|
ظلال تتجاوز صمت الأشياء .. قراءة في سوف تحيا من بعدي لبسام حجار
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2154 - 2008 / 1 / 8 - 08:30
المحور:
الادب والفن
تنشئ اللغة الشعرية مجالا فريدا من الدوال ، و العوالم المحتملة بوصفها وجودا استعاريا في ذاته ، أو تأويلا لحالة من حالات وجود الكائن ، و من ثم فهي تتخذ مسارا سيريا تاريخيا يشبه لحظة الحضور ، أو العدم ، فتختلط بالأخيلة الواقعية ، و المتكلم الواقعي بوصفه أثرا يتجدد في ديناميكية هذه اللغة الفريدة . نلاحظ تحقق هذا الملمح في تجربة بسام حجار الشعرية ، و قد جمع قطوفا منها في كتابه " سوف تحيا من بعدي " – و قد صدر عن هيئة قصور الثقافة المصرية 2007 – ففي قصائد الديوان تذوب الحدود بين المتكلم ، و الظواهر ، و المفاهيم المجردة ، و يصير مفهوم الوجود أثرا في العدم ، و العكس ، بما يوحي بمأساة عميقة تلازم المتكلم ، و تشكله ، قبل إمكانية أن يكون ظلا مراقبا مرحا ، يجمع بين الوجود ، و العدم . هذا الظل يمتد مثل الأصل أو الأثر في السياق الشعري و يتخذ مظهرين : الأول : تمثيلي ، و فيه يعيد الظل إنشاء المتكلم في سياق كوني جديد ، يقع بين الوجود ، و العدم ، هذا السياق يحتمل انتشار الظلال كتشبيهات تتهيأ لممارسة حياة جديدة ، تبدأ من الطيف التمثيلي ، و ليس الأصل . الثاني : سردي ، و فيه يصير الظل حكاية تنفصل عن الصمت العبثي المطلق الذي يحيط الظواهر ، و الأشياء ، فهو يبدأ من الصمت المأساوي ليتجاوزه في تأويل الظواهر بأطيافها الحركية التي تشبهها ، هذه الأطياف تدميرية لأنها ليست مشبعة بالحضور المادي ، و لكنها تتجاوز الموت الكامن في الظواهر الأولى من خلال سرد حر مرح يتحدى الصمت من خلاله . الظل هنا طاقة تدميرية محولة ضد مدلولها الأول ، فهو قراءة التكوين فيما بعد التكوين ، و من ثم أرى أن اللغة الشعرية تدخلنا سياقا يتجاوز أزمة الوجود ، و العدم من خلال مفردات الأزمة نفسها ، و حضورها الطاغي . و في لغة بسام حجار الخاصة إكمال لما ذهب إليه مارتن هيدجر ، بصدد تحول الفكر الفلسفي من كونه وجهة نظر عالمية حول الكائنات و الأشياء ، إلى علم للوجود و الكينونة الممثلة في التكوين المتعين المرتبط بالزمن و التاريخ و لهذا تتنوع الأنماط التحليلية و تتفاوت انطلاقا من اختلاف الظروف التاريخية - راجع – هيدجر - The Basic Problems of Phenomenology - فالظل ، و الكناري ، و الشجرة تكوينات فريدة تنتشر في الأثر لتقاوم حضورها كظاهرة صامتة تنتظر العدم .
