يبدو أن الزيارات التى يقوم بها الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى بلدان العالم "الآخر" ستندرج كلها ، أو معظمها ، تحت عنوان عريض يمكن تلخيصه فى كلمة واحدة هى "الكارثة" أو "الفضيحة".
ينطبق ذلك على الزيارة التى قام بها إلى العاصمة البريطانية ، لندن، يوم الخميس قبل الماضى ، كما ينطبق على الزيارة السرية التى قام بها إلى العاصمة العراقية المحتلة ، بغداد ، يوم الخميس الماضى .
ففى الزيارة الأولى قابلته أكبر مظاهرة معادية لسياساته ، وقالت له الاغلبية الساحقة من الشعب البريطانى أنه ضيف غير مرغوب فيه ، وطالبته بالعودة إلى بلاده ، والمستحسن ان يأخذ حليفه وذنبه الانجليزى تونى بلير فى يده. وبدلاً من أن تساهم زيارته إلى حليفته الأساسية ، وربما الوحيدة ، فى تجميل صورته وتدعيم مكانته المنهارة على الصعيدين الدولى والمحلى ، أدت إلى زيادة الطين بلة . وعاد إلى واشنطن بخفى حنين وملايين اللعنات.
وفى الزيارة الثانية كان الهدف الأول هو رفع معنويات جيش الاحتلال الأمريكي التى قالت معظم التقارير ، ومنها تقارير أمريكية ، أنها معنويات منهارة من جراء تصاعد المقاومة الوطنية العراقية.
وكان الهدف الثانى هو محاولة استثمار هذه الزيارة ، التى تم التخطيط لها لتأتى فى يوم الاحتفال بعيد الشكر ، لترميم الشعبية المتآكلة للرئيس الأمريكي والتى تزداد ضعفا وهزالاً مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة . وظن مهندسو هذه الزيارة أنها يمكن أن تفيد الرئيس "المزنوق" لأنها ستساعد على تصويره فى صورة القائد الشجاع الذى يتحدى المخاطر للتواجد مع جنوده فى عقر دار العدو ، لا لشيء إلا للاحتفال بعيد الشكر معهم.
لكن مثلما جاءت زيارة لندن بنتيجة عكسية ، أعتقد أن بوش لن يجنى من زيارة بغداد إلا الحصرم والحصاد المر.
أمير الظلام !
فمن ناحية الشكل تسجل زيارته إلى العراق الزيارة الأولى التى يقوم بها رئيس أمريكي إلى بلاد الرافدين على الإطلاق.
هذه الزيارة "التاريخية" وغير المسبوقة تمت تحت جنح الظلام وفى الخفاء وبعيداً عن الأعين ، سواء أعين العالم أو أعين العراقيين . . أصحاب البلد.
وبالتالى فأنها لم تحمل بصمات زيارة رئيس أكبر وأقوى دولة فى العالم إلى بلد أجنبي ، وإنما حملت بصمات وملامح زيارة "زعيم عصابة إلى موقع جريمته".
فقد تم التخطيط لهذه الزيارة فى الخفاء وبسرية مطلقة ، حتى زوجة الرئيس بوش جرى تضليلها وإعطاؤها معلومات كاذبة لحرف الأنظار والامعان فى التمويه.
ووسائل الإعلام الأمريكية التى تفاخر دائماً بأنها تعرف دبة النملة داخل البيت الأبيض وكل مراكز صنع القرار ، تم عصب أعينها ، وباتت كالزوج آخر من يعلم!
ولم تستطع أن تبث اى أخبار عن رئيسها إلا بعد مغادرته مطار بغداد ، شأنها فى ذلك شأن وسائل الإعلام فى دول العالم الثالث والعالم الرابع !
أما السيارة التى أقلت الرئيس إلى الطائرة فقد تم نزع لوحاتها وطمس أرقامها ، حتى لا يكون هناك أدنى شبهة فى التعرف على شخصية راكبها . واما الطائرة التى أقلته إلى العراق فقد تم إطفاء أنوارها عندما اقتربت من عاصمة الخلافة العباسية . وهبطت متسللة كما يتسلل اللص تحت أستار الظلام !
هل تليق مثل هذه "المراسم" المزرية برئيس أكبر وأقوى دولة فى العالم ؟!
