آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 2161 - 2008 / 1 / 15 - 11:16
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
ساد الصمت, توقف لولبياً دافقاً, متناثراً على حفنات المكان العالق فينا. تناثرالزمن على هذا الخلاء الموحش, المندفع, ماسكاُ الفضاء المرمري بيديه, ليعجنه.
شددت أذني أن ينده الصمت, كي يتحرك ويمشي.
كنت بين ضفتين مقفرتين, كغيمة منسوجة من أشلاء الضباب الزاحف إلى رئة البراري الأيلة للغروب. هنا أخوة وأصدقاء ورفاق, وهناك درب مجلل بالترقب المختلس. اشهق وازفربصعوبة, أرقب ما يحدث في الأفق المعصوب. اللعبة المحكمة شدت الرحال إلى حيث العاصفة. بدأت التسلية تفصح عن حضورها. شيئ أشبه بالرقص الموجع حرك سنان الزوبعة عيرحراك الفراغ.
في البدء ساد هرج خفيف مكلل بحركة غيرموزونة, أتبعه مرج عالي وصاخب. راح قلبي يدق في قلبي واضعاً تساءلات كثيرة. ماذا يحدث في الباحة؟.
رحت أصغي إلى الهسيس المرتعش, دبيب يسري في شجون, أنفاس عالية تقطع نياط القلب من شدة الوجع. صوت صفعات, رفس وركل وركض, شتائم وسب يتبعها هدوء رمادي ساكن.
لم أفهم ماذا يحدث في الباحة, وبسرعة شديدة تسرب من يدي هارباً التفاءل الزائد الذي غزاني بدون مقدمات. قلت: هل يعقل أن يحدث في ديارنا نبض نظيف. منذ أن ولدت لم أسمع إلا مشاعرالجنون والخراب منثوراً فوق قامة وطني سوريا.
كومة من الصفعات تنزل على خدود المرضى, تهزالسماء كصدى موحش. شحذنا المكان بالهدوء, بالبرهة النائمة على الصفحة ذاتها لنعتصرالمعرفة القائمة خلف كواليس الباب, لنعرف ماذا يجري بين الجدران المسدودة المعلقة ما بين السماء والأرض. سكننا الغم واليأس المتفرق. شيئ يدعوا للدهشة والغرابة أن يجلد إنسان مريض كل مشكلته إنه خرج بناء على طلبهم. ثمانية رجال معتقلون, مرضى في الباحة, بين مجموعة من الشرطة والطبيب. استلقوا على الأرض بناء على أوامرهم, العصابة على أعينهم. عيونهم مغمضة لا يدرون ماذا يحدث لهم وحولهم. راح الطبيب الأفتراضي يفحصهم, يدس قدمه في, وبين ضلوعهم, على وجوههم, صدروهم وبطونهم وأفواههم ومؤخرتهم. يغرق قدمه في بطن الموجوع إلى درجة تهشيم مصارينه. لسان الطبيب أشد قذارة ونتانة من الشرطي العادي. تعفرت ثياب المرضى بأوساخ الباحة وتلونت وجوههم باللون الأحمرالمزرق من كثرة الضرب. قال أحد المرضى للطبيب أشعر بالمغص الشديد في بطني والكثير من الغازات التي تجعلني دائخا طوال الوقت مع وجع شديد في خاصرتي وصدري. بعد أن صفعه الطبيب والشرطة الذين معه قال:
ـ هل تريديني أن اسد طيزك يا منيك. وأضاف:
ـ انتم مدللون. هذا ليس مرضاً, هذا دلال. المريض الصحيح هو المصاب بالسرطان, بالشلل, بالجلطة, بالسل وغيرها من الأمراض المستعصية والمزمنة. إذا خرج أحدكم لمثل هذه الأمراض فالويل له. إلى المهجع بسرعة يا أولاد القحبة.
