ماجد الشنون
الحوار المتمدن-العدد: 2159 - 2008 / 1 / 13 - 08:38
المحور:
الادب والفن
أم حَََََّنونْ*
*حّنون: اسم مذكر دارج في جنوب العراق.
كانت تأتينا قادمة مِن المحافظة الجنوبيةِ البعيدةِ اللتي تسكنها في تلكَ السنين الخوالي ،ذات مرةٍ عرفتُ بالمصادفةِ ولإستدراج ِ إنها لا تركبُ الباصَ لفرق قليل بالكلفةِ مع القطار ِ. كانت تركبُ القطارَ المظلمُ في السنوات قبيل الحرب رغمَ أن الباص أكثر بقليل راحة ً وسرعة ً, لا لشيء إلا لكي توفرَ اليسيرَ من الدنانير ِ لتشتري لاولادي بعض الكعكِ تماشيا معَ ما هو دارج ٍ وتعودتهُ و من دواعي حُرصِها على أن لا تدخل ويدها فارغةُ, لقد إجتمع فيها إثنان لا يُحتمَلانِ معاً في روح ٍ واحدةٍ وهما الفاقةُ والكرم ِ.
تقضي عندنا تلكَ الليلةِ في العاصمةِ ملتفة ً بعبائتها,لا تأكل إلا بالحاح ٍ شديدٍ منا وهي تتحجج أن أعراض مرض الربو تزداد عليها عندما تَشبع ،تخرج مع أول الصباح لزيارة الولي القريب وبعدها تَذهاب لإستلام دواء ولدها الهائم في شوارع ِ المدينةَ الفراتية تلك بلا إرادة وسيطرة على التصرف.
تلكَ المرأةُ الهزيلةِ أو لنقل عنها هيكل بأعصاب وعظم وليس بشحم ٍ ولحم ,أخذ َ الفقرُ الشحمَ وأوهنَ الهَم العظم وأخذت الأعوامُ اللحم والعضل, لا أتذكرها إلا ويقترنُ التجسيمُ اللوني للسواد الكالح لعبائتها فقد ذهب لونها الأصلي من حرُ القيظِ وطول الاستعمال,وكان منظر شالها , ينم عن عمق استكانة لعوزطويل وهو يلتف حولَ عنقِها لأكثر من مرةٍ لنحافتها المفرطه , رقبتها اللتي ذات يوم ٍ صّورتها الاشعة ُ السينيةُ فظهرت وقد انحرفت وانزلقت فقراتها عن بعضها, فتعَجبَ المعالجُ من تحمُلها الآلم وقدرتها على رفع رأسها بكبرياء لا يفارق أمٌ منكوبةٌ من الجنوبِ.
تأخذُ الدواءَ كلَ شهر ٍ من مستشفى ما يعرفُ بالشماعيةِ وتعودُ الى دارها لرعايتهُ وإطعامهُ وحلاقة ُ لحيتهُ.
كانَ هذا ديدَنها بلا إنهزام ٍ ولا وجل ٍ أو تراخ ٍ, فهي تعملُ ذلكَ ما دامت قادرة ٌ على السير ِ وإختيارُ الوسيلة ُ الأقلُ كلفة ً للوصول ِ .
وقد تجاوزت السبعون من عُمرها لم يوقفها ذلك عن هدفُها,
لَم تثنها عن ذلك الوحشةِ اللتي آلمت بها وهي الباقية ُ الأخيرة من أخواتُها وأخوها الوحيد ولم يكسر إصرارها تلك الوحدةُ والعوز ِ وتقدم العمر بل إستمرت إلى هدفُها على أمل وحيد باقي ٍ ربما يتَحقق لها ويَعود وَلدها الى رشدهِ والى قاعةُ الدرس ِ في معهده الذي رَُقنَ قيدهُ منه بصبغة ُ الجنون ِ القاسية ِ .
إنها المرةُ اللتي تجاوزت بها الرقم مئة لرحلاتها أي لأكثر من عشر ِ أعوام ٍ تستلمُ العلاجَ كل شهر, استلمتهُ فرحت وضَعت الكيسُ في جيبها الجانبيُ وضغطتهُ بكفها الواهنة لكي لا تضيعهُ ,كان في جيبها الجانبيُ الاخر ِ ما تبقى لها من الدنانير وهي محسوبة ٌ بغير إحتمال ِ عطل ِ السيارةِ المفاجيء .
صَعدت الباصَ ساحبة ً قدميها اللذ ّين جرحهما حد نعلها المصنوع من البلاستك المُعاد الصبِ الفاقدُ لمرونتهِ وطول المسير.
