آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 2152 - 2008 / 1 / 6 - 10:43
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
عندما بدأ النهاريخفق جناحيه استعداداً للرحيل, عادت عصافيرالبوادي من الحرية, من السماء المفتوحة على السماء, حاملة على أجنحتها الجميلة مواسم الفرح والضباب وبقايا من عواصف النور. جاءت تحمل في قلوبها أنشودة الوجود البارع, ملفوفة بجمر الريح المسكون على الريح, في عينيها سحرالحياة وبهائها. تتناهى إلى سمعها اللهفة لغابات الماء والعرائش المتكئة على الصدى المعقود على الكون. في أفئدتها الحنونة روائح المطروالحقول وعطش المواسم للضوء.
جاؤوا إلى أعشاشهم الشتوية المركونة في المستوصف المهجور, يأوون إلى عباءة الليل والسكينة المرصوفة على الصمت في هذا الفراغ المعتم.
فاجأها وجودنا الغيرمحسوب في هذه الأوقات العصيبة من الزمن العصيب والغريب.
لقد أيقظنا جنبات السكينة من المكان, حركنا الصمت النائم بضجيجنا العالي.
كانوا خائفين, قلقين, مجبرين على المكوث بيننا لتراكم البرد في البراري المفتوحة على المدى, لأنهمار ماء السماء على أجسادهم المكشوفة للآخرين.
بسطوا ريشهم الرمادي المظلل على القضبان النافرة من الجدران وجلسوا. راحوا ينظرون إلينا باستغراب, يتأملوا خيباتنا وعرينا المكشوف لهم. أعينهم الجميلة لا تمل من التحديق فينا, مستنكرة, كأنها تقول لنا:
ـ ما الذي جاء بكم إلى هذه الخرائب المسكونة برائحة الجن والشيطان! لماذا جئتم, من فعل بكم هذا, من الذي قيدكم وحلق شعررأسكم, ذقنكم وشواربكم, وبلل ثيابكم وخرب لون الحياة الجميلة في أعينكم.
طوال الليل لم تنم العصافير, مثلنا, من الخوف, من القلق, من الضوء المسلط على وجوهها. يتململون, ينقلوا مواضع أجسادهم المتعبة الصابرة من مكان لأخر, هرباً من صوت الشرطة وزعيقهم عبر ومن الشراقة القريبة من أماكن استلقائهم. أعينهم مفتوحة, تراقب بأنتباه عميق ما يحدث حولها من هول وغرابة.
صارقدرهم مثل قدرنا, قاسياً, كل خمسة دقائق يستيقظوا مثلنا, على وقع الصراخ والشتائم.
الشتاء فرض شروطه عليهم للمكوث في المستوصف, ليناموا ليلهم الشتائي معنا تحت رحمة الشرطة وقسوتها وبلادتها.
كانوا يحاولون الاسترخاء, لكن المكان الجديد المشكل من آهات ووجع لم يسعفهم. يناموا دقيقة ويستيقظوا دقيقة. أقل نقرة على الأرض تقطع السكون الهش وتمزقه.
كانوا موزعين على محيط المهجع, في وسط الممر, على مقربة من باب المهجع المصنوع من الحديد الصلب, المصبوغ باللون الاسود.. على المصطبة الكبيرة.. المصطبة الصغيرة.. في الجهة الغربية.. على جدران الحمام والمرحاض.
في الصباح كانوا يشقشقوا مع لون الضياء القادم من وراء الضوء.. فرحين.. وجههم موزعة نحوالقيافي, وقلوبهم نحو الحرية, وظهورهم لنا. كوكبة من الألوان المبهجة كانت في انتظارهم عند أبواب الرحيل.
أما نحن, فنبقى على أرصفة الذئاب, ننثر المساء على وجوهنا, مرغمين على البقاء مع الصدى والصديد.
المستوصف يقع في الباحة السادسة. وجهه بأتجاه الغرب والمدينة والأثار, ظمآه ينحونحوالمغيب, وظهره ينبض براحتيه نحو الشرق والسجن والفلاة المفتوحة على الفلاة.
