أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد جباره - طيور المساء















المزيد.....

طيور المساء


سعاد جباره

الحوار المتمدن-العدد: 2150 - 2008 / 1 / 4 - 10:56
المحور: الادب والفن
    


تتسلل أشعة الشمس إلى غرفته مخترقة بلطف ونعومة تلك النافذة الزجاجية، تمتد أيادي الشمس المتراقصة المتلاحقة لتتطوف عنقه المجعد، وتلامس وجهه الأسمر المحروق، يترك دخول الشمس ذلك الدفء المرصع باللطف والنعومة، فيحرك أقمشة الستائر الزرقاء، ويترك ذلك التموج المذهل بغطاء السرير الأبيض اللامع، ويترك دخول الشمس تلك الشقراء الفاتنة ذلك اللحن الجميل الذي يتركك حائراً بين متابعة راحتك ونومك على نغماته المتزحلقة إلى أذنيك كوقع قطرات المطر، وبين النهوض من ذلك السرير الدافئ للخروج إلى ذلك الفضاء المميز الذي تقف فيه بلونها الأصفر الجذاب، أيقنع بأكف الشمس، أم يخرج ليسير إليها ويلقاها ويجلس محدقاً بها بشكل كامل؟يهتز منسجماً مع حركات الغطاء الأبيض وتغريه تلك الحركة لأكف الشمس، يغريه ذلك العناق الحار، وذلك التطويق الذي يحرك المكان في ذاكرته، ويتركك لشعره أن يسترسل بذلك اللون الأسود اللامع، راحلاً عن قتامة شعره، وذلك الشعور بدقائق الغبار تجتاحه تاركة عليه ذلك البياض المشبع باللون الرمادي، عندها يشعر ذلك الدفء الذي يجتاح صدره أجمل اجتياح، ذلك الدفء الذي لا يمكنه أن يخالج رجلاً إلا إن كانت تلك الأكف لامرأة، امرأة تمازجه الذكرى، ألمها وطيبها، شجنها ورقتها، لوعتها وحنانها.

تجلس عند حافة سريره، تحثه على النهوض، لم يكن السرير أثيرياً ناعماً، إلى جانبه تقف نافذة مسكينة بزجاج مكسور، كلما دفعته للنهوض بشدة أكثر وضع رأسه تحت الغطاء، فعادت ترفعه عن شعره الأسود، الذي يبدو غير مرتب منذ وقت طويل، في تلك اللحظة رفع رأسه ورد التحية للشمس، ودع ذكرياته النائمة على السرير، نهض من سريره، أرسل نظرة طويلة إلى ذلك الأفق الممتد تحت تلك العزيزة"الشمس"ثم عاد ينظر إلى وجهه في المرآة، يلامس تضاريس وجهه المجعد، يرتب شعره ناظراً إليه باستغراب عميق، كأنه يستعجب وجود ذلك اللون الأبيض في خصلات شعره، يبتسم مسترجعاً صوره زوجه تظهر بشعر أسود مجدول بشيء من الزهد، انتهى من ترتيب نفسه للخروج:"لم تكن تنفق الكثير من وقتها أمام المرآة، لكني كنت أعرف أنها جميلة، جميلة لأني اخترتها، ولأنها اختارتني، جميلة، أجل إنها جميلة".
يقف على مكتبه، يراقب تزاحم أوراقه على ذلك السطح الخشبي، يمسك أحد الكتب الجالسة على مكتبه، مر على عنوانه، لامسه بيده المرهقة السمراء، كأنه يتلمس في ذلك العنوان تلك الحرقة، وذلك اللون القاني الذي لون صفحة كبيرة من حياته، “الحريق" لا عجب أن مثل هذا الكتاب وضع تحت عنوان "الحريق"رفع الكتاب عن سطح مكتبه وراح يؤرجح الصفحات بين يديه، يقلبها، يصفق الواحدة بالأخرى محدثاً ذلك اللحن الذي يطوي ذلك الأنين المؤلم بين طياته، ويعيد الكتاب إلى مكانه متأملاً ذلك الاسم الذي يثير فيه أحزن وزنابق و الدموع، خديجة، "إلى العزيزة المسافرة مع نسائم الرياح. إلى ذلك الصوت الذي سكن الذكرى"، هكذا وقف يردد تلك الكلمات المكتوبة في الصفحة الثانية من ذلك الكتاب، والتي وقعت باسم"رياض منصور"وقف يردد تلك الكلمات كأنها تخرج من كهف مهجور، قديم، بائس، تلفظها لمرات وهو يضع نظارته السميكة على عينيه، أخذ عصاه وخرج من شقته سائراً على قدميه، لم يفكر بالذهاب إلى المرآب لإخراج سيارته واستخدامها، ظل سائراً في ذلك الطريق الواسع تتدحرج أمامه صور كثيرة، تذكر ابنه الذي يدرس الموسيقى في مصر، ابتسم أراد أن يتصل به، لكنه تذكر أنه لا بد الآن يدرس في الجامعة، وقف هنيهة إلى جانب احد الملصقات في الشارع، لم يكن مهتماً بالملصق ربما أنه لم يلحظ كلمة واحدة منه، لكنه أراد أن يخمد ذلك الشعور الهائج في نفسه، وذلك الشوق العميق لابنه، أخرج يده من جيبه وتابع سيره.