في نص " حكاية الرجل الذي صار ظلا " – من مجموعة " مجرد تعب " ينفصل الظل عن الأصل ، و يحمل في تكوينه ذكرى الانفصال العبثي عن الأنا ، و فرح التحول و الخروج من العدم في وقت واحد ، يقول : " ليس بوسعي أن أكون شبيها به ؛ لأن لا مظهر ، و لا هيئة لي . كان وسيما ، مستقيم القامة ، إلى نحول ، عصبي المزاج و الحركة . و كنت أحاكي حركاته ، و سكناته ، ثم غادرني ، و لا أعلم إذا كان يصحبه ظل آخر هناك . و أصبحت هنا بلا نفع ، أو قيمة ، حتى وددت لو تمر بي سلحفاة ، فأكون ظلها ، لو يمر بي كلب فأكون ظله " . المتكلم هنا هو ظل الرجل من دون الرجل ، أي ظل الأثر ، المتلاشي في هامشه ، أو ما يتجاوزه كمتكلم آخر مازال حزينا ؛ لافتقاده الأصل المادي ، لكنه يتحدث كآخر له عالم انفعالي مغاير ، أي يحمل صوتا متجددا ، و حياة أخرى من طاقة الفراغ الأولى التي كانت كامنة في الأصل ، و تجلت عقب موته ، أو اختفائه . هكذا يؤكد الطيف حضوره كأثر وحيد في الظلمة ، و تنبثق منه صيرورة محتملة من الظلال الوحيدة دون تكوينات ، و من ثم يتحول فعل المحاكاة المميز للظل ، إلى شبق للمحاكاة دون تحقيق للمحاكاة الأولى ، فقد صارت وجودا حقيقيا مستقلا يذكرنا بكمون التشبيه في الحقيقي عند جان بودريار . هذا الوجود يستمد طاقته من ذكرى الأصل في محاكاة تمثيلية انتشارية تتجاوز المركز ، و الهامش ، إذ يتحول الظل إلى تكوين أو تشبيه محتمل .
و قد تندمج العناصر الكونية الجزئية بوعي المتكلم ، في سردية تقاوم صمت الحدود الظاهرة للتكوين ، و من ثم تصير الحكاية طيف التكوين الكوني المتجاوز لسماته الحتمية في نص " هي ذي الأبواب المغلقة " . يقول : " و للسروة روح ، ربما كانت جندب الظهيرة الثرثار ، أو ربما الأوام ، أو الأرق ، أو دوام الانتظار بلا رجاء ، أو ربما الرجع لست أدري ، و ليس يدري الغريب كيف تكون الأرواح هائمة ، و هي لا تشبه أن تكون بشرا ، أو شجرا ، و قال إن السروة شجن الشجرة ، و ليس الشجرة ، و لا ظل لها ؛ لأنها ظل الشجرة ، و لا يحسن الظل أن يكون روحا ، و لأنه غريبي صدقت أن الصدى روحي ، و أنني ربما كنت روح السروة " . السروة .. هذا الجزء تتفاعل فيه العناصر الكونية كمجال مناهض لوجوده الظاهر . هل كان التكوين وجودا حلميا ؟ كونيا ؟ إن الشجرة تتحول في الأرواح ، و الانفعالات السردية التي تمثل دورها في المسرحية ، الشجرة تجسد الانتظار ، و الأرق ، و الشجن كدوال مادية فاعلة من خلال أثر الشجرة الكوني / السردي لا تكوينها المحدد . هكذا يمكن إحلال الآخر دائما ضمن المجال التكويني الطيفي للعنصر الكوني ؛ ففي المتكلم تحل الشجرة ، و الشجن ، و الانتظار ، و في الشجرة نرى الرجل ، و الغريب ، و الظل ، و الروح ، و الشجن ... و هكذا تعمل الظلال فيما بعد التكوين ، بينما يمنحها التكوين مادة للعب .
