غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2169 - 2008 / 1 / 23 - 08:58
المحور:
الادب والفن
غريب عسقلاني - حكايات في واقع الحال - 1 -
1 - صبيان الشهبندر
أتت الرياح على غير ما توقع الناس, ورست على الشاطئ مراكب تجار قدموا ببضائع جديدة, امتلك تجار المراكب السوق, وعرضوا الغريب العجيب مما جلبوا, وبخبرتهم بالأسواق البعيدة سحبوا أقدام وعيون الزبائن, وازدحمت حوانيتهم بالمتفرجين والمشترين ومروجي الدعاية..راجت بضائعهم وأصبح ما عداها لا يليق, ما طرد كبار التجار وزعزع مركز الشهبندر في السوق.
اعتصم الشهبندر بخبرته الغنية, وأخذ يراقب ما استجد من أموال وأحوال, يتضرع إلى الله, ويطمئن صبيانه الثلاثة, "فدوام الحال من المحال" وعادات الناس سرعان ما تستقيم وتعود إلى سابق عهدها, بعد أن يكتشفوا مجافاة البضائع الجديدة لأذواقهم التي تكرست على مدى الأزمان. لكن صبيان الشهبندر كانوا في واد آخر, يحلمون بامتلاك الوقت والقفز إلى ملاعب التجارة الجديدة, فانفلتوا بخبرتهم وجرأتهم, إلا أن تجار البحر ردوهم, ورفضوا تزويدهم بالبضائع, وهزءوا منهم, واعتبروهم عيونا للشهبندر.
أيقن الصبيان أن لا مستقبل لهم في السوق الجديد, تشاوروا, اختلفوا, اتفقوا, تفرقوا, وفي نهاية المطاف ذهبوا إلى البحر فوقعوا على الأصداف الفارغة التي ماتت عنها حيوانات البحر الرخوة, استحضروا خبرات الشهبندر وما تعلموه من ألاعيبه في سالف الأيام. قال أصغرهم:
- أُغلف الأصداف بورق السلوفان وأعرضها آثارا غابرة على السياح ومحدثي النعمة.
وقال أوسطهم:
- أنقعها في الماء حتى يأسن, وأعبئ منقوعها في زجاجات بلورية, وأسوقه دواءً للعقم والفحولة.
وقال أكبرهم:
- أما أنا فأسحقها وأصنع منها مراهم لعلل الجلد, ولا بأس لو تداولتها نساء تجار المراكب لشد جلد الوجه و..
ومع الفجر عرضوا بضائعهم على ثلاثة بسطات عند بوابة السوق, وقبل أن يشتد الزحام كان صبيان جدد يرفعون يافطة على واجهة محلات الشهبندر, تعلن عن إفتتاح سوبر ماركت الشهبندر, وكيل ومبي وماكدونالد ومكسيم و..
بقي الصبيان ينادون على بضائعهم يتصيدون فقراء وأغرار الزبائن, ومرت الأيام ولم يستدرجوا أي من زبائن الشهبندر, ولا من زبائن تجار المراكب.
-------
2 - خطيبة الباشا
حدثتني جدتي عن مغامرات صباها وصفاء أحلامها, قالت:
خطبوني لابن الباشا الذي كانوا ينتظرون عودته, فانتظرت أّودع النهارات وأسهر مع النجوم,وانقطعت عن المراعي والحقول, أتجمل للقاء العريس, أجمع نوّار اللوز والعنّاب, أشك عناقيد الفل والمنثور وأفرطها مع أزرار الليمون والبرتقال وبعض الشيح والنعناع, أصنع منها عجينة أُدلك بها جسدي, وأشد جلد وجهي, أبعد عن عينيَّ الذبول, وبقيتُ الأبهى بين الصبايا, ورحتُ بين الناس مثلا.
مضى عشرون حولا ويزيد, تزوجت خلالها بنات جيلي وأنجبن صبيانا وبنات, وصرن جدات يتغزلن بأمومة ثانية حول أسرة الأحفاد, وأنا باقية على نضارتي وبكارة روحي, فتجاوز الناس عن يوم مولدي, فأنا عروس لا تنال منها الأيام, حتى جاء يوم وقفت فيه القرية على ساق واحدة, ونشطت رفيقاتي وبناتهن وحفيداتهن يطفن على الحقول وحدائق الدور يجمعن البراعم والورود الجورية التي أُحب.
دقت الطبول ووقفتُ تلف جيدي عناقيد الريحان والنعناع, وتغطيني الأزهار, كنتُ عارية إلا من ثوب الورد
***
توسط العريس الموكب محاطا بأبي وأعمامي وأخوالي, وعندما اقتربوا انحنوا ودفعوه إليَّ, سألته:
- أنتَ الباشا؟
وتخطته عيني إلى شبان الحي, الذين يهزجون ويطلقون البارود, داعبتني الأغاني, وتفتحت براعم على جلدي, تسربت جذورها إلى مساماتي ومضت عميقا في طبقات جسدي, انتشرت فيَّ حتى لامست روحي, فأصبحتُ حديقة وعاشرني الأريج حتى الذروة, سألته:
- هل تراقصني؟
- ليس أمام هؤلاء.
- هل تحرث الأرض؟
- أعرف كيف أسوط الأُجراء
وضعت في كفه باقة فل..قلتُ:
- هل تعرف هذه البراعم؟
- أمن حقول أبي جئتِ بها؟
ترعرعت حديقتي, وتشابكت جذورها وفروعها, ولم يعد عريسي يرى جلد بطني, ولا عرف الدروب إلى كهوفي..تاه عن جداولي وجدائلي, فيما شبان الحي يصهلون ويصدحون..