مبنى قديم. جدرانه من الأجرالمحروق, متعبة بفعل تراكم السنين. سماكة الجدران في بعض الأماكن بحدود المتر, وعشرون سنتمتر في أماكن أخرى. لقد بني هذا المهجع في زمن الأنتداب الفرنسي على بلادنا. سمي باسم المستوصف. كل مواصفاته تشير إلى أنه كان في يوم من الأيام مستوصفاً طبياً يستقبل زواره في هذا المكان. تقطيع الجدران, توزيع الغرف, تقسيم البناء بشكل هندسي متناسق يدل على ذلك.
ما فعلته الأنظمة المسماة وطنية! إنها أزالت الجدران, فتحت المبنى على بعضه, ليتحول إلى مهجع للسجناء. عند الدخول إليه من الباب الحديدي الأسود الفاحم, يتلقفك ممرطويل, على يمينه غرف ذات جدران مزالة. تمشي إلى الأمام مسافة تمتد إلى تسعة أمتار تقريباً, تجد نصف حاجز, خلفه تقع غرفة كبيرة, طويلة الأبعاد مفتوحة على بعضها, على يسارها غرفة صغيرة مركونة ضمن الجدران مخصصة لمعاينة المرضى.
يطل هذا المكان على باحة صغيرة غير مستوية, بيتونها الرقيق قديم, فيه شقوق طولانية نافرة, قادمة من الأسفل, تنبعث منها روائح المراحيض الكريهة المتلاقحة مع المجاري المكسرة.
يقع المستوصف على حدود السورالخارجي للسجن, من جهة الغرب, القريب من المدينة. نوافذه الصغيرة العالية مطلة على الغرب, هواء البادية والبراري المفتوحة يأتي مسلوقاً بالبرد والزمهرير, يدخل بدون أستئذان.. مقشراً وطازجاً.
على المحيط الدائري للسجن, لواء من الوحدات الخاصة, جيش نظامي, مدرباً تدريباً عالياً. يتدرب هذا الجيش المسلح بأحدث الأسلحة كل يوم بعد الساعة التاسعة مساءاً أثناء خلودنا للنوم على النظام والضم. يطلقون أثناء المارش العسكري شعارات صبيانية فارغة لا قيمة لها, إلا أنها تحشو عقول الناس البسطاء. مثل:
ـ لأكتب على الدبابة يا أبو باسل يا بابا. حافظ حامينا.. باسل شهيدنا.. بشار أملنا. سوريا الأسد الله حاميها. من بعدك يا أبو باسل سوريا وين تروحي, بالروح بالدم نفديك يا أسد. وهكذا. يمشي المارش كل ليلة على هذا الإيقاع الذي يكرس عبودية الأنا المريضة لرأس النظام العسكري لبلادنا الجنرال حافظ الأسد. هذا الجيش.. الوحدات الخاصة وجد وجهز لبقاء هذا السجن بأمان من التهديد.
لخوف النظام, ورأس النظام, من اقتحامه من قبل المعارضين وتحرير السجناء منه.
السجن مقسم إلى باحات كثيرة. في كل باحة مجموعة من المهاجع القريبة من بعضها. جميع المهاجع مبنية من طابق واحد, أغلب الأبنية, ومنها غرف الإدارة, قديمة, مبنية على الطرازالفرنسي. لكن منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين بنوا مهاجع جديدة وكثيرة للأعتقالات الكبيرة التي تمت في سوريا.
السجن مقسم إلى قسمين, القسم الشرقي كما يسمونه, مخصص للجنود المخالفين, الذين عليهم تنفيذ الحق العام كالفرارمن الجيش أوالقتل العمد أوالقصد.. أوأعمال أخرى. القسم الآخر.. القسم السياسي الذي نحن فيه.
لا أعرف عدد المهاجع, لكنني أقدر.