و قد نقرأ المدلول المجرد كمجال لاشتباك الوجود ، و العدم معا . يقول في نص " مجرد تعب " : " أمر بسيط ، فقط ستشعر لبعض الوقت ، أن كل شيء هنا ، أقصد في العالم من حولك ، صار له حجم و ثقل ... إن التعب فكرة خاطئة ، لكنها لا تزول . القليل منها وهن يلاشيك عند اليقظة ، و المقدار منها إنهاك يلاشيك عند النوم ، ليست العلة أو المرض الذي يقتلك ، بل الفكرة التي تحييك ، إذا كان إحياء الرميم حياة .. ليس الموت الذي يميتك ، بل الموت الذي يحيا في داخلك " . ينتقل مدلول التعب من الفكر ، إلى الفعل ، فهو موت يحيا في الكائن ، و هو السياق الذي ينشأ فيه الكائن في وقت واحد ، التعب طيف يؤدي حكاية الكائن التي تتجاوز موته ، و حياته معا . فيه تتنامى الظلمة رغم تجسده في النهار ، و هو يمثل الثقل ، و الوهن ، التعب سياق تتجسد فيه حركة الكون ؛ نهار ، ظلمة ، موت ، حياة ، و يعيد قراءة الذات كطاقة داخلية فيها تحتمل العدم دوما ، فهو طيف يذكر بالحياة ، و سلبها . الفكرة هنا تحل كفاعل من خلال الآخر ، في سياق أخيلتها التصويرية المتنامية في المستقبل ، إذ تزدوج بتأويل صيرورة التكوين ، و سيرته الفريدة دون أن تختزل في إطار الوعي وحده.
و في نص " سوف تحيا من بعدي " يعاين الوعي حياته الأخرى كمراقب كوني فاعل من خلال طاقة الأشياء حال اندماجها المتجاوز للموت من خلال استحضاره . يقول : " أيها الضوء .. سوف تحيا من بعدي .. و سوف تنير الغرفة التي لن أكون فيها ، و الكرسي الخالي من جسمي القليل ، و السرير الخلو من أرقي ، و الورقة التي لم تكتب عليها قصيدتي .. أيها الرجل الذي كان هنا لا يزال ، مرة كل عام تأتي إلي لتزور قبرك " .
من المتكلم هنا ؟ إنه الظل الكامن في التكوين ، و المتجاوز له في المستقبل في آن ، الظل الذي يستبق موت التكوين ، فيجسد مقتله ، و حياته الأخرى كمراقب كوني معا . إن إيحاءات الأسى و الرحيل ، تمتزج بمادية جديدة للفراغ الذي كان كامنا في المادة كطاقة حية تعاين الموت في المستقبل كحدث ضمن صيرورة الطيف – الموجود .
و تبدو معايشة الحالة الفريدة للظواهر مناهضة لمركزية القوة ، و الامتلاك ، و السيطرة في التاريخ الثقافي ، و الاجتماعي للإنسان في نص " حكاية يوسف " من مجموعة " بضعة أشياء " يقول : " كان يوسف يحب أن يروي لنفسه حلما / يضحك أو يبكي ، أو يبقى ساهما / و يروي أن التعب تعب / و النهار مشقة / و الليل ليل / و أنه دخن ستين سيكارة في اليوم ، و لم يكتب حرفا / و أنه أحب الشرفة ، و الرواق ، و الرصيف و السروة ، و باب المدرسة الحديد / و أنه عاش و مات لأن الموت حكاية / و الحكاية هي ما يبقى / أو ما يزول أو ما يروى " . الذات هنا تلامس الوجود من خلال حياته الأخرى في ذاكرة إبداعية تعيد إنشاء حركة الوجود في المستقبل من خلال مفردات الماضي ، و من ثم فهي تقاوم العدم من خلال تجسده في حكاية تمتد في روايات المستقبل ، و أخيلة الموجودات التي تقاوم حدودها في ذاكرة الظل الذي يروى كموجود مندمج في حالة الأشياء الأخرى . الذات حكاية متجددة للأشياء ، تجسد رمزيتها التاريخية – الواقعية ، الممزوجة بالحلم و التشبيه ، فتقاوم الموت لأنها لم تتطور في حياة واحدة ، أو بعد واحد .