رفيقة صباي وضعت حفيدها على صدري هتفت:
- عَمّدي حفيدي يا عروس
هدهدتُ الرضيع ناغيته.. نام على ابتسامة خرجت من ثغره, صارت وردة جورية هبطت على الأرض بيني وبين الباشا, حاول اقتلاعها كانت قد ضربت في الأرض جذورها وانتصبت شجرة عفية تتفتح براعمها بشوق, قلتُ:
- هل رأيت كيف تفتحت عيون الطفل؟
حاصروني.. أبي وإخوتي وأخوالي وأعمامي:
- ما الأمر! خذي يد عريسك الباشا..
- كنتُ أظن أن الباشا...
صمتت جدتي, وأخذت تقرأ الأسئلة على وجهي, قرصتني وقالت:
- وصحوت من الحلم الجميل يا فتى.
ومضت تدق الأرض بمعولها الصغير, تهيئ مرقدا لبذور الورد في ظل نخلة الدار..
***
عندما تنمو البذور وتدفع قشرة التربة, تناجي جدتي هامة النخلة حيث تغفو زغاليل طائر الخُضير بانتظار تفتح الورد.
---------
3 - ولد وبنت
في العاشرة أتقنت أعمال الغسيل والجلي والكناسة, وفي الثانية عشر تعلمت الطبخ, وتغاضت أمها عندما ضبطتها تسترق السمع لأحاديث النساء, وما أن أصبحت في الرابعة عشرة حتى وشوشت الأم الأب, وبعد أسبوع كانت البنت مخطوبة لابن الحلال, الذي ينتظر الحصول على الهوية بعد أيام.
وبعد عام من الزفة شوهدت البنت تحمل بنتا, يسير إلى جانبها الولد الذي لم يجد عملا بعد, ولأن الوقت شحيح زاد طفر الزوج, وظهر ذلك جليا على لحم البنت, فهو يفش غله فيها على الفاضي والمليان, ولأنه عزيز على أمه, "ولأن للبيوت أسرارها" فلا بد من امتصاص الشكوى, وإرضاع طفلتها حليبا مسموما يزيد من عللها.
فاضت العلة بالمعلولة فانتقلت إلى بيت أبيها لتثبت لحماتها أنها ليست مقطوعة من شجرة.
في المساء همست الأم في أذن الأب, هز رأسه باهتمام قال:
- يعني حردانه؟!
- حردانه وعيّانه
- قِلة أكل في بيت جوزها
- الله أعلم
***
فحص الطبيب وشخص, حدق في وجه الأب طويلا, زفر ثم أرعد:
- الطفلة تعاني من سوء التغذية.
قالت الأم:
- حسبي الله ونعم الوكيل.
رد الطبيب:
- قلة أكل وقلة فهم,جسم البنت لم يكتمل ولم يتحمل الحمل, فتقرح الرحم وجاء الحليب قبل الميعاد شحيحا.
طال مكوث البنت, وطنّش الزوج وركبه العناد "اللي وصلّها لبيت أبوها يرجعها", ولأن أبو البنت مكسور الجناح, هادن ووسط جارا عزيزا وجاء الرد سلبيا, ولجأ الأب أمام أبغض الحلال "مثل ما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف"
وطلق الولد ثلاثا, وانطلقت أمه تجوب الحواري بحثا عن عروس جديدة, وتؤكد له:
- ولا يهمك أزوجك ست ستها.
وتهامست النساء "الراجل راجل..الحسره عليها طفله ومطلقه"
وتحررت البنت, وعادت إلى الحارة بين مربعات الحجلة ونط الحبل, ولكنها لم تعد إلى عرائس القماش مثل قريناتها, فطفلتها تذكرها أنها أصبحت أما, وفي يوم فاجأتها أمها بقرار التخلص من الصغيرة:
- غيرنا يخلف وإحنا نربي.. مصائب.
***
زاد همس عجائز الحارة حول البنت أم عين بيضاء, مطلقة ودايره مع البنات.. وصل الهمس إلى الأب فلطشها على باب وجهها, وأصدر أوامره بعدم خروجها من البيت إلا برفقة أمها..
وفي يوم طرق الباب الجار أبو العبد يطلب يدها لأبي حسن الذي ترمل, ولم يعد في الدار من يعيله, وتم الإيجاب والقبول وقراءة الفاتحة, وانتقلت العروس إلى بيت زوجها, بدون هيصة حفاظا على هيبة وشيبة العريس الذي أصبح قريبا ونسيبا, يقول لأبيها الذي في سن أولاده:
- يا عمي.
وفي البيت الجديد تعلمت عادات جديدة, ففي النهار تقضي وقتا طويلا في تمليس شاربه وصباغة شعره, وفي الليل تدلك قدميه, وتضع لزقة جنسون على لوح ظهره, وتغلي البابونج والنعناع لوقف الكحة واللهاث. ولكنها احتارت كيف تخاطبه, وهو الذي لا ينفك عن مناداتها: يا بنت هاتي, يا بنت خذي يا, بنت تعالي, يا بنت روحي, تنفذ صامتة حتى وقفت على حل وصارت ترد عليه:
- حاضر يا حاج
وفي يوم اصطحبت زوجها لزيارة أهلها, وعندما أخذت السهرة وقتها تنحنح:
- قومي يا بنت.
- حاضر يا حاج.
ضحك أبوها ومازح صهره:
- أحمد ربك من يوم ما أخذت البنت صرت حاجا.
***
" ما أخبارك يا ولد؟"
في السوق رأت ابنتها بصحبة طليقها الولد, حضنت الصغيرة, وقف الولد ملخوما, قال:
- طلقتُ زوجتي, وأنتِ
أشارت إلى بطنها, شهق..وتاهت الطفلة في الزحام.
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