تجول عيناه في المكان، متأملاً ذلك البحر الراقد في الأعلى، وهو جالس أمام أحد المقاهي على كرسي خشبي، يمسك بين يديه صحيفة يقلبها ويعود يدرس تضاريس ذلك البحر، يقف عند صفحة، يحدق فيها، مقال بعنوان"شوق المهاجر للمهاجر"، يراقبها يهاجر من سطر لآخر، لم يكن ليصدم عندما قرأ "بقلم رياض منصور"تلمس الصحيفة ثم وضعها على الطاولة إلى جانبه، شكر النادل على القهوة، وضعها إلى جانب الجريدة، لكنه ظل يحدق في فنجان قهوته، يستنشق عبق القهوة، القهوة التونسية التي اعتاد عليها طيلة عشرين عاماً مضت، إنه يحدق فيها ويذكر ذلك المقال الذي نشره منذ شهور"قهوتكم تونسية فلسطينية"تغيب روحه في سماء بعيدة، إنه يوقن أنها وحدها تتقلب تبدل ثيابها، لكنها تبقى الشاهد الذي يرافق الروح حيث تمضي، إنه يذكر فنجان القهوة الذي أعدته خديجة، لم يكن كأي فنجان، كان الفنجان الذي فتح تلك النافذة التي تحرك الرياح الراقدة منذ وقت طويل، تلك الرياح التي تعيد الماضي إلى الحاضر، وتحرك أشرعة النفس نحو الرحيل وهي تحمل نفساً مثقلة، موجعة.

كانت تجلس على كرسيها المقابل له، صبت القهوة في الفناجين، راحت تنظر إلى الجدار، متناسية القهوة وصوته الذي يخرج متحدثاً بلطف شاكراً لها على فنجانها الممزوج بالحب، "الجدار خشن الملمس، خشن لدرجة أن يدي لا تستطيعان تلمسه، والباب قاس فولاذي إني لا أستطيع فتحه، والطريق لا يمكن أن يكون الشوك قد نما بعد مرورنا منه، كيف استطعنا المرور"، وضع فنجانه على الطاولة ووقف ناظراً من النافذة، كانت يداه على حافتها، عقد يديه خلف ظهره وقال:"بيروت، المخيم، تعرفين أشياء لم أطلبها، لم أسع إليها، كما أنت تماماً، جاءت لأنهم سرقوا كل شيء، حرقوا منزلي، هدموه، قتلوه، قتلوا جدي، سافرت، عفواً نزحت مع أبي وأمي، كنت صغيراً، صغيراً جداً"، تركت مكانها قامت تسير بتوتر وحزن وألم " مؤلم وجودي هنا، لا أستطيع العودة حيث بلدي، "، سار متوجهاً نحو الباب وكانت الكلمات تدحرج من فمه بثقل وربما بثقة مجروحة، تلك الثقة التي ترفع عن كاهل المرأة ذلك الحزن وتهمشه:" نعود إليها يوماً لأننا نحبها، ولأنها تسكننا، نعود إليها ونشرب القهوة على شرفاتها، بلادنا تسكننا".

