مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 2150 - 2008 / 1 / 4 - 11:26
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
يؤسفني أنني لم ألتق بهذه الرائدة في حياتها , لكن في عام 1969 بعد تشكيلنا منظمة النساء الثوريات بدمشق , كان في طليعة برامجنا زيارة مواقع وعائلات الوطنيين والوطنيات الرواد والشهداء في تاريخنا المعاصر وإحياء تراثهم . لذلك قمنا بزيارة عائلة الشهيد عدنان المالكي , كما قمنا بزيارة منزل الرائدة ماري عجمي وقدمنا تعزيتنا وتقديرنا لنضالها ووطنيتها الرائدة في جميع الميادين لشقيقتيها – أديل وإيلين عجمي – في منزل العائلة في حي باب توما بدمشق .. ونشرنا عدة مقالات تخليداً لذكرى هذه الرائدة في نشرتنا السرية ( اليعربية ) ..
والاّن يسرني العودة للكتابة عن هذه الرائدة إبنة بلدي , وهي واحدة من حفيدات زنوبيا التدمرية , وماوية الدمشقية عبر كفاح المرأة السورية البطولي ضد الإستبداد والهيمنة والإحتلال القديم والحديث ..
أستهلَ هذه الزاوية من ( الرائدات ) بتدشين عام 2008 برائدة من وطني وعاصمتي , روضة العلم والحضارة والتاريخ دمشق , كما استهلت ودشَنت هذه الرائدة المناضلة القرن العشرين بمجلتها : " العروس " ..
وهل أجمل من عروسة الشعر وعروسة الفكروالنضال ليدشن العام الحالي بعطر العروستين ماري ومجلتها ..؟
من هي ماري عجمي ..؟
لا بد لنا قبل الخوض في حياة الرائدة الكاتبة ماري أن نعرف شيئاً وجيزاً عن خلفياتها , بيئتها , أسفارها , أصدقائها , و أنعكاسها على مواقفها الشجاعة وإبداعها وعطائها وحيويتها ..
أن يتكلم المرء عن ماري , كمن يغرف من بحر ليسقي حديقة , أو كمن يجمع من مرج باقة زهور يقدمها لبطل , ومن غابة أشجار ما هو متجذر و سامق وعالي واخضرار المواسم ..
ماري عجمي إبنة دمشق البارَة . ولدت في موسم الورود والفراشات , الرابع عشر من شهرأيار / مايو عام 1888, والدها عبده يوسف العجمي .
من أين أتت هذه الكنية ؟
أصل هذه العائلة من سكان مدينة حماه , انتقل جدها الأعلى ( إليان الحموي ) إلى دمشق , ورحل جدها يوسف من دمشق في تجارات بالحلي إلى بلاد العجم , فقيل له العجمي . والدها عبده كان أحد أعضاء المجلس الملَي الأرثوذوكسي ووكيل الكنيسة الكاتدرائية " المريمية " بدمشق .
رغم أن والدها لم يكن متعلَماً لكنه كان محباً للعلم والأدب فعلًم جميع أولاده الإناث والذكور , وكان يتعاطى مهنة الحياكة وتجارة الحرير .. والدتها زاهية إبنة جرجي يورغاكي , جدَها يوناني وأمها من أسرة مصابني الدمشقية العريقة , عاشت في حي من أحياء دمشق القديمة " الحارة الجوانية " من باب توما الشهير .
دراستها وتعليمها :
لم تدرس ماري في وطنها فقط بل تلقت العلم ومارست مهنة التعليم في أكثر من بلد عربي وهذا ما أكسبها خبرات وثقافات وتجارب أغنى شخصيتها .. وإبداعها الفطري .. هذا إلى جانب إنتماءات عائلتها المتنوعة الثقافات .. مما أضفى على رصيدها وفكرها المنفتح المتجدد والثائر ..
درست ماري عجمي الإبتدائية في المدرسة الإيرلندية , ثم في المدرسة الروسية ( دمشق ) , ثم درست التمريض في الجامعة الأميركية في بيروت 1906 . مارست التعليم في مدينة زحلة في لبنان , وفي بور سعيد في مصر 1908 – وفي الإسكندرية 1909 ..
