|
الرجل المريض
ناس حدهوم أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2153 - 2008 / 1 / 7 - 09:38
المحور:
الادب والفن
أريد أن أصمت وأستكين إلى فخي ناري مشبوبة حبي عنيف محنتي لا يفهمها غيري أحس بأنني عصفور مجرد من جناحيه لا أهل لي ولا عش أشعر بأنني ملاك بلا إيمان أو شيطان بلا كفر
إنني صدى لصوت الماء نعم أنا هو أنا وحدي بلا مغيث يالهول هذه الغبطة ويالغبطة هذا الهول . كان يرتل مع نفسه هذه الآيات ويقرع بها رأسه المتمرد . فلكثرة ما يعتمل في داخله من المشاحنات لم يعد في مقدوره السير فيما هو سائر إليه وكلما هم بتغيير وجهته نحو العادي والمألوف فشل فشلا دريعا رغم سهولة الطريق. من الأحسن أن أنهزم هذا ما ردده مرارا من تحت ثوبه . لكنه لم يعد قادرا على أن يتخد موقفا إنه إنسان مهزوم ومحكوم عليه بالهزيمة . قديما كان يمتلك الشجاعة الكافية لاقتحام الصعاب وسحق الشوك المبعثر في طريقه . قديما كان عوده فارع الرفض . وكان باستطاعته أن يحول الحجر المرجوم به إلى ورد . والجمر الملقى على رأسه إلى نجوم . أما اليوم فقد تعب وتمنى لو يرجع من نصف الطريق . فحتى لو رجع حقا فلن يجد مكانه البشع ( لقد صرت إنسانا بلا رقم ) كيف؟ أيكون الإنسان لا يعدو أن يكون إلا رقما من الأرقام ؟ طبعا هذا صعب بالنسبة لما يشكل أفكاره . أمر هذا السيد غريب جدا .. يحمل هم الدنيا الكبير في رأسه الصغير . فلما لا ينفجر هذا الدماغ ليرتاح ويريح ؟ كم من مرة شعر بالجنون وهو يغازله ومع ذلك إستطاع أن يوقفه عند حده تحسبا للمصير المفجع الذي ينتهي إليه كل مجنون . أحلامه بالليل كانت دائما غريبة . فقد رأى في منامه على سبيل المثال أنه إرتقى إلى كوكب آخر وعاش بعض الوقت مع مخلوفات عجيبة بلا لون وبلا نسل وقد سأل إحدى هذه المخلوقات - وكانت إمرأة - لماذا أنت بلا فرج ؟ فقالت له : نحن في هذا الكوكب ليست لنسائنا فروج ولا لرجالنا ذكورة . وكاد أن يسترسل في أسئلة أخرى لولا أن فاجأته اليقظة . ولم يجد إلا أن يضحك من نفسه . أحلام كثيرة من هذا القبيل كانت تقتحم مخيلته أثناء الليل فكان يرجع إلى كتب علماء النفس مستجديا تفسيرها غير أنه كان يشعر بانها لم توضع لأمثاله من المرضى .وحينما تقتحمه لحظة من لحظات الغرور يشعر بكونه عالم نفساني وصاحب مدرسة جديدة في علم النفس . لأنه بكل سهولة يدرك أغوار الناس ودخائلهم فقد وصل به الحد عدة مرات إلى العلم بالغيب . في حين بعض المرات يتحول بإرادته الى غبي بغباوة مبالغ فيها . لقد كان قديما يحمل نفسا تعج بحب الناس أما الآن فقد أصبح يخافهم أو يحترس منهم ورغم ذلك لم يفقد حبه القديم لمخلوفات الله - لكنه وقد وجب عليه أن يحترس صار معرضا لسوء الفهم ومعرضا للأذى في كل آن وحين . وما من صداقة أو حب أو مجرد تعارف إلا وعانى من جرائه ما لا يوصف من الأذى. لقد أصبح نظره ثاقبا يرى الناس من الداخل . بهذا كان يؤمن . وكلما فند إيمانه وأراد أن يكذبه إلا وعاودته الصحوة من جديد وتأكد مما أراد أن يشكك فيه . ماذا جرى لي ؟ هذا هو السؤال الجاد والخطير الذي يواجهه بكل ثقله . أمر هذا السيد عجيب .. لقد أضحت نفسه مرهفة لدرجة فظيعة للغاية فما من صورة من صور البؤس أو الظلم إلا وأثرت فيه بشدة وبعنف . فتظل على إثرها أعصابه مشروخة ليسكنه حزن بلا موضوع .وأثناء هذه الحالة يكفيه أن يصغى لموسيقى حزينة لترديه صريعا لنوبة من نوبات البكاء الهستيري والهذيان الصلف . كما أنه والحالة هذه لم يعد يحتمل الضجيج والصخب حتى ولو كانا صادرين عن الموسيقى التي طالما هواها وتعلق بها . لقد تغير عما كان عليه من قبل لكنه عجز عن تغيير حتى الوسادة التي ينام عليها . كان ينهض باكرا كل صباح تقريبا ويهرع إلى الضاحية القريبة من المدينة مستمتعا بالهواء النقي المشبع بعبير الأعشاب مبتهجا بتأمل الحيوانات وهي ترعى الكلأ فوق صفحة السهول والهضاب المكسوة بالخضرة . أما اليوم فقد تحول إلى عاجز ينهض مكرها إلى عمله فكأنه محتاج الى راحة أبدية تعوضه عن التعب النفسي الذي لا يفهمه هو أو غيره . منذ أن عاد إلى وطنه بعد الغربة الطويلة التي قضاها متنقلا عبر أقطار العالم بين القارات بحكم عمله كبحار . وهو لا يبرح ذاكرته التي سجلت ذكرياته بحلوها ومرها معيدا شريطها بحزن عميق وأحيانا بإعجاب وصلف أحيانا أخر ى . كم شاهد من الأوطان والحضارات والأمم وكم سجل من العادات المتناقضة والمتعارضة . كل ذلك جعله يعيد النظر في المفاهيم التي لقنها له مجتمعه ذلك لم يزده إلا مرارة وصعوبة في هضم واقع بلاده بما في ذلك الواجب والمألوف . كم ضيع من الفرص الثمينة التي لا تعوض . لكنها حينئذ لم تكن فرصا بالنسبة اليه لأنه لم يكن ليفكر إلا في الرجوع إلى وطنه الذي أحبه لدرجة الهذيان وظل يحبه حتى في وقت المحنة . أريد أن أصمت وأستكين إلى نفسي ناري مشبوبة حبي عنيف محنتي لا يفهمها غيري أحس بأنني عصفور مجرد من جناحيه لا أهل لي ولا عش أشعر أنني ملاك بلا إيمان أو شيطان بلا كفر إنني صدى لصوت الماء نعم أنا هو أنا وحدي بلا مغيث يالهول هذه الغبطة ويالغبطة هذا الهول . ------------------------------------------- جريدة الإختيار - 17 يونيه 1985
#ناس_حدهوم_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزة حبيبتي عودي إلى رام الله
-
الله
-
إعترافات إمرأة - 4 -
-
ترنيمة الحب والتعب
-
مصممة أزياء - 3 -
-
إعترافات إمرأة - قبل الزواج - - 1 -
-
القديس - 2 -
-
القديس
-
ََA D I O S
-
ورشة الكون
-
الأوهام
-
صرخة يائسة
-
حوار من الداخل
-
سيدة الشعر
-
قصة مهداة الى الأخ الكبير مصطفى مراد
-
عشوشة والعيد
-
الكبش القاتل
-
اللوتس المترنح
-
دخان البحر
-
الركض المتسول
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|