كبرتُ في نظر نفسي حينما استدعاني أبي ذات ليلة باردة موحشة كانت الريح فيها تعبث بالاشجار بقسوة، حدق في عيوني بصمت حائر مثل انسان فقد القدرة على الكلام فجأة ..لكنه استطاع اخيراً بعد جهد ان يهمس بأنفاس متقطعة:
-امكَ رحلتْ..ولن تراها بعد اليوم.
يومها فقط أدركت معنى الرحيل الى الابد ..وعندها سمح لي أن اقبل جبين أمي ويداها وأن أركع أمام نعشها بصمت ..وكانت هي مغمضة العينين مطبقة الثغر.
ماكنت أحسب أنكِ سوف تمضين هكذا ولا يبقى منك سوى طيف أبتسامتك يتأرجح في الفضاء الواسع المنتشر امام بصري وخيالى وأن يتوغل صدى كلماتك في أعماقي ..ما أقسى رحيلك انت الاخرى ياناني بعد رحيل أمي ...حينما اجبروا عائلتك وطفولتك معا لمغادرة الوطن دونما جريمة او ذنب....ناني ياحلوة العينين والثغر.
في الثلاثين من عمري تزوجت من فتاة طيبة من بلاد الجليد وكنت أداعبها بين الاحين والاخر بسؤالي الازلي :
هل تعلمين من تكون ناني؟
- نو مي بي يور غيرلفرند!!
- كلا
أنها الطفلة البريئة التى لا تكبر أبدا في ذاكرتي ..انها ناني حلوة العينين والثغر.
وتمر سنوات طويلة ، في هذه المسافة ياناني أصير أباً لأربعة أطفال يكبرون ..شباب يمرحون..تشيخ زوجتى ، يملأ البياض شعرها..أبني الكبير يدخن ..أتذكر أول سيجارة دخنتها عندما علمت أنك سوف ترحلين ..أبنتي في الثامنة عشر من عمرها ..تسمع الاغاني وتطالع قصص الحب ..أصغر أطفالي يعبث بكتبي وأوراقي ومذكراتي بلا أدنى مبالاة..ينثر تارخ ذكرياتي معك..
ربما الأن يروننى أنسان ثقيل الحركة سيما وأنني عجوز مقعد ..أنهم ياناني لا يعرفون الطفل الذى في داخلي..الطفل الذى أعتاد أن يراك دوماً..
انهم لايعرفون كم أنا أهواك منذ تلك الطفولة المشتركة بيننا وأنت لاتزالين ناني التى لا تهرم ولا تهزم في ذاكرتي ..
أنت لا ولن تكبري ياناني ..لن تذبل رموشك ولا ابتسامتك ..ساكتب لك ياناني .. لا أعلم اين انت الان ..لكنى ساكتب فوق مغلف الرسالة :" الى ناني حلوة العينين والثغر – في بغداد مدينتنا الجميلة - في زقاقنا القديم الوارف الاشجار "
ربما العالم كله يعرفكِ
ربما يعرفك أيتها الطفلة التى لم تزل هناك
تعالى ياناني نعدو ..نتسابق ..نطرق الابواب ونهرب ..
تعالى ياناني ..لن يرانا أحد
تعالي ياناني ياحلوة العينين والثغر.