وكانت قد مارست التعليم في المدرسة الروسية بدمشق , وعلَمت الأدب العربي في معهد الفرنسيسكان أيضاً دمشق , كما أنها علمت في فلسطين وفي العراق كذلك .. وبهذا تكون قد درسّت في الوطن العربي كله تقريبا ..
و نتيجة لهذا الإرث الذي حملته قامت بترجمته إلى عمل إبداعي ثقافي توّج في مشروع إنشاء مجلتها " العروس " سنة 1910 - فكانت بحق أول مجلة نسائية تقدمية في سورية ..
الريادة تتحقق دوماً عندما يشق المرء طريقاً أو يفتح نافذة معرفة وفكر لم يكن مطروقاً ولم تكن معروفة من قبل , ويحدث نقلة نوعية في السياسة أو العلم أو الأدب أو الإقتصاد أو غير ذلك ..
لم تكتف ماري الكتابة في مجلتها العروس فقط , بل كتبت في العديد من الصحف والمجلات ونظمت الشعر ومارست الترجمة عن الإنكليزية , مارست العمل الإجتماعي .. والنضالي , وقد كانت أيضا وأيضا خطيبة جريئة اعتلت المنابر في سوريا ولبنان ... في مرحاة ظلامية رهيبة تحت كابوس الإحتلال التركي ...
عاشت ماري عجمي في فترة عصيبة من تاريخ الأمة العربية , عهد الإحتلال العثماني البغيض وما خلفه من ظلم وطغيان , ثم تلاه عصر الإستعمار الغربي على منطقتنا والإنتداب الفرنسي على سوريا ولبنان , يوم كانت الأمة العربية تواجه دعوات التتريك والإستعمار والتجزئة .
فكانت ماري رائدة بارزة ومميزة من النساء الرائدات في النصف الأول من القرن العشرين .
ولم ينحصر نشاطها في التعليم والصحافة والكتابة ونظم الشعر , بل دأبت على غرس الحس الوطني الصحيح في صدور الطالبات وتوجيههن في الخط الوطني الديمقراطي الصحيح , كما غرست في نفوسهن بذور مناهضة الحكم العثماني كما تقول الكاتبة اللبنانية الرائدة أيضا إملي نصرالله ..
كذلك عملت في المجال الإجتماعي وأسَست النوادي والجمعيات النسائية كالنادي الأدبي النسائي سنة 1920 في دمشق , وجمعية " نور الفيحاء وناديها " , ومدرسة لبنات الشهداء في السنة ذاتها .
أما مسيرتها النضالية والكفاحية فقد ارتبطت بالحب من حبيبها المناضل الشهيد ( باترو باولو ) وتواعدا على الزواج بما كانا يجمهما من أفكار واحدة محاربة الظلم والإستبداد التركي .. ولكن لم يكن الحظ بجانب قلبها لأن خطيبها قبض عليه الأتراك وسجن ظلماً ثم أعدم مع قافلة الشهدا ء في سورية ولبنان في 6 أيار 1915على يد الجزار جمال باشا السفاح ..!؟
لقد كانت هذه الشاعرة البطلة الثائرة تتحدَى الجنود الأتراك وتذهب إلى زيارة خطيبها في سجن دمشق وتنقل إليه الرسائل وتشجَعه وتشد من عزيمته ..
كان باولو وكيل مجلتها " العروس " في بيروت . وقد سبَب موته لها حزنا وصدمة عاطفية كبرى زادتها ثورية ونقمة على الأتراك فراحت تعبر عن ذلك بقلمها الدامي .....لأن القلم النظيف الصادق يحركه الألم والمشاعر الإنسانية الرهيفة .. وإخلاصا لحبها له لم تتزوَج بعده وكتبت الكثير من المقالات في ذكرى السادس من أيار ذكرى الشهداء ..
عندما نتكلم عن ماري عجمي لا بد لنا بالتأكيد أن نتكلم عن خطيبها الشهيد باترو باولي وما أثر استشهاده من شحن لموهبتها الشعرية ..