دخل المرضى ركضاً إلى المهجع. كان وجه الحزن مرسوماً على وجوههم الحزينة. كل شيئ يشيئ بالخوف من المستقبل. الماء البارد, الطعام البارد, المهجع كله بارد, الثياب قليلة ولا تفي بالحاجة. كيف السلبيل إلى مقاومة عاتيات الأيام القادمة. لقد أعترفوا على المريض المصاب بالسكري, المرحوم عبد الله قبارة. قالوا لي:
ـ رئيس المهجع. قلت بعد أن حييتهم بقدمي:
ـ حاضرة حضرة الرقيب أول. قال الطبيب:
ـ أكتب على الورق أسم الدواء الذي يتناوله الختيار, مريض السكري. هكذا سموا المرحوم عبد الله قبارة باسم الختيار لكثرة الشيب النابت في رأسه ودقنه. قلت:
ـ ليس لدينا قلم أوورق, كيف سنكتب حضرة الرقيب أول. قال:
ـ تعال إلى هنا. أنت كروحماروغبي ولا تفهم. قلتُ لك أكتب, يعني يجب أن تكتب. الاعتراض ممنوع. أغمض عينيك, وأرفع رأسك ووجهك إلى الأعلى يا أبن الزانية. راح يصفعني بكل قوة, مع كل صفعة أقع على الأرض من شدة وقوة الضربة. بعد أن أنتهى قال لي:
ـ أكتب على ورق الدخان. ثم يا أبن الشرمو.. لماذا تعلم عناصرمهجعك على الكذب. قلت:
ـ لم أعلمهم على الكذب حضرة الرقيب أول. قال:
ـ عندما أتكلم معك تقول حاضر حضرة الرقيب أول, ولا تعترض. عندما أقول لك أنك تعلمهم على الكذب ترد وتقول نعم يا حضرة الرقيب أول أعلمهم على الكذب. كان وجهي بين يديه يلعب به كما يلعب المرء بالصابون. مع كل كلمة يصفعني على وجهي وخدي ويتابع لعبه. ثم قال:
ـ لقد خرج من عندك ثمانية كذبة ولايوجد بينكم مريضاً حقيقياً. من الأن وصاعداً إذا علمنا أن أحدكم يكذب علينا لن تلوم إلا نفسك, هل فهمت قلت:
ـ حاضر حضرة الرقيب أول. أردف:
ـ أدخل إلى المهجع إلى أبن الوسخة. دخلت وشددت حبل الباب ورائي كما أمرني ثم قدمت الصف كتحية عسكرية لهم على أقترابهم أو أبتعادهم من الباب.
ساد الهدوء المغموس بالإرهاق والتعب, نحدق في الزخارف النافرة للجدران القديمة, في المجهول المتدحرج القادم إلى خيالنا. نرصف حلقات الأنفاس الصعبة الكامنة في دواخلنا. ننظر في عيون بعضنا, مجفلون, وجوهنا شاحبة مستدرجة إلى كيفية طحن الزمن القادم إلينا في هذا المكان الأعزل والنائي عن كل ناء, والعمل على هرسه من أجل مطاوعته وتطويعه لما تبقى منا من بقايا.
كان بيننا صحبة, رجال واعون, متفانون لدرجة نكران الذات. مستعدون على تقديم أنفسهم وأرواحهم إذا تطلب الأمر. قلوبهم بيضاء كشعاع الضوء في هذه الحيثيات المفروضة علينا. مدركون خطورة الطريق ووعورة الدرب التي نسيرعليها. يعرفون أنهم سيحملون الأيام القاسية على ظهورهم كما تحمل الصررالثقيلة إلى الضفة الأخرى. المكان خطير.. خطيرجداً.
لم يكن لدينا متسع من الوقت لليأس أوالاستسلام أو الخضوع لشروطهم القاسية والتافهة.
الثقة ببعضنا, بتأريخنا. هذا الشعورالمتداخل المسكوب بين أرواحنا هو الصخرة العظيمة التي نهض عليها بقائنا. هي حجرالزاوية التي حددت سمتنا نحو الأفق البعيد المزنر بالألوان البراقة الجميلة.