يفتح الباب, صوت طق المزلاج يأتي ساخراً إلى أسماعنا, ثم يردفها الشرطي بطقة أخرى علامة على إغلاقه. بعد لحظات قصيرة يتحرك صوت إرتطام القارس بالأرض منذراً بجولة كئيبة من الوجع.. جولة جديدة من التعذيب اليومي المباشرة. يوم أخرمن الهوس المقيح المخزن في عقل رأس النظام بدأ. وجبة صباحية في طريقها إلى التنفيذ.
يبدأ الضرب ساخناً ممدوداً على كتل المكان المهجور. صوت الكوابل يرتفع بأيقاع مدوزن /طرق.. طرق/ طرقات فجة وقاسية, تصوب على الأقدام بلسعات حادة, تهشم الجلد واللحم. صوت متناغم مع بعضه البعض يخرج بانتظام وترتيب/ طرق, طرق/ مثل ضرب المطرقة على السندان. صوت السجناء وصراخهم يأتي هو الآخرعبرصلصال الأثيرالبلوري النقي حياً مملؤواً بالوجع والغم, طازجاً عميقاً بالألم.. محمولاً على شرائح الهواء عبر الصمت المسترخي في تدمر. صراخ السجين يقول:
ـ دخيلك يا حضرة الرقيب.. داخل على عرضك.. دخيل الله.. داخل على الله وعليك يا حضرة الرقيب أول.. من شان الله. كلمات السجناء واستغاثتهم تصل إلى عناء السماء, مترافقة مع بكاء مروموجع. لكن, لامن يسمع ولا من يشفع. كلمات فيها الكثير من الترجي.. وفيها الكثير.. الكثير من الوجع والآهات المسكونة في المكان وكامنة بين وهاد البراري والروابي والتلال.
ما أن يبدأ ليل تدمربفرد جناحيه على رقعة السماء حتى تضج الحركة في السجن. يبدأ عواء الشرطة ونباحهم الليلي الطويل. يتحرك الرقباء, ليراقبوا أنفاس السجناء, وخلودهم للنوم. يبدأ النوع الثاني من التعذيب, ضرب على الأسطح بعقب أقدامهم, بالحجر. أجفان الصمت وجدرانه يتمزيق من الخبط على الشبك الحديدي للمهجع, بعدها يبدأ التعليم.
عندما يعلم السجين يبقى خائفاً الليل كله, تكوى وتشوى أعصابه إلى حين مجيئهم في الصباح.
في الصباح يتم أخراج سجين واحد أوأثنان أو ثلاثة أوأكثرمن المعلمين حسب الطلب الذي يقدره الرقباء من كل مهجع, بعد أن يكون قد نقع المعتقل الليل كله في بحرالخوف وغرق في حالة من الرعب الكامل الذي وضع فيه. أنها عملية سيكولوجية مدروسة بدقة من أجل أن ينهار السجين ويسقط من تلقاء ذاته مع مرورالأيام. لأن هذه العملية الصعبة تتلف الأعصاب وتدمر الروح والجسد. مع مرورالأيام الطويلة ينهك السجين ويصاب بأمراض كثيرة ومتعددة.
بعد خروج السجين من المهجع يغلق الباب وراءه.
الحد الأدنى للضرب, للجلد, مئة وخمسون كبلاً للإخوان المسلمين وحزب البعث العربي الإشتركي /العراق/ ويمتد صعوداً إلى الأعلى ليصل إلى خمسمائة كبل أوأكثر. لقد بدأ هذا الشكل من التعذيب منذ الثلث الأخيرمن شهر نيسان عام/1997/. وحتى أيار عام /1998/. يومياً بدون رحمة أو شفقة.