كان الباصُ وبشكل طبيعي من تِلك الباصاتِ المعروفةِ هناك ب (الرِّيم) وهذهِ تَم صناعتها حينها بعجالة ٍفائقةٍ وخبثٌ قياديٌ هائلٌ أيامَ الحربِ, فهي مزودةُ بمحركٍ أقوى من القوة لا يستجيب لدعوات الجنودُ الخائفينَ من الإلتحاق ِ بالجبهةِ بعطل الباص, وبداخل ٍ ومقاعد لا يصلحان للتنفس ِ والجلوس ِ, وقد خَدمت ونَقلت تلك الآلات المحبوبة من القيادة عشرات الآلاف من الضحايا في طريق اللاعودةِ الى محرقة الحروبِ الساديةِ, وبقت الى الحين صامدة ٌ لنقل الفقراءِ.
كان جميع مَن في الباص ِ مِن الفقراءِ تمتدُ أكفهمُ متحسسين بخجل ٍ مر ٍ في داخل جيوبهمُ عما تبقى فيها لتوفيرِ اليسير ِ من زادْ وماء للطريق الطويل. عاد أكثرهمُ مِن زيارةِ طبيبٍ أو قضاء واجب التواصل ِ والقربى أوالتأبين ِ وزيارة الاولياءِ.
جَلست في المقعدِ خلفَ أم حنون ٍ شابة ٌ متعبة ٌ وهي تُعمرُ قنينةُ الرضاعةِ لطفلها الصارخُ واللذي عادت بهِ من الطبيبِ على أمل أن أطباء العاصمةِ يسيطرونَ على مرضهِ ,كانت يدها تمتدُ لتضعَ مسحوقَ الحليب بنسبة ربع ِ المقرَر ِ عسى أن يكفي المتبقي لتغذيةِ الطفلُ, فقد تبقى اليسيرَ، كانت مرتبكة ُ بأكياس مستلزمات الطفل البالية تحت أرجلها.
صعدَ الى السيارةِ بائعُ العلكةِ الطفل وبائعُ الماء بالسطل وبائعُ بذور زهرةُ الشمس ِ المملحةُ وقاريء الادعيةِ المكثرُ من الصلاة على الاولياءِ ,كان الجمعُ كلهم يشتركونَ بلونِ الدم ِ الباهتِ ومرضهُ الازلي بفقره وشحوبه,كذلك سوء التغديةِ والاستكانةِ لجمر العوز ِ اللاذع ِ .
صَعد الباص أحدهم كان يسيرُ بدون انحناءِ وكأن عموده الفقريُ قد جُبسَ فلا يميل،جَلس جَنب أم حّنون قالت له بلَهجَتها (الله يساعدك) لم يجبها الرجلُ سَحبت نفسها بإتجاه الشباكِ لكي توفرَ له أوسعَ مكان ٍ مريح ٍ ممكن.
فكَرت مباشرةً وبمودةٍ أن تقدمَ لهُ مِن الخبزِ اللذي صنعهُ تنورها السومري قبلَ يومين خبزٌ معفرٌ برائحةِ القرنفل ِ الأصفر والاوراق الخضر وإحتراق سعفُ النخيل ِ ,لكنه لم يمهلها, صرخَ مثل القيامةِ ونهضَ :الله اكبر الله اكبر الله اكبر,فرحَت أم حنون ٍ بإعتقادها أنه يُقدم دعاءاً قبيلَ تحرك الباص ِ,لكنه نظر إليها وتشهى مَهرهُ إلى حورِ العِّين ِ في الجنةِ من دَمها ولحمها فقرر ان يبقى مكانهُ, بهلع ٍالجمع ضاعَ صراخُ الطفل ِ بإرتفاع ِ العويل وتكبيره (عريس الحور العِّين ) هذا.
حاولَ حاملُ الماء الطفل الهروبَ في الممر ِ الضيقِ لكنه إصطدمَ بقاريء الادعية الكفيف اللذي صعب عليه تحديد إتجاهه الى البابِ فسار بالاتجاه الخاطيء, إنحنت أم الطفل بطفلها بدون وعي وإعتقادأً منها أن الكرسيُ الواهنُ يَحميهما أراد الطفل ان يأخذُ ثديَ أمهُ الناضب, سَحبَ الرجلُ حبل زنادِ وسطهِ مع ذهول البقيةِ ومتابعتهم ،طارت علبة ُ مسحوق الحليبِ والرضاعةُ و رأس الطفل اللذي تدحرج مثل برتقالةٍ قديمةٍ, كانت أم حَنوّن أول اللذين شطرها العصف والإنفجار ولم تَزل إحدى يديها تضغط ُ على الدواءِ والاخرى مترددةً بأن يقبلَ رفيقُ الدربِ هذا خبزُ الفقراءِ الباردِ.
هرعَ الجمهور ِالموجود بالجوار ِ لم يميزوا بينَ الاجسادِ فقد كانت جميعهاً خاويةٌ ملفوفةٌ بأسمال ثيابٍ عتيقة وقَد علقَ الرملُ بأشلائها الدبقةِ اللتي لم تنزفُ طويلاً .
ماجد الشنون
11-كانون الثاني-08
#ماجد_الشنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