة الكبرى، التي تسود العالم بقوتها العسكرية، وصناعاتها التكنولوجية والتدميرية، وأنت الآن تقف أمام هيئة الأمم المتحدة، في مدينة نيويورك المتجددة، باتساع مساحتها وارتفاع المباني، على مر الأوقات والأزمان، وفي هذا المبنى العريق، يصنعون الفرج أو الضيق، فالفرج لمن يسير في ركبهم، والضيق لمن يقف ضدهم أو يعاندهم، فاستغربت من هذه المقالة، طالبا منه شرح هذه الحالة، فبلع ابن يعرب ريقه، مما أشعرني أن الإنسان العربي قد أضاع طريقه، فقال ابن يعرب متمنيا: ليتنا نعود يا ابن رشد لعهدك المضيء، الذي اتّصف به الإنسان العربي بالحر الجريء، فقاطعته قائلا: دعك من هذا وذاك، واخبرني ما اسم تلك الآلات الني تسير هنا وهناك؟ فقال: هذه الآلات نسميها السيارات، التي وفّرت على الناس وقتهم في قطع المسافات.
ثم توقف ابن يعرب عما كان عنه يتكلم، حتى شعرت أنه يتألم، فربتّ على كتفه الأيسر، لأهدّئه وأفهم منه أكثر وأكثر، حتى خاطبني قائلا: والله تمنيت يا ابن رشد لو قابلتك في دولة عربية، لتدرك كم هي التغيرات الحضارية، وتقارن بين حضارة الإسلام المثالية، وحضارة هؤلاء المتّسمة بالأنانية، الذين حرمونا من التقدم والإبداع، وهجّروا لبلادهم العلماء منا والصّنّاع، فتفوقوا علينا وأبقونا في القاع، وأنهوا رحلة الشتاء والصيف، وبدّلوا أسلحة الرمح والسهم والسيف، وصنعوا التلفاز والمذياع والحاسوب، لتعرف أخبار العالم بلحظات فتكون عنها غير محجوب، وجعلوا العالم قرية صغيرة، عبر الانترنت والفضائيات الكثيرة، فقاطعته قائلا: وما هما الانترنت والفضائيات؟وما تأثيرهما في المجتمعات؟ فابتسم ابن يعرب وقال : إنه تأثير رهيب ، وفيهما الشيء العجيب، تأثير .
رهيب في ا لايجابيات ، وآخر رهيب في السلبيات، ولا أدري كيف أوصل لك المعلومة، ومعلوماتك بها أصلا معدومة، فهناك صناعات هائلة، مما يصعّب على ابن رشد المقارنة والمقابلة، ولا أخفيك يا شيخنا، أننا أمامهم كعرب ومسلمين قد فقدنا شموخنا، فالقوي الآن يقهر الضعيف، ولم يعد للضعفاء عندهم تصنيف، إلا بما تملك أراضيهم من ثروات، ويتسابقون على سلبها ما استطاعوا من قدرات، فقلت مقاطعا: توقف، توقف يا بني عما تسمعني، فهذا الحديث يؤلمني، فإنك بهذا الحديث مزقت قلبي، ولم أعد بهذه المتاهات أعرف دربي، فكيف كنا وكيف صرنا!! ألهذا الحد بعيون العالم صغرنا؟
فأجابني ابن يعرب متألما: أنت لم تدر يا ابن رشد ما جرى في فلسطين والعراق، ولو علمت لضاقت بك الآفاق، من هذا الوضع المتردي، ومما يفرضه مجلس الأمن المتحدّي، لكل الحقوق الإنسانية، بشتى الاتهامات الجنونية، فقاطعته قائلا: توقف يا ابن يعرب، فقد مزقتني شرّ تمزيق، مما وصل إليه العرب بالتباعد والتفريق، فما الذي جرى في العراق وبلاد الأقصى، اللذين لا تعدّ خيراتهما ولا تحصى؟
فقال ابن يعرب بألم شديد : اقتطع بنو الأصفر قلب الوطن العربي قسرا، ومنحوه لليهود زارعين فيه خنجرا، وسكنوا فلسطين مدعومين، بهيمنة الغرب المتقدمين المتسلحين، الذين استعمرونا لوقت طويل، فمنعوا العلم وزرعوا التجهيل، ثم جاء دور بلاد الرافدين، التي احتلها هؤلاء الأمريكان بالسلاح والمال والبين، وبثوا فيها سموم الديمقراطية، قاصدين إشعال حرب طائفية.
فقلت: كفى ، كفى، لا أطيق سماع ما أسمع، فعقلي الآن مفجع، بما تورثونه لأبنائكم، وأسأل الله أن يسدد خطاكم ويجيب كلّ دعائكم، فقد جعلتموني بخيالي عائدا للحياة نادما، إذ توقعت أن الفتح ما زال قائما، لنشر رسالة الدين السمح، لكيلا يبقى في الدنيا ظلم أو جرح، فقاطعني ابن يعرب منهيا حديثنا إذ قال : ليتك يا ابن رشد لم تعد للحياة، وبقيت فخورا بما عشته قبل الممات، فنحن الآن نأكل مما لا نزرع، ونلبس مما لا نصنع .
#جواد_حمدي_غرايبه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