|
الجندية المجهولة
مجدي السماك
الحوار المتمدن-العدد: 2154 - 2008 / 1 / 8 - 08:31
المحور:
الادب والفن
مالت الشمس لتهوي لولا أن امسك بها فم المدى وأخذ يلتهمها ببطء لقمة وراء لقمة حتى ابتلعها كما الفريسة الكبيرة في فم تمساح ، وبسط الكون عباءته . السيجارة في فمي يقصر عمرها مع كل شهقة عميقة مضطربة وزفرة طويلة متوترة .. و ها هي ذي ساعة يدي تتأفف لكثرة نظراتي لها وقد فات على الموعد المحدد للقاء نصف ساعة بلا أي زيادة أو نقصان . لم يعد بإمكاني انتظارها أكثر من ذلك .. فبات واضحا أنها لن تأتي . هممت بالمغادرة ، لكنها جاءت فخفق قلبي خفقات طمأنينة لا تخلو من قلق . جلست ووضعت رجلا فوق رجل وأكدت حضورها بهزة من رأسها ،هي هزة تحية صامتة ، فرددت عليها تحيتها بهزتين من راسي ، نظرت إليّ بنصف بسمة فنظرت إليها ببسمة كاملة . فجأة أشارت بسبابة اليمنى و سألت ما هذا ؟ عجبت لسؤالها ! فنظرت حولي إلى الوجوه المستكينة لرواد المقصف بنظرات ملؤها الحيرة ، ثم حدقت بوجهها الأصفر والأملس كالصابون المبلول وقلت لها بصوت خافت متقطع : إنه تمثال الجندي المجهول ! وأسندت ظهري واستنشقت بعمق رائحة عطرها الساطعة وتمنيت لو بإمكاني تخزينها في رئتيّ . وما هي إلا لحيظات قليلة حتى عادت تسأل ثانية .. - لماذا هو مجهول هذا الجندي ؟ - لأنه رمز للتضحية والفداء والبطولة لناس لا احد يعرف شخصيتهم . - لماذا لا يوجد تمثال للجندي المعلوم ؟ اقصد للمعروفين ! - المعروفون خلدهم التاريخ بأسمائهم .. وبعض الشعوب تصنع لهم تماثيل . - دون أن يكونوا رؤساء ؟! - نعم ! بصراحة شعرت أني في ورطة ، فهذا تمثال معلوم لشخص مجهول ، أو لأشخاص مجهولين . وهو أهم معلم من معالم المدينة . أمّا المعروفون فلا تماثيل لهم عندنا ، حتى عندما يموتون تعلق صورهم لأيام معدودة فقط .. ويذهب كل حي إلى حال سبيله . قطّبت ما بين حاجبيها ، وأمالت ظهرها قليلا إلى الأمام ، وقالت بصوت حاد و ناعم كمواء القطط الصغيرة : هذا شأنكم انتم أيها الرجال ، ما يعنيني هو أمر النساء ! أغمضت عينيّ نصف غمضة ، وشبكت أصابعي بعضهما ببعض وطرقعتها . أخذت رشفة شاي فاتر، وحدقت بتمثال الجندي المجهول كأني أراه للمرة الأولى في حياتي ، فوجدته كما هو دائم الإشارة بسبابته إلى القدس ، ويده الأخرى تحمل كلاشن . شعرت أني لم افهم شيئا من كلامها الذي يشبه الطلاسم ، وقد اندفع من فمها وابل من الأسئلة لم تلتقط أذناي إلا بعضها .. لم اعبأ بها ووجدتني اسألها بلهفة : - ما شأن النساء وتمثال الجندي المجهول ؟ - يجب أن يكون هنا تمثال للنساء المجهولات ! - لماذا ؟ وكيف ذلك ؟ هذا جنون ! - الكثيرات من النساء قدمن حياتهن و ضحين بالغالي والنفيس من اجل الوطن ، وبما لا يقل نوعية عن تضحيات الرجال إن لم يكن أكثر أهمية ! - ولكن هذا التمثال يرمز لتضحيات الرجال والنساء أيضا ! - لماذا لا يكون هذا التمثال لفتاة بدل الرجل ؟ .. وليكن له نفس الرمزية للرجال والنساء .. ونسميه تمثال الجندية المجهولة . تجمد الكلام في فمي وبت لا اعرف كيف أرد على كلامها وأفنده ، وبعصبية أخذت افرك عقب السيجارة في منفضة السجائر ، لكن النجدة جاءتني بسؤال ، فوجدتني امتشق لساني واسألها : - على فرض موافقتي على كلامك ، فماذا سيرتدي تمثال الجندية المجهولة؟ - أية ملابس ! لا فرق عندي ! فستان سيواريه أم بنطلون مع بلوزه .. أي شيء .. حتى لو بنطلون شورت مع بلوزة كت . - لكننا في مجتمع محافظ وقد لا يقبل بأية ملابس ، فمن الأفضل أن يلبس تمثال الجندية المجهولة جلباب ونغطي شعر الرأس بإحكام . - وليكن ذلك .. ولا مانع عندي أن يكون التمثال بزي عسكري . انتابني شعور وكأني موافق على رأيها بهذه الأسئلة وهذا المجرى للحوار ، فعدت ثانية أقول لها بنبرة حادة رنانة : إن جميع شعوب الأرض تبني تمثال الجندي المجهول على شكل رجل ، فلا يعقل أن نشيده نحن العرب على شكل فتاة .. هل نحن أكثر تطورا من بقية شعوب الأرض ؟ انتابها موجة عارمة من العصبية ، فأخذت تمور وتفور كالحليب عند الغليان ، مما جعل جميع رواد المقصف ينظرون إلينا وقالت بعد أن استلت لسانها بغضب جامح عصف به فمها : ولكنكم انتم الرجال لم تحققوا انتصارات في الحروب ! وعلى الرغم من ذلك تصنعون لأنفسكم تمثالا يرمز لبطولاتكم الوهمية ، أو هي بطولات فردية بلا أي انتصارات حقيقية . لكنني لم اسكت على ما قالته ، وأخذت ارشقها بالكلام و الأسئلة بصوت مدوي كالرصاص في الأفراح .. - إذن عليكن الذهاب إلى الحرب مع الرجال ! - لا . بل نذهب إلى الحرب بدل الرجال ! بصراحة تملكتني رغبة بإزاحة الكؤوس عن الطاولة ، والغطاء الأبيض الذي يتدلى عن متنها كي افكك الطاولة إلى عدة قطع ، وامسك برجل الطاولة الغليظ المصنوع من خشب الزان واهوي به على رأسها حتى تكف عن الثرثرة الفارغة ، لكني أمسكت و آثرت أن أظل ديمقراطي . ثم عادت تقول بخبث ظاهر : من الممكن تشييد تمثالين مجهولين ، احدهما للرجل والآخر للمرأة .. ونضعهما بجانب بعضهما أو متقابلين . لم احفل بكلامها وانتهى اللقاء دون الوصول إلى نتيجة في النقاش . وما هي سوى أيام قليلة حتى استيقظنا في الصباح وقد تحول تمثال الجندي المجهول إلى كومة من الحجارة والركام بعد أن تم تحطيمه بأيدي شخص معلوم .. وربما هو مجهول . ملاحظة للقارئ:كل ما ورد في هذه القصة كذب وافتراء ولا يمت للواقع بأي صلة . [email protected] 6-1-2008
#مجدي_السماك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجبة كبيرة
-
عيون تنظر الى تحت
-
أيام الخميس .. قصة قصيرة
-
قبر من لحم
-
ربع ساعة اخرى
-
لعبة عروسة وعريس
-
رؤية خريفية
-
مملكة فنان ميت .. قصة
-
بائع العلكة الصغير
-
آهات وعرانيس ..قصة قصيرة
-
آهات وعرانيس .. قصة قصيرة
-
جهنم نحن وقودها
-
الهوية الفلسطينية في الطريق الى الضياع
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|