تقول :
" أخي السجين أتدري أنك في سجنك أكثر حرية مني , وإن السلاسل والأقفال التي يغلَون بها ايدي السجناء ليست بأشد مما توجه إلى ذاكرتي ..... "
باترو باولو لم يفعل شيئا يستحق الإعدام , ولكنه ذهب ضحية الدسائس ولم يقدم على الهرب إيمانا منه ببراءته . وظل على شجاعته ورباطة جأشه رغم أن حبل المشنقة وضع في عنقه فصرخ مخاطباً رفاقه الأبطال الذين سيواجهون نفس المصير :
" هلموا أيها الإخوان .. إنها أرجوحة الأبطال
وأنت , يا تركية الشقية
حياتنا في ظلك ممات
ومماتنا في ظلك حياة
فدونك إذن , هذه الروح
التي أقمت منذ عامين
تحومين حول نزعها , بكل ما لديك
من وسائل الإضطهاد
وما عهد سقوطك .. ببعيد ..."
ولم يدعه الجلاَد يكمل الحرف الأخير , إذ تقدم منه وأحاط عنقه بالحبل فرفس الباترو باولو الكرسي بقدميه ولسان حاله يقول " " من لم يمت بالسيف مات بحبل المشنقة " .
الإستقلال والحرية على مدى التاريخ البشري التحرَري يكتبه الشهداء والمناضلون بدمهم ودموعهم وتضحياتهم .. وباولو ( الباتر ) كما أطلقت عليه رائدتنا - واحد منهم
وللحرية الحمراء باب .. بكل يد مضرجة يدق " ..
ماري عجمي لم تنس حبيبها الذي ذهب ضحية الغدر والإستبداد مما دفعها إلى متابعة النضال ضد الأتراك ضد الظلم لنيل الحرية والإستقلال فتناشد أبناء وطنها بأن يلتفتوا إلى ثروات أرضهم ويستثمروها ويقفوا في وجه المستعمر الذي يسلبهم خيرات بلادهم ولقمة عيشهم فتقول :
" إن المحراث في يدك ايها الرجل , لسيف تذود به عن حياتك , والمغزل في عينيك أرهف سهم تناضل به , دون مالك واستقلالك . إن لبن الأم يا قوم خير من لبن المرضع و إن ثوبا تهديه إليكم بلادكم يستبقي مالكم الضائع , إلى مصنوعاتكم إيها السوريون , فإنها لراية لبلاد لم تبق لها راية ... وإن أمة هان على أبنائها بذل الدماء , لا يصعب عليها الإنتصار في ميادين العمل " .
النضال النسائي عريق في أوطاننا الحبيبة وما علينا إلا أن ننبشه بفرح و اعتزاز وفخر نحن المثقفون والمثقفات لننشره للعالم بإطار وردي جميل كما يليق بهم وبنا هذا الإرث الثمين العتيق من الديمقراطية والحرية .. وليس إبن الحاضر أو مستورد من الأجنبي كما تدعي السلطة العسكرية في سورية !!؟ فليقرأ الديكتاتور التاريخ جيدا .. إنها جذورنا وينابيعنا المتدفقة نثرا وشعرا وشهداء .......!!؟؟ و ليس لصوص وقتلة وجبناء !؟
كانت ماري عجمي الصحافية الوحيدة التي تسنَى لها أن تدخل السجون في دمشق زمن الحكم العثماني , وتطلع على ما فيها من فساد وقهر واحتقار للكرامة الإنسانية .. وقد كتبت تصف ذلك :
" دخلت باباً , قامت على جانبيه وفي صدره ثلاثة سجون منفصلة , لكل منها حاجز خاص , مصنوع من القضبان الحديدية , وهي مجموعة سجون , أو عبارة عن كهوف صخرية , يوصل إليها بثماني درجات , فرأيت وراء أحد تلك الأبواب – الأديب الوطني الكبير - نخلة باشا ( المطران ) جالساً عن كثب , عند مدخل مغارته الضيقة المنخفضة السقف , أمامه سلسلة ضخمة معلقة إلى قدميه , تزن ثلاثين رطلاً , لقعقعتها , كلما تحرَك , صدى أجش ... وكان يرفعها بيديه إذا مشى .
ولما ّرّأني رفع بصره وأشار عليَ بالصمت مخافة الجواسيس والرقباء . وأنا أعجب لحالته وتجلده بعد أن نال تلك الإهانات , ولطخ وجهه اّن التشهير بالأقذار وصفع مئات الصفعات , بأيدي أناس لم يكن يرضى أن يكونوا له عبيداً ...." .