الثقة هي النبراس الذي خط مسار سيرنا ولم شمل وجودنا في محاولة رسم نشيد الحياة التي ابتغيناها.
ثقتهم بي, كإنسان وصديق وأخ, بإنني لن أخذلهم في هذه المحنة العصيبة, لن أعري ظهورهم وصدورهم أمام السجانون. هذه الثقة والصدق هي التي ربطتنا ببعضنا بقوة. كانوا يعرفون إنني لن أقبل التنازل أوالقبول بأي مباردة استرحام أوالخضوع لهذه السلطة الجائرة في تلك الأوقات. ليس مهماً عندما يخرج المرء من سجن تدمر ويوقع أولا يوقع, هذه مشكلته, لكن المهم أن لا أذهب إليهم بقدمي وأطلب منهم الاسترحام من أجل أن يشفقوا علي. أنا أعرف هذا النظام الساقط, عندما يمسك بتلابيب الذي يقع بين يديه من تلقاء نفسه, كيف يلوثوا كرامته ويعجنوا مصيره بين أنفاسهم الكريهة. أنه نظام مهزوم من أساسه, يعيش من أجل بقاءه, لهذا فإنه لا يحترم الضعفاء على الاطلاق, إنه لا يحترم إلا الأقوياء الذين يكسرون رأسه ويدوسوا على جمجمته. يحترم الذين يقفون في وجهه ويتحدوه. إنه نظام عاجز. أنظروا كيف يحترم أتفاقاته وتعهداته مع إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية.
كنا أمام وضع عصيب, زمن عاجز, إما أن نطحنه أو يطحننا.
زمننا مجنون.
كنت أكثرالأخوة في المهجع خوفاً على نفسي, قلقاً على مصيري الروحي والجسدي, لكني لم أكن مهزوماً من الداخل كما لم أقبل الهزيمة أو فكرت بها. التحف الماضي.. أتذكركل المناضلين في التأريخ عندما كان يشتد الضرب والجلد علينا. أحتمي بهم, بأرواحهم الساكنة معي في محنتي.. من سبارتكوس إلى السيد المسيح والرسول محمد إلى المناضل الفنزويلي سيمون بوليفاروكل من قدم روحه من أجل قناعته. كنت ألجأ إليهم من أجل أن أتوازن وأبقى على قدمي لكي لا أنهار وأضيع. وجود هؤلاء الناس الشجعان مدوني بطاقة قوية على البقاء.
أتذكر محنة أجدادي الأرمن, المآسي التي تعرضوا لها في بداية القرن العشرين عندما رحُلوا عن ديارهم وأوطانهم. الكثيرمنهم مات من التعب, والكثير الكثير مات من الجوع والعطش, والكثير قتل بدون رحمة أو شفقة دفاعاً عن موقفهم دون أن يدري بهم أحدٌ أو يعرف أين ماتوا أو دفنوا. هناك بشر, جنود مجهولون أوفياء لمواقفهم, لم يطلبوا شهادة حسن السلوك أو أعتراف من أي أنسان. كانت شهادتهم من قلوبهم.
كانت تأتيني صورة بسام حمزة ومصطفى الشيخ حسن ومحمد حمامة ومحمد نحلوس ونزار موسى وغيرهم.. أطفال الشغب كما أطلقت السلطة عليهم هذا اللقب, هؤلاء الأطفال الذين عبروا هذا المكان الصعب, سجن تدمر, أطفال في الرابعة عشرة من العمر, تحملوا ستة أعوام أو أكثرفي هذا المكان وحملوا ثقله في قلوبهم ومضوا إلى الحياة.
