أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد درويش - احلام اخرى















المزيد.....


احلام اخرى


خالد درويش

الحوار المتمدن-العدد: 2161 - 2008 / 1 / 15 - 09:18
المحور: الادب والفن
    


أرجوان

مريم، مريااااام!- أخذت اصرخ مستغيثا وأنا أحاول التمسك بأكثر أغصان الدالية هشاشة خشية الانزلاق على سطح الزينكو المائل نحو الزقاق الضيق، فيما كانت مريم مستغرقة في توضيب مزق بالية ملونة حول عود صغير لتصنع دمية تلهو بها في هذه الساعة من الظهيرة.
لم تتحمل أغصان الدالية فانزلقت على السطح المائل المموج ووقعت على أرض الزقاق الذي تحول إلى شارع يعبر الحقول والهضاب إلى دمشق.
ها أنا أعود إلى الشام بعد غياب قسري دام ربع قرن بعدما حظيت بتصريح أحنو عليه الآن مثلما أحنو على ولدي، وأحفظ رقمه المتسلسل وأردده كي لا أنساه كما كنت اردد، صغيرا سورة الزلزلة في الطريق إلى الامتحان.
طال الطريق ومللت السفر فرحت أتسلى بعدّ أعمدة الهاتف التي ترتفع على جانب الطريق؛ 1، 2، 3، 4، 5، 6....حتى وصلت إلى الرقم 219 غفوت. وحين أفقت أكملت العدّ من حيث انتهيت؛ 220 ، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 227، 228، 229، 230، 231، 232، 233، 234، 235، 236، 237، 238، 239، 240، 241....وثمة، على امتداد النظر كانت تمتد الحقول والسفوح موشحه بأشجار سنديان متفرقة وصخور سمراء وشوك كثير. وكان المطر يهطل خفيفا بلا انقطاع فيعزز الإحساس بالعزلة.
لاحت أنوار نقطة الحدود في الأفق المظلم. أوقف السائق سيارة الأجرة التي نستقلها على رصيف التراب وأخطرنا بما خطر له: كي نتفادى الأزمة التي يحدثها ازدحام الوافدين على نقطة العبور علينا أن ننزل ونعبر الحدود سيرا على الأقدام من خلال ثغرة في الأسلاك الشائكة يتسلل من خلالها، عادة المهربون والمستعجلون والممنوعون من دخول البلد.
لم يكن رفاق الرحلة ( رجل وامرأتان وصبي لم يتعد العاشرة ) يعرفون بعضهم البعض؛ إذ حملهم السائق في حافلته تباعا، فرادى أثناء سيره إلى الحدود.
كان العبور هينا وهنيئا، كأننا في نزهة، فلماذا كان عليّ أن أنتظر كل هذه السنين التي بددت خلالها الكثير من الأماني والقهر والحنين.
كان الظلام دامسا وتراب الطرقات يوزع صدى خطواتنا على الصمت الطاغي برتابة ناعسة. مشينا صامتين، قابضين على غبطة غامضة بالعبور نهتدي في العتمة برائحة الحطب المحروق المتسللة من بعيد...وحين اتشح الأفق بالبرتقال والورد والرصاص إيذانا بطلوع النهار كنت وحدي أتهجى التضاريس بحثا عن الطريق إلى البيت.
عند تخوم مخيم اللاجئين الذي يقيم فيه أهلي اتخذت الدرب المختصر الذي يعبر حقول الذرة. كنت أسير بين السيقان الخضراء العالية واهتدي بطقطقة مواتير الآبار الارتوازية المنتشرة في البساتين المحيطة بالمخيم. اجتزت البساتين المسورة بشجيرات الورد ألجوري إلى الملعب الرياضي المجاور لحينا. وصلت أول الزقاق الذي يفضي إلى بيتنا. لم تتغير الأحوال هنا؛ أسطح التوتياء المائلة التي كانت تغطي المهاجع والبيوت، أبواب الحوانيت الخشبية، حديقة المسجد ذاتها التي كانت قبل رحيلي. حتى الأطفال الذين تركتهم أطفالا عرفتهم بتفرس بسيط أزال اثر السنوات عن سحناتهم.