شيء لا يمكن أن يصدق/ لم يحدث في تأريخ العالم كله أن يمارس التعذيب اليومي الممنهجع على السجناء أنفسهم مدة عشرون عاماً ونيف/. الكثير من السجناء أصايب بالغرغرينة ونزف إلى أن مات. الكثير.. الكثيرمنهم شل بالكامل. لقد رأيت ورأى جميع الذين معي من ثقب الباب الصغير الذي لا يتجاوز/2مم/ العشرات منهم يحملون على البطانيات وهم في حالة شلل كامل. الكثير.. الكثير منهم أصيب بالسرطان والسكري وأمراض القلب والسل والربو. إنها كارثة أنسانية كاملة حلت بسوريا, وطني الجميل, منذ الثامن من آذار. لقد استولى مجموعة من المجرمين على الدولة واغتصبوها, خربوا مؤسساتها وسرقوا أموالها وفتكوا بشعبها تحت راية شعارات براقة وكاذبة. المحاكمة الأولى يجب أن تتم لهؤلاء, للجريمة التي اقترفوها بحق بلدنا, للانقلاب العسكري الذي قاموا به, لسرقتهم للدولة وتعطيل عملها وأن يدان كل من ساهم بهذا الفعل المنحط. / كنت أتمنى أن تكون معركتنا الأولى والرئيسية هوالعمل على إسقاط الاستبداد بدلاً من فتح معارك جانبية وتصفية حسابات قديمة. ليس الأن وقت فتح معارك هامشية مع إعلان دمشق. لمصلحة من, ومن المستفيد من هذا التنطح لأفشال هذه الجبهة العريضة في مواجهة الاستبداد /.
كنا نبقى كامنون في أماكننا, مسمرون خائفون.
عندما يبدأ الجلد, نبدأ العد. نعد صوت الكوابل وهي تلسع أقدام إخواننا السجناء في المهاجع الأخرى, نتشاغل بها من أجل نسيان دورنا. يصل الجلد إلى أسماعنا قاسياً, صعباً, هادراً للأعصاب والقلب والروح. نبقى في حالة قلق وتوتر وانتظار. الأنفاس تخرج من حلوقنا متعبة على شكل خرخرة. صراخ السجناء واستغاثتهم تصل هي الأخرى واضحة.
كنا ننتظر دورنا, نبقى في حالة استنفار نفسي وجسدي كامل. الأذن مسمرة على الكوابل, على صراخ السجناء الذين يتعرضون للتعذيب, على حركة الشرطة فوق الأسطح والباحات.
عندما كنت اسمع فتح الأبواب, يبدأ جسدي بالتشنج, تخرج من أعماق صدري نفثات من الإعياء وشعور عارم بالضيق يكاد يطبق على روحي, يرافقها اضطراب في دقات القلب, ترتفع وتدق بقوة, أنفاسي تخرج من صدري بصعوبة بالغة, يرافقها تقطع في صوتي, ثم يتهدل ويبح داخل حنجرتي, تبدأ أعصابي تتشنج وتتصلب وتتمسك ببعضها. لم أكن أستطيع القيام بأية حركة, كما لم أطق أن أرى أي حركة أمامي. أطلب من الجميع أن تلزم أماكنها وأن لا تأتي بأية حركة. حتى زقزقة العصافير كانت تدخل الاضطراب والقلق والتعب على روحي وأعصابي المستنفرة. كل شيئ فيّ يتخشب ويصمت, يرفقها إرتخاء في مفاصلي.
أقدر عدد المهاجع في ذلك الوقت ما بين الأربعين إلى الخمسين. عدد السجناء في كل مهجع ما بين الثلاثين إلى ستين سجيناً.
أغلب السجناء كانوا من الإخوان المسلمين والبعث العراقي.
إحدى المرات, بينما كانوا يجلدوننا, يضربوننا بالكوابل على أقدامنا. كنا خمسة, صفوان عكاش والحارث النبهان وعمر الحايك وعمار رزق وأنا. كنت أصرخ وأبكي وأصيح من الوجع. تقافزإلى فمي كلمة دخيلك يا حضرة الرقيب أول, دخيل عرضك يا حضرة الرقيب أول, دخيل ناموسك يا حضرة الرقيب أول. أمرالرقيب أول أن يوقفوا التعذيب. قال:
ـ هذه لم أفهمها, ماذا تعني بكلمة ناموسك. قلت:
ـ المقصود فيها الشرائع السماوية. قال:
ـ أعيدوه للدولاب.. ليجلد مرة أخرى.