نوعية الناس, وعيهم, تفانيهم مهم جداً في مثل هكذا محنة. أما وجود ناس ضعفاء, مهزوزون, يشوش ويدمرويخرب ويفكك العلاقات ويدفع الجميع كما يدفع نفسه للهزيمة. يظن البعض أن تقديم التنازل سيخفف من محنته. أريد أن أقول للواهمون الذين كانوا في السجن أو خارجه أن هذا النظام أمني بأمتيازولا يعرف لغة الحوارأوحقوق الغير. عندما يتنازل أحدهم خوفاً, أو لقناعة ما, إنهم سيخرجون من السجن فهذا خطأ جسيم, لأنهم يضرون بأنفسهم وماضيهم وتأريخهم النضالي. عندما نقول نظام أمني معنى هذا إننا ننفي عنه الصفة السياسية بالمطلق, ننزع عنه صفة السياسي. النظام الأمني, يعني الشرطي أوالبوليسي. هل سمعتم طوال التأريخ, أن الأنظمة الأمنية حاورت معارضاً أوقبلته أو أدخلته كشريك معها في القرارات السياسية. هل تعرف الشرطة لغة الحوار, هل سمعتم بذلك. ما أعرفه, أنهم يريدون تبع, اتباع يبصمون بالعشرة, ينكسون رؤوسهم تحت البسطار. أتمنى أن يعلم هؤلاء النبهاء أوالغفل في الداخل والخارج أن التميمة الصادرة منهم جاءت متاخرة جداً, لا تنفع أحداً ولا تصدر إلا عن أناس لها قدمان منكستان بالمصلحة الشخصية, واحدة في السلطة والأخرى في المعارضة وضررها على المعارضة أشد من السلطة عليها. /المصيبة الكبرى إن هؤلاء يزاودون على رجل مثل رياض الترك الذي أفنى حياته في السجن, في زنزانة منفردة مدة ثمانية عشرة سنة ويشهروا به أمام العالم ويشككوا به وبتأريخه. أتساءل من هنا هل يتحمل هؤلاء الصبية, الذين قضوا جلّ أيامهم على متن الطائرات وفي فنادق الخمس نجوم ومضافات مطاعمها, المعتاشون على أموال الشركات العملاقة ثلاثة أيام في الزنزانة التي عاش فيها هذا الرجل الصلب, ليجربوا. أتساءل مرة أخرى من أين تأتي تكاليف هذه الأموال, من الذي يغطي مصاريف مؤتمراتهم, سفراتهم بين الدول. هل المنظمات التي يمثلونها بريئة, خالية من الفاتورة السياسية. هل صارهؤلاء خائفون بين ليلة وضحاها على الوطن أكثر من رياض الترك, يا للعجب.. يا للعجب/.
قلت لأخوتي:
ـ ماذا نفعل, أريد رأيكم, مساعدتكم في كل شاردة وواردة, كيف سنكتب على هذا الورق, من أين لنا القلم. قال عمار رزق:
ـ لا تخف. سنجرب الأن كيف نكتب على الورق. أعرف أنهم لن يعطونا قلماً لكننا نستطيع أن نتدبرالأمر. كنت أرى أبتسامته اللطيفة, الواثقة من أنه يستطيع أن يتدبرالأمر. مضى مازن وعمريبحثان معه عن سبل الوصول للكتابة. أمسك عمارخشبة صغيرة قديمة مغروزة في الجدار, أشعل النار في رأسها بعد أن ذببها وراح يكتب على ورق السجائر. كانت الحروف كبيرة ومنفرة ولا تؤدي إلى النتيجة التي كنا نرغب بها. بعد أن سلمنا ورقة الدواء للشرطة أثناء التفقد مضى عمار في البحث عن ابتكار طريقة أخرى للكتابة. جلب أنبوبة معجون الأسنان, بلل رأسها من لعاب فمه وراح يكتب على ورقة السيجارة اسم الدواء الذي كان يتناوله سجيننا المرحوم عبد الله قبارة مع اسم المهجع مرة أخرى, ثم مزقها ورماها في الزبالة. فرحنا ورحنا نطير لهذا الأكتشاف الكبير. صار لدينا طريقة رائعة للكتابة والقراءة. لم تمض إلا بضعة شهورحتى مضى الكثير منا يكتب على هذه الأوراق قصائد من الذاكرة, خواطر تقرأ بيننا ثم تتلف وتمزق إلى قصاصات صغيرة جداً ترمى في المرحاض. قال لي الصديق راتب شعبو:
ـ الوقت طويل وميت. نريد أن نملئ هذا الفراغ بشيئ مفيد. قلت:
ـ بماذا تفكرون يا راتب. هل لديكم فكرة ما في رؤوسكم. قال:
ـ لقد أتفقنا مع بكر صدقي على تعلم اللغة التركية. قلت:
ـ التركية. هل هذه اللغة تستحق أن نجلد بسببها. أنها لغة ميتة, لا تعرضونا للمشاكل وتعرضوا غيركم للأذى. أنت تعرف المكان أكثرمن غيرك, أقل خطأ سيكونون لنا بالمرصاد. أنهم يجلدوننا بدون سبب, أما إذا توفر السبب فالمصيبة ستكون أكبر. قال:
ـ أكاد أنفجرمن هذا الوضع. أحس بالحاجة إلى قطع الوقت بشيئ مفيد. من الخطأ أن نسمح لهم أن يتحكموا بنا كما يريدون. علينا مطاوعة المكان وتدجينه قبل أن يدجننا. قلت:
ـ أنت وبكر؟ قال:
ـ معي آخرون, عمار رزق ومازن علي شمسين وتيسر حسون. قلت:
ـ جميعكم تريدون تعلم هذه اللغة. قال:
ـ أنت تعرف إنني تعلمت الانكليزية والفرنسية والالمانية والروسية. أحب أن أتعلم لغة جديدة, والتركية هي المتوفرة. لا يوجد كتب ومراجع. بكر يتقن هذه اللغة بشكل جيد لهذا نريد قطع الوقت بشيئ نستفيد منه.
راح القلم.. أنبوب معجون الأسنان يؤدي وظائفه على أفضل وجه.
بعد الضرب الصباحي, بعد إدخال الطعام الصباحي والمسائي, بعد الخلاص من التفقد, من وجوههم المقرفة والمباشرة, بعد أغلاق باب المهجع والباب الخارجي للباحة يجلس هؤلاء الأخوة في زاوية ميتة من المهجع المغلق. ينطلقوا في قتل الوقت المقتول, في محاولة التعلم. تعلم شيئ يمكن أن يقدم لهم شيئاً مفيداً.
بعد أشهر, وتحديداً في 18 آب من العام 1997 جاء الشرطي ونقرعلى الباب من الخارج وقال:
ـ جهزوا المهجع للنقل.
حملنا حوائجنا وسرنا كما طلبوا منا. أخذونا إلى الباحة الرابعة, المهجع الثالث. وقفنا تحت أشعة الشمس الحارقة. عرونا من ثيابنا كما ولدتنا أمهاتنا ثم راحوا يفتشوا كل شيء يمتد إلى أيديهم. بعد التفتيش أكتشف المساعد المسؤول عن كتل من الأوراق المكتوبة باللغة التركية, كما أكتشف قطع الشطرنج والفانيلة, الرقعة المفترضة, المخطط عليها المربعات . مسكني الشرطي وجرني من شعري وأخذني إلى المساعد المسؤول. قال لي:
ـ ما هذا يا رئيس المهجع. تتعلمون الأنكليزية. والله عال. لقد جلبناكم إلى هنا من أجل أن تتعلموا اللغات الاجنبية.. ثم ما هذا؟ كانت سبابته ترتفع وتمتد في وجهي ثم تنتقل إلى أوراق الشطرنج. قلت:
ـ هذه القطع للتسلية.. مجرد أوراق كانت مرمية على الأرض, أردنا أن نقتل الوقت بها, لقد قام أحدهم بثقبها بالإبرة من أجل مضيعة الوقت لا أكثر ولا أقل, لقد وعدني أن يتلفها. كان سيتلفها هذا المساء.. سنتلفها حضرة الرقيب أول. الحقيقة لم يفهم هذا الشرطي أن هذه القطع كانت من أجل اللعب بالشطرنج. لقد ركز كثيراً على أوراق الكتابة بالانكليزية, كما كان يقول. يبدو لقد استفزه أن يكون بيننا ناس تتعلم لغة أخرى. أنهم يكرهون المثقفين والمتعلمون لأنه يذكرهم بغبائهم وقصر ومحدودية عقولهم. لقد جلدوني بعد أن قلت إنني لا أعرف من كتبها, ومن تعلم أو لم يتعلم أو قام بهذا العمل. كما جلدوا مازن وبكر وراتب وتيسير. قال لي:
ـ يجب أن تعرف الشاردة والواردة في مهجعك. يجب أن تخبرنا عن كل مخالفة تحدث في مهجعك يا شرموط. قلت:
ـ حاضر حضرة الرقيب أول. مضت هذه الزوبعة المخيفة بأقل مما توقعت.