ارتشف شيئاً من القهوة الباردة، وهو يطالع السماء ويمعن النظر في ذاكرته المهترئة:" أجل بلادنا تسكننا، إنها الكلمة الوحيدة التي لم أكذب حين قلتها، أجل إنها تسكننا." وراح يتلمس كرسيه، فنجانه، عصاه، ويرحل في الصور إلى البعيد:" ذات الشارع الذي كان جدي يجلس فيه، ذات الجلبة، ذات القسمات، رائحة القهوة ذاتها، هنا منفى وهناك وطن."

المنفى الوطن هنا تسمرت حواسه، انتصب، حمل عصاه والجريدة التي اختط عليها الكثير من الكلمات وتابع سيره بهدوء وتعب، وراوده ثانية الاتصال بابنه، لكنه تراجع مثقلاً بذكرى الأمس الذي شاركه فيه، لا ينسى ذلك اليوم يوم بيروتي مؤلم، يوم أفقده زوجه، غرق الجدار بذلك اللون القاني، أول لون يلون ذلك الجدار، ويسلب زوجه منه، رحلت كان طفلها لا يزال محتمياً بها طالباً مزيداً من الحب، لم تعد قادرة على رفده بما يطلب فقد غادرت……………………

سكنت أحلامه، وقف أمام هاتف عمومي، أراد أن يحدثه، هذه المرة بقوة لا يمكن ردعها فهو يرى في الأبناء ورثة للحلم والفكر قبل أن يكونوا ورثة للصفات والجينات أو حتى المال، لا يدري تماماً أي قوة تلك التي جعلته يحمل ثقل حلم أبيه وحلم جده، لكنه يؤمن بشرعية ذلك الحلم، يؤمن أن عدم حدوثه لا ينفي عنه صفة الشرعية، رفع سماعة الهاتف، أدخل البطاقة، بدأ يحرك أصابعه على أزراره، لم يحسن تذكر الرقم، خانته ذاكرته، وربما خانه الحلم، عاد يحاول البحث عن أي رقم يعيد له ذكرى ذلك الحلم، لم يعد أي شيء كما كان بالأمس وحده فقط بقي تمثالاً لا يجيد التعايش مع اليوم، وحده فقط من يعجز عن رؤية ذلك التغير أو الاعتراف بوجوده رغم نظارته السميكة تلك، سار مردداً:" إنها الأمنيات التي لا يمكننا حرقها، إنه النشيد الذي لا يمكن قتله."

قلاعنا الرملية الساكنة تحت تلك السماء البعيدة، قلاعنا الرملية التي كانت أيدينا تداعبها برقة، رقة تجعل منا أكثر من أم تناغي طفلها، كنا نمر على الرمال مرات ومرات، وليس فينا إلا نفحات الطفولة ترقص على شفاهنا، وتغني على أطراف أصابعنا، كنا وكان الرمل، كنا وكان المطر، كنا وكانت الرياح، كنا وكان المطر، كنا وكانت الحقيقة، كنا وأخفى المطر كل حلم بحقيقة جديدة، بقلعة جديدة، بساحل جديد، برمل جديد، كنا وأخفى المطر كل حقيقة سكنت الحلم، كنا وكان الحلم أصعب الجراح، أول الجراح، وآخر الجراح، جاء الصوت قاطعاً الحلم، كما جاء المطر هادماً القلعة، جاء الصوت هاتفاً من أحد أجهزة المذياع:" ككل المعاهدات والاتفاقيات الدولية السابقة أكدت معاهدة جينيف على حق اللاجئين بالعودة وتقرير المصير………." جاء الصوت هاتفاً ليمزق حلم ذلك العجوز المرهق، ليشنق كلماته، ليقتلها، ليحرقها، جاء ليخنقها بين شفتيه، فكر بألف فكرة، استعاد ألف صورة، ووقف أخيراً ليجد نفسه عائداً إلى الوراء بعصاه، وقف هناك والمذياع لا يزال يهذي بتلك الكلمات، والنار تبني لها وكراً في قلبه، تلتهم شيئاً من نفسه، ويستنشق بصعوبة شيئا من الهواء:" عفواً، هلا أغلقت هذا المذياع."



#سعاد_جباره (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باسم الهيجاوي حين تبكي فاطمة .. من كان يبكي
- رحيل
- صدى الذاكرة
- سنابل تحترق بصمت


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد جباره - طيور المساء