يتم إدخال الطعام عبر فوارغ بلاستيكية كبيرة. يتولى إدخال الطعام ثلاثة سجناء, كل واحد يدخل فارغة. فارغة للشاي البارد والبايت, فارغة للقليل من المربة, وأخرى للجبن أو شاي مع زيتون وحلاوة. تقسيم الأكل يأتي مكرراً بشكل روتيني دائم على مدارالأسبوع والشهروالسنة. أثناء إدخال الطعام يضرب السجين على ظهره بالكبل أوعلى رأسه, يرفس بالحذاء فيقع بينما هو داخل إلى المهجع حاملاً الأكل أو يبصق عليه أو يصفع على وجهه, مستخدمين أية وسيلة من وسائل التعذيب المتوفرة. بعد إدخال الفطوريطلب الشرطي.. يقول:
ـ رئيس المهجع.. أقول:
ـ حاضر حضرة الرقيب أول. يرد علي:
ـ ليخرج المَعلمون الذين عندك/ المَعلم هو المؤشر عليه أثناء النوم, أوأوقات النهار, لا لمخالفة قام بها, بل لأن التعذيب مباح في هذا السجن الخطير والصعب. في هذه الحالة يتفق رئيس المهجع مع رفاقه داخل المهجع على إخراج السجين وتحضيره ليقدم كأضحية للجلاد/. في أغلب الأحيان يكون السجين جاهزاً, رامياً حذائه جانباً, ويبقى حافياً, وواقفاً بجانب الباب منتظراً أن يطلبوه للتعذيب. قلبه يدق في صدره بقوة, يكون خائفاً. عندما يخرج, يغلق الباب عليه من الخارج, بعدها يستلموه, يربط السجين بالمرسة والقارس ثم يبدأ الضرب على قدميه بالكوابل.
كان الضرب الذي نتعرض له أقل بكثيرمن الذي يكال لأخواننا السجناء من الأنتماءات الأخرى كالإخوان المسلمين أو البعث العراقي.
كان سقف الضرب الذي نتعرض له لا يتجاوزالمئة والخمسين كبلاً. كنا مدللون حسبما كانت الشرطة تقول. لهذا كانوا يحسوا بالغيظ المدورمنا, كنا نراها في حركاتهم وسكناتهم أتجاهنا.
بعد تقديم الفطور, ووجبة التعذيب, يغلق الباب علينا من الخارج.
نغسل أقدامنا بالماء البارد من أجل تبريد الجرح وتسكينه. ننظرفي وجوهنا الشاحبة الأسيرة, نُقبل رأس الذي جُلد, نحضنه ونضمه إلى صدرنا, نقول له شد حيلك.. ستفرج يا أخي.. /لا غرفة التحقيق باقية ولا زرد السلاسل/ تخرج الكلمات من أفواهنا متعبة هي الأخرى.
كنا متضامنون مع بعضنا في تجربة سجن تدمرفي السراء والضراء. نحمي بعضنا.
يجلس كل واحد على كومة الفراش المرمية على الأرض, كل واحد على فراشه, أو يمشي داخل المهجع. نبقى في حالة أنتظاروترق. لا يسمح لنا القيام بأي عمل مثمرإلا بقص أكياس النايلون القادمة مع الخبز. لقد استطاع تيسيرحسون وراتب شعبو وعمار رزق أن يفكوا شيفرة صناعة الشباك. راح القسم الأكبرمنا يقص النايلون ويجدله, يصنع منه أكياس من الشباك وبعد الأنتهاء منه ترمى في الزبالة.
عند أقتراب الساعة الواحدة ظهراً نقف استعداداً للتفقد إلى حين مجيئهم. ليس بالضرورة أن يأتوا في الساعة الواحدة أوالثالثة أو الخامسة. لكن بعد الساعة الواحدة نبقى في حالة استنفار وترقب إلى أن يدخلوا بشكل جماعي. نبقى باستعداد تام, رؤوسنا منكسة وعيوننا مغمضة. بدخولهم إلى المهجع يضربوا أقرب واحد إليهم برجله أو يديه أو يشتم أو يسب. ينطق أعلاهم رتبة:
ـ كم العدد عندك يا رئيس المهجع. أرد:
ـ أحد عشرفي المهجع حضرة الرقيب أول, مترافقة مع تحية بقدمي اليمنى. يشد الباب ويغلق المهجع.