كل يوم نجلس على شكل مجموعات, كل مجموعة تمتد من أثنان إلى خمسة.. نقص على بعضنا القصص التراثية, الحكايات الخرافية.. نكات, حكايات كليلة ودمنة, ألف ليلة وليلة. زمن ميت يجب تقطيعه وشحنه بالمفيد وتبديد الوقت. كنت أغلب الاوقات أجلس تحت الشراقة على فراشي المكوم, في أنتظارالإشارات القادمة من الشرطة الذي على السطح.
كل أربعة أيام أتقدم منهم طالباً ماكنة حلاقة يدوية.. من أجل حلاقة شعرالرأس والدقن, مع كل طلب يغرقوني بالشتائم من كل الأطراف تتناول أبي وأمي وجميع خواتي وأقربائي مع بصق وشتائم. كثيرة هي المرات التي كانوا يبولون علي بينما أكون واقفاً تحت الشراقة أويمطروني بالبصاق حتى تسيل على وجهي وفمي.
إحدى المرات جاء الشرطي من الباحة ودق بالمفتاح على الباب بصوت خافت, لم أسمع رغم إنني كنت قريباً منه. أعاد الدق بقوة أشد. ركضت نحو الصوت بسرعة هائلة وقلت حاضر حضرة الرقيب أول. همس بضعة كلمات, لكني لم أسمع كلمات هذا الشرطي اللعين. تطوع الأخ والصديق عمرالحايك من أجل معرفة ماذا تحدث الشرطي. أقترب من الباب واضعاً أذنه بموازاة الباب وقال هوالآخرحاضر حضرة الرقيب أول. لم يسمع عمر أيضاً. قال الشرطي علموا أنفسكم. رحنا ننظر في وجوه بعضنا حائرون ماذا نفعل.
قبل دقائق من الحادثة كان قد تم جلدي وتعذيبي. وقفت خائفاً لا أدري ماذا أفعل. قال أخي وصديقي مازن علي شمسين. أنا سأخرج إليهم, سأجلد بدلاً عنك. هم لا يعرفون من هوالمطلوب للجلد. قلت لا أقبل يا مازن. قال: ـ لكنك جلدت قبل قليل, لا أقبل أن تجلد مرة أخرى. أقترب الصديق العزيزعماررزق متطوعاً هوالآخر بالرغم من المرض الصعب والقاسي الذي كان يعاني منه. كما تقدم رفيفي وأخي حكمت مرجانة وطلب مني أن أقبل أن يخرج بدلاً عني. أبعدت الجميع من فكرة الجلد بدلاً عني. لكن مازن بقي مصراً على كلمته بكل قوة مصمماً على الخروج بدلاً عني. وقفنا نحن الثلاثة أمام الباب بأنتظار مجيء الجلاد. عندما فتح الباب صرخ الشرطي علينا قائلاً:
ـ ليخرج المَعلمون إلى الخارج, الباحة. خرجنا أنا ومازن وعمر. قال الشرطي:
ـ أنا علمتُ أثنان منكم, لماذا خرجتم ثلاثة. قلت:
ـ نحن أثنان.. أشرت على عمروعلى نفسي. أما هذا, رحت أشيرعلى مازن. قلت:
ـ لقد خرج بالخطأ.