هذا بيت أم حسين، وتلك هي شجرة التوت الشامي. هذا جرن الماء وتلك عيادة "الأنروا"...
كان كل شيء على ما كان عليه قبل خمسة وعشرين عاما إلا أبي. لم يكن والدي الذي كان ينتظرني عند بوابة البيت والدي، وإنما والد صديقي حسن البطل الذي عانقني وأمسك ذراعي وأدخلني البيت. أجلسني على مقعد وثير من جلد اسود وجلس قبالتي على سرير نحاسي وراح يلف سيجارة من تبغ برائحة التفاح.
كانت جدران الغرفة مطلية بلون أزرق علقت عليها خارطة فلسطين وبرواز حول صورة صديقي الغائب منذ عشرين عاما.
لم يسألني والد صديقي عن أحوال ابنه، لم يسألني عن شيء، لم يحدثني بشيء وظل صامتا يحدق فيّ بعينين دامعتين. وفجأة دخلت علينا شقيقة صديقي تسبقها عاصفة من الزغاريد والحبور، وانكبت علي بالعناق والقبل وهي تردد: حبيبي يا حسن، حبيبي يا حسن!.
شعرت بالحرج، فالبيت الذي استقبلني ليس بيتي، والرجل الذي استضافني ليس أبي والفتاة التي غمرتني باللهفة ليست شقيقتي. وحين عرفت أن أهلي، كل أهلي ماتوا منذ سنين اتجهت إلى المقبرة.
اجتزت تلالا كأداء يغطيها الشوك والحجارة وبقايا عظام حيوانات نافقة حتى وصلت إلى الكهف الذي يرمي فيه الإحياء أجداث موتاهم. كان الكهف ضيقا، رطبا ومزدحما بجديان سوداء تتدلى من آذانها أجراس ذهبية صغيرة. تعوي كالذئاب فيختلط عواؤها برنين الأجراس في ضجيج شيطاني مرعب. جاهدت لشق طريقي بين الجديان إلى نهاية الكهف حيث تبدأ حدود مدينة الموتى ببحيرة زرقاء مترامية الأطراف. على الضفاف المشمسة عثرت على شقيقاتي وعماتي وخالاتي ونساء أخريات. كنّ يرتدين أثوابا مخملية سوداء مطرزة بصور بوذا. ينحنين على ماء البحيرة، يغسلن سجادا مزركشا بصور بوذا بهيئات متنوعة: بوذا طفلا، بوذا يافعا وبوذا كهلا. بوذا يحنو على وعل وبوذا يمشي على الماء. بوذا يفلق الصخر بعصا فيتدفق الماء وبوذا يسقي الأرض اليباب بدموعه فتزهر...
ولكن بوذا الذي رأيت مرسوما على السجاد وأثواب النساء لم يكن بوذا. انه الإله "أرجوان" – أخبرتني أمي التي كانت منهمكة بقلع شتلات المشمش من طين المشاتل الرخو وإعادة غرسها متباعدة في حقل واسع. ثم أردفت:
انه سيدنا أرجوان خالقنا
وحامينا من مكائد الشيطان.
مشيت بخطوات متثاقلة على أرض محروثة للتوّ نحو حارات المدينة، مدينة الموتى التي يقيم فيها أهلي أحياء في موتهم الأبدي، يحرسهم الإله أرجوان من الصخب والهم والخيبة. يدفئ برودة الليل ويلطف حرّ النهار، يسهر على نومهم ويتعب من أجل راحتهم.
يضحكون كثيرا من غير تكلف وموائدهم عامرة. لا يعرفون الغيظ ولا يدركهم السأم وكل أيامهم زاهية. يعبدون أرجوان بالعمل والتأمل والرقص والغناء ويرمون أعداءه بازدراءات تتعفف عن التشهير وشهوة الدم.
يقيم أهلي في هذه المدينة. يتناسلون في ضوء القمر ويتدانون في بيوت مفتوحة على بعضها تفيض بالسكينة والهناء والبركة.