بعد ستة أشهرجلبوا رفاقنا وضموهم لمهجعنا. صارعددنا أثنان وعشرون فرداً.
كان لدى الجميع الرغبة في التمرد على شروط السجن, أن يكيف الواقع ويخضع من أجل قتل الوقت وتمريره. تحدي الواقع الصعب من خلال التمرد على قوانينه القاسية. قال لي بكر صدقي إحدى المرات:
ـ سنلعب الشطرنج في المهجع. قلت:
ـ كيف, أين ومتى وفي أي ظروف. إذا شاهدوك تلعب الشطرنج سيجلدوننا جميعاً. وضعنا يا بكرلا يحتمل اللعب في هذا المكان الصعب. دع عنك هذا اللغوالفارغ. لا تتمرد على شروط الواقع من خلالي ولا تعرض الأخرين للتعذيب, لدينا الكثير من المرضى لا يقووا على هذا العمل. قال:
ـ سأعمل الشطرنج وإذا سألوك من فعل ذلك قل لهم إنني صاحب الفكرة. قلت:
ـ أنت تعرف يا بكرإنني سأجلد ولن أتكلم, لن أبلغ عنك, لا تضعني في هذا الموقف الصعب. لكن إذا كان لديك الشجاعة تقدم منهم وأطلب منهم هذا الطلب. أردفت قائلاً:
ـ أين ستلعبوا الشطرنج. إنهم يراقبون المهجع كل الوقت, الليل والنهار. كيف ستحصل على المواد والقطع. كيف. قال:
ـ ليس مهماً كيف نؤمن القطع, المهم أن تقبل.
شلح بكرلباسه/ فانيلا/ وراح يخيط عليها خطوط الشطرنج الطولانية والعرضانية بالخيطان المجدولة من النايلون. بالإبرة مضى عماررزق يثقب الورق المقوى/ كرتون من بقايا علبة محارم لونها أخضر/ صورللحصان, للفيل, للملك والجنود والقلاع. غرزة وراء غرزة بالإبرة. صارلدينا شيئ جديد نقطع الوقت به. في البدء كنت خائفاً جداً من أن يكتشف أمرنا فنجلد. لكن مع مرورالوقت نسيت هذا الخوف وصرت أتفرج على اللاعبين الذين يجلسون في الجهة الغربية بعيداً عن الشراقة وبحماية الأخرين الذين يمنعوا رؤية اللاعبين. ما أن يغلق الباب وننتهي من الأكل والتفقد حتى يلجأ الجميع إلى أشغال وقتهم بالوافد الجديد. في النهاريلبس بكرفانيلته تحت القميص وبعد الظهر تتحول إلى مائدة للشطرنج والتسلية.
دق الشرطي على الباب. قال:
ـ هل لديك مرضى. قلت
ـ نعم حضرة الرقيب أول لدي مرضى. قال:
ـ جهزهم. قلت:
ـ حاضر حضرة الرقيب أول.
دب الفرح في أوصالنا. أعتقدنا أن ظروفنا في طريقها إلى التحسن. مجيء الطبيب ومعاينة المرضى علامة أيجابية وتطور كبيرفي وضعنا. صرنا نضحك ونمشي بخطوات واسعة ضمن المهجع. نحلل هذا التطور الجديد والوافد القادم على حصان جميل. صرنا نحلل ونركب هذه الخطوة الأيجابية. صارت احلامنا الوردية تقودنا إلى البعيد:
ربما ينقلوننا من هنا, ربما لن يجلدونا بعد اليوم, سيحسنوا طعامنا ويسمحوا لنا بالتنقس العادي دون تعذيب. وهكذا راحت أفكارنا البسيطة تسبقنا إلى الفرح والغبطة المظللة.
بعد ساعة حدثت جلبة في الباحة. فتح الباب وقالوا:
ـ ليخرج المرضى.
خرج من مهجعنا ثمانية أفراد. بقينا ثلاثة أفراد.
يتبع..
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