وهل تليق بالذات مع أول زيارة يقوم بها رئيس أمريكى على الإطلاق لهذه البلاد ؟
وهل تليق على وجه الخصوص مع اول زيارة يقوم بها رئيس أمريكى لدولة تدعى الإدارة الأمريكية أنها قامت بـ "تحريرها" وأنها بالتالى أصبحت أقرب أصدقائها؟
وكيف ينسجم هذا الزعم مع تلك السرية المطلقة ، ومع اقتصار الزيارة على مطار بغداد ، واقتصاد قائمة مستقبلى الرئيس على ستمائة من جنود جيش احتلاله ، وتجاهل البلد الذى وصله وتجاهل شعبه تجاهلاً كاملاً ، بحيث لم يقابله من العراقيين إلا أربعة أشخاص بالكمال والتمام منهم الزعيم الكردى جلال الطالبانى الذى يرأس مجلس الحكم فى الدورة الحالية والذى وقف إلى جانب بوش مبتسماً ببلاهة ويرتدى "طاقية" عسكرية أمريكى فى مشهد يخلو من الكرامة ، ومنهم أيضاً سيدة عضو فى مجلس الحكم لا أذكر اسمها ، ولا أريد أن أجهد ذاكرتى فى محاولة تذكره . يكفى أن أذكر أنها ، وهى السيدة المحجبة ، انهالت على الرئيس بوش لتقبله من وجنتيه !
هذه "المراسم" تلخص الموقف بأسره وتغنى عن الثرثرة .
فهى تقول ببساطة أن الموقف الأمريكى فى العراق ليس بالقوة التى يطنطن بها مسئولو الإدارة الأمريكية وزعانفهم فى العالم العربى ، بدليل هذا التعتيم الكامل على زيارة بوش وعدم الإعلان عنها إلا بعد رحيله ومغادرته للتراب العراقى. وبدليل أن الزيارة اقتصرت على مطار بغداد فقط. وبدليل أنها لم تستغرق أكثر من ساعتين ونصف. وبدليل أنه لم يتم إبلاغ العراقيين بها أو حتى محاولة إرضاء دائرة أوسع من عملاء أمريكا بإعطائهم "شرف" استقبال الرئيس.
كل هذه التفاصيل تقول أن المقاومة الوطنية العراقية قوية ويحسب لها الأمريكيون – بجلال قدرهم وقوة نيرانهم الجبارة – ألف حساب . حتى لو أدى ذلك إلى ان يظهر الرئيس بمظهر اللص المتسلل فى جنح الظلام!
وهذه التفاصيل تقول أيضاً أن الإدارة الأمريكية لا تحسب اى حساب للشعب العراقى ومشاعره رغم تباكيها عليه وذرفها دموع التماسيح على معاناته فى الماضى.
بدليل أن الرئيس بوش حرص على الاحتفال بعيد الشكر مع جنوده وتجاهل تماماً ان العراقيين يحتفلون فى نفس الوقت بعيد الفطر المبارك.
عيد الشكر
اما الهالة الدينية والأخلاقية التى انزلق الإعلام العربى لاسباغها على الرئيس بوش لا لشيء إلا لحرصه على مشاركة جيش الاحتلال احتفالات عيد الشكر ، فليست إلا سذاجة أن لم نقل أنها جهل بحقيقة عيد الشكر ذاته.
وبهذا الصدد نذكر من نسى أن عيد الشكر هو عيد أمريكى الجنسية ، ولا تحتفل به – بل ولا تعرفه أو تعترف به – كل الدول الأخرى التى يشكل المسيحيون أغلبية سكانها . ويخلو الاحتفال الأمريكى بهذا العيد من اى شعائر دينية ويقتصر على عطلة رسمية تجتمع فيها الأسر حول مائدة عشاء أهم أطباقها الديك الرومى المشوى.
وهناك قصتان لهذا العيد الأمريكى .. اولهما هى القصة الرسمية ، ويلخصها بيان الرئيس جورج بوش الصادر يوم 21 نوفمبر 2003 لتحديد موعد الاحتفال بعيد الشكر هذا العام يوم 27 نوفمبر 2003 ( لأن موعد عيد الشكر بالمناسبة هو الخميس الرابع من شهر نوفمبر من كل عام).
فى هذا الإعلان الرئيس قال بوش :
"قبل حوالى 400 عام مضت ، وعقب نجاتهم وبقائهم على قيد الحياة بعد أول شتاء فى بليموث ، أقام المهاجرون الأوائل إلى الولايات المتحدة احتفالاً بموسم الحصاد ليعربوا فيه عن شكرهم لله . وفى عام 1789 اعلن جورج واشنطن أول احتفال قومى بعيد الشكر.
ثم أحيا ابراهام لنكولن عادة الاحتفال أثناء الحرب الأهلية . ومنذ ذلك الحين يتوقف المواطنون الأمريكيون للتعبير عن شكرهم على العطايا الجزيلة التى ننعم بها وللاستمتاع بقضاء وقت مع الأسرة والأصدقاء..
وبناء على ما تقدم أعلن انا جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وبقوة السلطات التى منحها لى الدستور والقوانين الأمريكية أعلن يوم 27 نوفمبر 2003 يوماً قومياً للشكر ..
