الوصية الموجهة إلى الهنود - (الأفغان) "Requerimiento "
يبدو أن فتح أفغانستان من قبل الأمريكان يذكر بفتح أمريكا من قبل الأسبان. ذلك أن المعنى اللاهوتي لفتح أمريكا، أو ما كان يسمى بـ "جزر الهند الغربية". بالنسبة لكولمبوس، كان الهدف منه تأمين ثروة كافية لجلالتهما (جلالة كل من ملك وملكة أسبانيا نهاية القرن الخامس عشر) في سبيل فتح بيت المقدس.
يكشف كولمبوس في يومياته عن أمله في العثور على الذهب "وبكميات كبيرة حتى يتسنى للملكين خلال ثلاث سنوات الاستعداد والاتجاه إلى الديار المقدسة [بيت المقدس في فلسطين] ". و يضيف كولمبوس: لهذا "فقد أعلنت لسموكما أن كل مغانم مشروعي هذه سوف تنفق على فتح القدس. وقد ابتسمتما يا صاحبي الجلالة وقلتما أن ذلك يسركما، وأنه حتى دون ذلك فإن لديكما تلك الرغبة القوية".
وهو كولومبوس يشير مرة أخرى إلى ذلك اللقاء فيما بعد بالقول: "عندما بدأتُ الاستعدادات لاكتشاف جزر الهند الغربية، كان ذلك بقصد مناشدة الملك والملكة، عاهلينا، اتخاذ قرار بإنفاق الموارد التي يمكن أن ترد إليهما من جزر الهند الغربية على فتح القدس. وهذا الشيء بالفعل هو ما طلبته منهما. " (رسالة كولمبوس المؤرخة في 22/2/1498 ) [راجع، تودوروف: "فتح أمريكا- مسألة الآخر، ترجمة بشير السباعي، سينا للنشر الطبعة الأولى 1992"].
ويذكّر فرديناند وإيزابيلا كولمبوس بذلك في رسالة يرسلانها له بعد الاكتشاف يقولان فيها: "إن ما كنت قد أعلنته لنا قد تحقق كما لو أنك قد رأيته قبل أن تحدثنا عنه." (رسالة بتاريخ 16/8/1494).
وبعد الاكتشاف يُرجع كولمبوس نفسه اكتشافه لأمريكا إلى هذه المعرفة القبلية، والتي يطابق بينها وبين المشيئة الإلهية والنبوءات (والتي حرّفها تماماً، في الواقع، لكي تسير في هذا الاتجاه): "لقد قلت بالفعل (والقول لكولمبوس) إنه لا يلزمني لتنفيذ مشروع جزر الهند الغربية لا العقل ولا علم الرياضيات ولا خريطة العالم، فالأمر ليس أكثر من تحقيق ما كان أشعياء قد تنبأ به" (كتاب النبوءات 1501) [راجع فتح أمريكا ص29].
هذه هي غاية مشروع كولمبوس من فتح أمريكا حسب زعمه. والرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن يزعم أيضاً بأن له غايات لاهوتية نبيلة مماثلة. فهو يقوم بعملية فتح لـ "جزر الهند الأفغانية" وذلك لكي يتاجر بنفط قزوين ولكي ينشط اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية القائم على العسكرة. ومن الريع الضخم الناتج من ثروة الذهب الأسود سوف يعود ليمول حملة صليبية جديدة لفتح بيت المقدس. لكن هذه المرة ليس لتحرير المدينة من السيطرة الإسلامية، بل لفتح ثغرة في النفق التاريخي الذي تمر به دولة إسرائيل. وهو بهذا يحقق ما وعدت به نبوءات التوراة "الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلاً: كفاكم قعود في هذا الجبل . تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعانيّ ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. أنظر قد جعلت أمامكم الأرض. أدخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم." [الكتاب المقدس، التثنية، الإصحاح الأول (6-8)]. وهو-جورج بوش الابن - مثله مثل كولمبوس لم يحقق تلك النبوءات بواسطة الرياضيات والحواسيب المتقدمة والقاذفات المتطورة وآخر طرز التقنية. بل إن كل إنجازات التقنية والعلم هذه لم تكن سوى تحقيق نبوءات التوراة. والنبوءة هذه المرة لها شكلها الاقتصادي /السياسي، قالها بوخارين بداية القرن العشرين . تقول النبوءة البوخارينية :"الدولة الحديثة هي صاحبة حصة كبيرة جداً في تروست الدولة/ الشركة الرأسمالية (هذه الدولة الرأسمالية الاحتكارية) هي الذروة المنظمة الأعلى والأكثر شمولية لهذا الأخير (التروست) . ومن هنا تأتي سلطتها الضخمة ... فقانون رأس المال المالي يتضمن كلاً من الإمبريالية والعسكرة . وبهذا المعنى، فإن العسكرة لا تقل عن رأس المال المالي ، في كونها ظاهرة تاريخية نموذجية." [راجع ، نيقولاي بوخارين "الإمبريالية والاقتصاد العالمي"ترجمة رجاء أحمد ، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي 1990] . لقد بات الاقتصاد الأمريكي بحاجة لحروب متواصلة لكي تعمل الشركات العملاقة في إنتاج الأسلحة والمعدات الحربية، ولتعمل قاطرة للاقتصاد الأريكي برمته.