طلبوا من مازن أن يدخل. بعد أن أغلقوا الباب وراءه راحوا يجلدوننا أنا وعمربكل قوة.
لم يكن يسمح لنا بالأقتراب من الباب الرئيسي للمهجع. المسافة المسموح بها كانت متران.
مرات كثيرة لا أسمع خطواتي الشرطي القادم إلى مهجعنا بالرغم من أن حواسي كلها تكون مشدودة على الباحة والباب. في حال دق الشرطي على الباب ولا أرد بالسرعة التي يقدروها يتم جلدي أو يتركوني معلماً خائفاً إلى اليوم التالي. إذا بقيت بعيداً وفي حال دق الباب ولا أسمع يجلدوني وإذا أقتربت أكثر من اللازم يراني الشرطي من على السطح فيطلب جلدي. صرت أعيش حالة وسواس قهري متزامن مع الوقت. أقترب أو أبتعد. إذا أقتربت سأجلد وإذا ابتعدت سأجلد. أظل متوتراً خائفاً ذهني مشغول في نقطتين.. الشراقة في السقف والباب اللعين.
لقد أعطونا ستة كاسات ماء فارغة من البلاستيك وخمسة صحون وأربعة بيدونات ماء مهترئة. كنا نأكل الطعام بأيدينا في السنة الأولى من السجن إلى أن أستطعنا أن نصنع ملعقة من البلاستيك. كان لدينا قصاصة أظفار. نرسم على البيدون شكل ملعقة ونبدأ بالحت عليه ذهاباً وأياباً مدة أيام طويلة حتى نحصل على قطعة واحدة. في أغلب الأحيان نختارالزوايا العليا من البيدون لقسوته وقدرته على حمل لقيمات الطعام.
عند النوم كنت ألبس الثياب الداخلية الطويلة, ثلاث كنزات قطن, معطفي المهترء, بنظالي وأدخل في الفراش. لكننا لم نستطع النوم من البرد القادم من أسفل المهجع ومن النوافذ المفتوحة. كنت أرجف من البرد. أنام لحظات واستيقظ لحظات من القلق, من التوتر, من البرد, من الخبط على السقف, من التعذيب الذي يمارس على السجين الذي يقف ساعتين تحت الشراقة من أجل الحراسة, من الحاجات الجسدية الضرورية كالتبول والحركة أثناء النوم والتي ترمي بثقلها علينا بقوة.
في الباحة الرابعة مكثنا عشرة أيام. يبدو أن هذا المهجع كان مخصصاً للأحزاب اللبنانية كالكتائب والأحرار. أسماء الناس مثل انطانيوس, جورج, حزب الكتائب كانت مكتوبة على الجدران السوداء الداكنة. كما كانت هناك كلمات لأغاني السيدة فيروز/ إذا مش بكره, البعد أكيد/. بجانب مهجعنا الجديد المؤلف من غرفتان وشراقتان, حمام ومرحاض, كانت الشرطة تتدرب على الجلد. من ثقب الباب استطعنا أن نرى كيف يتدرب الشرطة على الجلد. كانت توجد حديدتان مطرزتان على مقاس أقدام الانسان, مثل تلك التي يستخدمها الحذاء في إصلاح الأحذية. بعد التفقد وإدخال الطعام كانت الشرطة تجتمع أمام الباب الخارجي للمهجع وتتدرب, وتدرب العناصر الجديدة من الشرطة على الجلد. كنا نبقى طوال الوقت في حالة تشنج وتعب, تبقى أعصابنا مكوية من هذا الاستنفارالقلق. كما أن النعلة التي تتلقى الكوابل كانت تصدر صوتاً مثل صوت أقدام الإنسان عندما يجلد.
يتبع
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