بيت الموتى


نحن الأحياء سننظف بيت الموتى؛ كعادتنا صباح كل يوم يسبق العيد. وبيت موتانا عبارة عن قبر كبير يضم رفاه من قضوا تباعا، منذ الجد الذي أسس شجرة العائلة منذ 259 عاما وفق حساب العارفين حتى اليوم. قبر العائلة، في الواقع بناء شيد وسط المقبرة الممتدة على عراء السفوح الشمالية لقرى غربي مدينة الخليل، ولكنه الآن عبارة عن قبو أسفل عمارة مكونة من ثلاثة طوابق وسط مدينة صوفيا.
يحضر أبي المعول لتكسير الاسمنت المتصلب على حواف الحجر الذي يسد باب القبر، وتهيئ أمي المكنسة والمجراد والخرق البالية ودلو الماء ومحاليل التعقيم. فيما ننتشر، نحن الأولاد في الجوّ المشمس، نرتع مثل عصافير مسرورة وننتظر انفتاح باب القبر.
جاهد أبي لإزاحة الحجر الكبير عن باب القبو/القبر وحين تمكن من زحزحته قليلا انسلّ عمي فهمي يلف جثمانه بعباءة بنية فضفاضة ومشى لا يحدث أحدا ولا يحدثه احد، ثم صعد الدرج الأسمنتي متجها إلى الحديقة.
تحت شجرة الأجاص الكبيرة تكوّم العم فهمي بعظامه ومزق لحمه المتهرئ وبقايا أظافره وشعره على أريكة من خشب اخضر واخذ يبكي.
لم تكن لجثته رائحة نتنة.
انه ماكر!، قالت أمي. لقد خلع أحشاءه الطرية ( القلب والرئتين والكبد والأمعاء والكليتين) واحتفظ بتا في كيس بلاستيكي تركه في شق من شقوق جدار القبر.
ارض القبو تعج بعظام ومزق جلد وبقايا أحشاء وجماجم تصرخ وتئن وتستغيث وتتزاحم هاربة من مكنسة أمي التي تطاردها لتلملمها في الركن كي تتمكن من مسح الأرض والحيطان بالماء الممزوج ببعض الكل ور.
وحين فرغت أمي من غسل القبر جاء دور الموتى. وراحت تتناول بقايا الجثث المكومة في الركن تغسلها بماء الدلو ثم تنثرها حيثما كانت.
وحين فرغت من عملها مهدت مكانا في الصدارة يتسع لجثة عمي ثم طلبت من أبي إعادته إلى القبر.
اقترب أبي من عمي الذي، يبدو انه عرف بنواياه فاخذ يصرخ ويستغيث طالبا تركه طليقا في فضاء الإحياء.
همّ أبي بإمساكه، وما إن لامست أصابعه أكمام العباءة المتراخية على عظم الذراعين حتى تملص عمي راكضا إلى السور القريب.
اعتلى عمي السور برشاقة، انتفض قليلا ثم طار وابتعد محلقا مثل طائرة خفيفة بين العمارات العالية.



الطريق


سئمت السير على هذا الطريق الترابي الطويل الذي يعبر عتمة غبراء طاغية. متى أصل؟، إلى أين أصل؟.
لا شجر على جانبي الطريق، لا بشر ولا بيوت. والسماء يحجبها الظلام.
يصعد الطريق بخطواتي تلالا ويهوي، ثم يصعد، ثم يهوي. يتجه الطريق بخطواتي إلى اليسار، ثم إلى اليمين؛ صعودا، هبوطا، يسارا، يمينا...لا شمس في السماء لكي احدد وقتي ولا قمر يوحي بالجهات. لا شيء غير الطريق؛ طريق ترابي طويل يعبر العتمة الطاغية.
أأعود من حيث أتيت؟. لم أعد أذكر من أين أتيت. أم استمر إلى الإمام!. ولكنني الآن لا اعرف وجهتي ولا أعي هدفي.
سئمت الطريق، طريقي وأتعبني المسير؛ صعودا، هبوطا، يمينا، يسارا...ولا شيء غير الغبار والعتمة الطاغية.



#خالد_درويش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جذور
- الجنة
- منامان
- مرايا
- احلام
- عشر حالات
- قصائد


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد درويش - احلام اخرى