وفي سعيه نحو الشرق لفتح ثغرة في النفق التاريخي لدولة إسرائيل يتسلح الرئيس الأمريكي بنزعة إنسانية لاهوتية شبيهة بنزعة اللاهوتي والحقوقي الإسباني فرانشيسكو دي بيتوريا أحد قمم النزعة الإنسانية الإسبانية في القرن السادس عشر والأستاذ في جامعة سالامانكا وقتها، وصاحب مبدأ التبادلية. يقول مبدأ التبادلية لـ بيتوريا: "إن الأمراء الهنود لا يمكنهم منع رعاياهم من ممارسة التجارة مع الأسبان، بالمقابل لا يمكن للأمراء الأسبان حظر التجارة مع الهنود". أما فيما يتعلق بحركة الأفكار فإن بيتوريا لا يفكر على ما يبدو إلا في حرية الأسبان بالتبشير بالإنجيل بين الهنود، ولا يفكر البتة في حرية الهنود في نشر البوبولفوه في أسبانيا".[راجع فتح أمريكا ص 160].
فيما يتعلق بمجموعة أخرى من الأسباب طرحها فيتوريا لتبرير الحروب واعتبارها حروب عادلة فهو يرى في الواقع أن التدخل مباح إذا ما حدث دفاعاً عن الأبرياء ضد طغيان الزعماء أو القوانين المحلية، والذي يتمثل على سبيل المثال في تقديم الأشخاص الأبرياء قرابين أو حتى في قتل أشخاص غير مذنبين لأكلهم. ...والواقع أن بيتوريا لا يتستر على ذلك فمبرره الأخير للحرب ضد الهنود واضح تماماً في هذا الصدد حيث يكتب: "على الرغم من أن هؤلاء البرابرة ليسوا مجانين تماماً إلا أنهم ليسوا بعيدين عن الجنون..إنهم ليسوا قادرين أو لم يعودوا قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم شأنهم في ذلك شأن المجانين أو حتى البهائم المتوحشة والحيوانات، وذلك بالنظر إلى أن غذائهم ليس مستساغاً بدرجة أكثر من غذاء البهائم المتوحشة ويصعب أن يكون خيراً منه". [راجع فتح أمريكا ص 160-161].
ويضيف بيتوريا أن غباءهم أكبر بكثير من غباء الأطفال وغباء مجانين البلدان الأخرى ويسترجع بيتوريا المطالبة بحرية التجارة ..والسماح لكل فرد بالذهاب والسفر إلى جميع البلدان التي يريد.[فتح أمريكا ص160].
ها هو الرئيس الأمريكي بوش يسترجع حرية التجارة وحق الأفراد الأمريكيين في السفر إلى جميع البلدان دون عوائق. وهو يظهر نزعته الإنسانية العسكرية –حسب تعبير تشومسكي-تجاه شعب "الهند الأفغانية" وتجاه شعب العراق ويحكم عليهما ويتعامل معهما تماماً كما تحدث بيتوريا في القرن السادس عن شعب جزر الهند الغربية. فهؤلاء البرابرة الأفغان والعراقيين ليسوا قادرين على حكم أنفسهم وهو يتدخل إنسانياً ليرد طغيان زعمائهم ولمنع قتل أشخاص مدنيين غير مذنبين وليبشر بالإنجيل بين "الهنود الأفغان" وكان قد أرسل قبل الغزو "نصف دزينة" من المبشرين بـ"المسيحية الأمريكية" المهودة الذين اعتقلتهم طالبان. كل ذلك باسم الرب الإمبريالي وتحقيقاً لنبوءة بوخارين السابقة الذكر. والغاية اللاهوتية هي تحقيق نبوءة أشعياء وفتح نافذة في النفق الإسرائيلي التاريخي وذلك لفتح بيت المقدس من جديد. بالمقابل لا يحق للأفغاني ولا للعراقي التبشير بالإسلام، لكن من حق رجل الأعمال من كلا البلدين أن يؤمن بالتبادلية ، وأن يمارس حرية التجارة مع الشركات البترولية الأمريكية.
ومن الملفت أن يكون عام 1492 عام غزو أمريكا وفتحها من قبل الأسبان هو العام الذي شهد بالفعل التزامن المثير بين الانتصار على العرب في أسبانيا والنفي المفروض على اليهود من هذا البلد واكتشاف أمريكا. هذا العام هو أيضاً العام الذي سوف ينشر فيه أول كتاب عن نحو لغة أوربية حديثة وهو كتاب نحو اللغة الأسبانية الذي صنفه أنطونيو نيبريخا. "إن المعرفة النظرية باللغة إنما تشهد على موقف جديد وهو موقف لا يعود موقف تبجيل، بل هو موقف تحليل وإدراك لفائدتها العملية، وقد كتب نيبريخا في مقدمته هذه الكلمات الحاسمة:
"لقد كانت اللغة دائماً قرينة الإمبراطورية "[فتح أمريكا ص133]. وهاهي لغة الاستهلاك الأمريكي قرينة الإمبراطورية الجديدة.