و في نص " بضعة أشياء لا أعرفها " تعلو درجة الصمت ، و إنكار المعرفة انطلاقا من تكرار المأساة ، و دروبها التي تستلب الوعي في إغواء الراحة . يقول : " و درب كالحلم لا آخر له / كائنات من ظلال ملوحة / و صمت كأنه المكان الأرحب للصامتين / لم يلتفت / فالكناري أماته البرد / و الخاتم في العلبة / و قدماه المتورمتان لا تسعفانه الآن على المسير " . المتكلم في هذه الحالة يستشرف تهديد الصمت ، و من ثم التوقف عن الحركة ، و الحكي . و لكن وجود الظلال تأويل لما يتجاوز الكناري ، و استشراف لاندماج مرح مقبل كقراءة أخرى للمأساة ، إذ تتجسد في حلم الصمت بوجود آخر يتنامى في الطاقة الكامنة وراء الأشياء الصامتة - من داخل هيمنته على المشهد .
و في " بضعة أشياء أعرفها وحدي " تبلغ قراءة العبث ذروتها ، و تبشر ببهجة خفية فيما بعد الموت الأسطوري ، يقول : " قال إنه متعب / و لا يقوى على السير في الشارع / فالنفس يجهده / كأنه اعتاد على ما يشبه الاختناق / و اكتفى من الهواء بالأقل / الذي لا يحيي الكناري الذي أماته البرد " . إن تقبل سياق التعب ، و معاينة موت الآخر الكوني يوحيان بتكرار أسطوري لخبرة الموت ، و من ثم استعادة بهجة الكناري الخفية في حركتها الحكائية الأولى في كل مرة تتكرر فيها خبرة الموت ، أو استعادته ، ضمن سياق اللغة الشعرية الفريدة ؛ فتكرار كلمة متعب يوحي بطاقتها السحرية المتجاوزة للتعب ضمن نشوئه الجديد و تكراره مثل موت الكناري تماما . و تذكرنا هذه الطاقة المتجددة للموت برمزية أدونيس و ديونسيوس .
و في نص " بضعة أشياء فقط " تتحرك الأشياء داخليا باتجاه التدمير ، و إعادة الإنشاء معا ، تجمع بين كآبة الصمت ، و الحركة المتحولة ، تصير ملتبسة ، و خارجة عن وظيفيتها من خلال السرد ، كما يتنازع فيها الامتلاء و الفراغ ، دون حسم فالكناري ترك فراغا ، و ذكرى حضور لها مادة مخيلة للوجود معا . يقول : " القفص و الكناري / ثم القفص بلا كناري / حبة الملبس باللوز من جيب منامته لابنتي / كوب الحليب بماء الزهر ، و السكر .. نعش وحيد .. زنابق كثيرة " . تكمن طاقة محبوسة في الأشياء عند بسام حجار ، تدفع الوعي للاندماج بها ، أو تمثيلها في مسرحية من الظلال ؛ لمقاومة الصمت المطلق . محمد سمير عبد السلام – مصر [email protected]
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خوف الكتابة
-
التكوين الحدسي للمكان .. قراءة في قصص دوريس ليسنج
-
ما بعد الحداثة في ديوان شطح الغياب للشاعر مهدى بندق
-
القصيدة في نشوء آخر .. قراءة في شطح الغياب لمهدي بندق
-
تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العا
...
-
الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي
-
أحلام الجسد البهيجة .. قراءة في مأوى الروح لمحمد عبد السلام
...
-
إعادة إبداع الإنسانية
-
عبث ما بعد الحرب ... قراءة في رواية بلا دماء
-
طيف الأنوثة المستعادة .. قراءة في هيكل الزهر ل فاطمة ناعوت
-
دالي .. حلم النص و أسطورة الفوتوغرافيا
-
جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي
-
لذة الكشف في رواية نوافذ النوافذ ل..جمال الغيطاني
-
الحكي كإبداع للوعي .. قراءة في ما لا نراه ل محمد جبريل
-
معرفة كونفوشيوس
-
توهج النهايات عند صمويل بيكيت
-
المحظور و التمثيلي و العوالم الافتراضية .. عن الأنوثة في قصص
...
-
العمل ، و إبداع العالم
-
الغياب في فضاء المحاكاة .. قراءة في فكر جان بودريار
-
العبث ، و أحلام التجدد
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|