" وخرجت من ذلك المكان , فإذا غلام يحمل قصعة من اللبن , أرسل بطلبها أحد معارفي من السجناء , فإذا الخفير يحفر بأنامله القذرة , حفرة في تلك القصعة للتثبت مما فيها , ثم يلحس أنامله , لتطهيرها مما علق بها فيفحص غيرها من القصاع , على اختلاف ألوان الطعام ... "
" وما زالت زياراتي للسجون تتوالى , حتى رأيت أن اسعى جهدي لإنقاذ بعض الأدباء ساعة علمت أن لا مفر لهم من حكم الإعدام . وكانت المحكمة العرفية لا تسمح بدفاع المحامين ... " – وما أشبه الأمس المظلم باليوم الأظلم تحت ظل حاكم دمشق السفَاح ..!!؟؟
لقد كانت شاعرتنا ورائدتنا الدمشقية صديقة الأدباء والمفكرين والشعراء والصحافيين وكبار السياسيين الوطنيين الأوائل في سورية ولبنان والعراق ومصر وفلسطين وغيرها ... وهذه لعمري هي الوحدة والإنصهار والحرية والديمقراطية بأرقى وقمة معانيها الأخلاقية والعملية ممثلة على أرض الواقع بمشاريع ملموسة ومعاشة بالهمَ الوطني اليومي وبالكلمة وتأثيرها في الصحافة والإعلام على تغيير الواقع الإستبدادي المرَ ..
صورها مع هذه المجموعة من الروَاد والرائدات تؤكد ذلك ... إحسان الشريف , محمد الباقر , الياس فياض , حليم دموس , صلاح الدين اللبابيدي , قسطنطين يني , فؤاد مغبغب , ميشال أبي شهلا , كرم ملحم كرم , منير الحسامي , يوسف افتيموس , فؤاد غصن , رامز سركيس , الدكتورة أنس بركات باز , بشارة الخوري ( الأخطل الصغير ) , معروف الرصافي , و عميد الأدب العربي طه حسين وزوجته , جبران تويني , عمر فاخوري , كرم ملحم كرم , كميل شمعون , بطرس البستاني , بشارة الخوري , جرجي باز , فوزي معلوف , يوسف يزبك , ندرة الوف , حبيب زحلاوي , جودة حيدر , خليل كسيب .وغيرهم ....
لقد عرفت ماري عجمي نفسها فصانتها عن التزلف والإبتذال . فقد اتخذت لحياتها أسلوباً في الكتابة والحديث حين كانت تمارسها على سجيتها , وهو أسلوب التهكم الذي كانت تصيب بلمحاته الخاطفة ما لا يصيب غيرها بالنقد والملاحظة , كانت النكتة على طرف لسانها .
أبرز ما عرفت به هذه الشاعرة الأديبة هي الصراحة التي جافاها من أجلها الذين يصطنعون في حياتهم المجاملة والمداورة , وانفضَ من حولها الكثير من الإصدقاء وتناسوا مجالسها الحافلة يوم كانت " ريحانة الشام " في الشعر والفن..
لقد امتازت رائدتنا ماري بالجرأة وقول الحق ولو على نفسها وكم تضرَرت مصالحها بسبب تلك الجرأة إذ كان يدفعها مبدأها القويم للصراحة مهما كلفتها من الأتعاب وحملتها من المسؤولية ..
ألم تكن هذه الصفات هي أولى شروط الصحافة الحرة ..؟ شروط من يعمل بالكلمة لتغيير المجتمع القديم وتنويره وتحديثه !؟
جاهدت وعملت الكثير لإيجاد ناد للسيدات من كل الطوائف والملل تجمع به كلمتهن وتقودهن , في سبيل التقدم الفكري والإجتماعي وكان لها ما أرادت فكان - النادي النسائي الأدبي في دمشق – ترعاه وتشع عليه من روحها وحيويتها وفكرها , وفتحت مكتبة داخل هذا النادي لكي تحفز النساء على القراءة والثقافة والحوار والوعي ...
لعمري كم كانت هذه الرائدة سابقة لعصرها ومتفهَمة لدور وأهمية العلم والعمل للفتاة والمرأة – خاصة - في المجتمع ودورها الفعَال في التقدم والتحرَر ومساهمة في الحركة التنويرية حركة النهضة العربية في بداية القرن العشرين ..... .يتبع
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