وأعلن ذلك بتوقيعى يوم 21 نوفمبر عام 2003 الموافق العام 228 لاستقلال الولايات المتحدة الأمريكية ".
هذه – إذن – هى الرواية الرسمية لخلفيات عيد الشكر ، الذى يحاول بعض البلهاء العرب الاحتفال به فى بلاد لغة الضاد .. مع أنه ما من شعب آخر على ظهر الكرة الأرضية يعرفه أو يحتفل به !!
لكن ماذا عن الروايات الأخرى .. غير الرسمية ؟!
الحجاج المستعبرين
اكثر هذه الروايات انتشاراً تقول أن شاطئ مدينة بليموث الأمريكية شهد عام 1620 وصول السفينة مايفلاور May flower وعلى متنها مجموعة من المستوطنين الانجليز الذين يطلق عليها التاريخ الرسمى لقب "الحجاج" . وبطبيعة الحال فانهم وصلوا فى حالة مزرية ، وكان الجوع وبرد الشتاء قد أودى بحياة عدد منهم . ولولا مروءة أبناء شعب "وامبانوج" – الهنود الحمر – الذين قدموا لهم الطعام والشراب والمأوى لاختفت مستعمرة هؤلاء "الحجاج" و " القديسين" ، ولربما كان للتاريخ الأمريكى مسيرة مختلفة.
ويقول أحد الباحثين المهمين ( منير العكشى – التجديد العربى) أن هؤلاء "الحجاج" كانوا يعتبروا أنفسهم عبريين أو مستعبرين Hebriests ويسمون هذا العالم الجديد ( أى أمريكا) بكل الأسماء التى أطلقها العبرانيون على بلاد كنعان . وما يزال التاريخ الأمريكى إلى الآن يضفى عليهم قداسة ويعتبرهم أول نموذج للاستثناء الأمريكى الذى فضله الله على العالمين وأورثه ما أورث بنى اسرائيل من قبل ، وجعل "العهد" الذى عقدوه مع الله على متن سفينتهم "مايفلاور" من اللحظات الخالدة فى التاريخ الانسانى على حد تعبير الرئيس الأمريكى جون أدامس ، فعهدهم مع الله هو عهد الاسرائيليين القدامى ، وتأسيس مستعمرتهم الأولى على صخرة بليموث يضاهى تأسيس الكنسية على صخرة بطرس.
وقصة هؤلاء "الحجاج" هى الأصل الأسطورى لكل التاريخ الأمريكي ومركزيته العنصرية . وما يزال كل بيت أمريكى يحتفل سنوياً فى عيد الشكر بتلك النهاية السعيدة التى ختمت قصة نجاتهم من ظلم "فرعون البريطانى" و "خروجهم" من أرضه و"تيههم" فى البحر و"عهدهم" الذى أبرموه على ظهر سفينتهم على "يهوه" ووصولهم فى النهاية إلى "أرض الميعاد".
إسرائيل .. الأم
لكن هذه الرواية التى تمجد وصول المستوطنين الانجليز وتضفى عليهم صفات النبل والطهارة وكل المقبلات اللازمة لهضم فكرة أمريكا : فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة ، لا تتضمن إشارة واحدة إلى إبادة شعب "الومبانوج" على أيدى هؤلاء المستوطنين المتعطشين للثروة والأرض والدماء.
ويقدم نفس الباحث الجاد حشداً من الحقائق المفزعة التى تبين كيف أن البيت الأبيض ومبنى الكونجرس وقلعة البنتاجون ومعظم متاحف واشنطن مبنية فوق مقبرة جماعية كانت فى يوم من الأيام مدينة هندية تدعى "نكن شتنكه" وكانت مركزا تجارياً مزدهراً لشعب كونوى Conoy الذى أباده الغزاة عام 1623.
ولذلك فان الأمريكيين الذين تنحدر أصولهم من الهنود الحمر يرفضون حتى اليوم المشاركة فى احتفالات عيد الشكر ، لأنه باختصار هو عيد ذبحهم وإبادتهم . وقد أشار الأديب صنع الله ابراهيم إلى ذلك فى راويته "امريكانلى" حيث قال على لسان أحد أبطال روايته أن المستوطنين الأوروبيين ذبحوا الديك الرومى شكرا للإله الذى مكنهم من الانتصار على الهنود الحمر , وصار ذبحه من ساعتها طقساً يلتئم فيه شمل العائلات.
ويبدو أن المستوطنين الأوروبيين رأوا فى ريش الديك الرومى شبها بريش الهنود الحمر.
لكن يبدو أن أقطاب الإدارة الأمريكية ، أحفاد هؤلاء المستوطنين الأوروبيين الذين حطوا على شواطئ بليموث عام 1620 ، لن يجدوا هنوداً حمر هذه المرة على ضفاف دجلة والفرات.