|
قصة قصيرة
علي دهلكي
الحوار المتمدن-العدد: 2149 - 2008 / 1 / 3 - 10:46
المحور:
الادب والفن
(بلوكة)* .. وجسر
لا أعرف لماذا حين ارى هذا الشخص ينتابني مزيج من مشاعر الحب والاحترام مشوبة بالاحساس بالشفقة .. أشعر أحيانا كأنه شيء ينتمي الى نهاري ويومي فكما اعتدت ان اصحو صباحاً على صيحات زوجة جارنا وهي تخرق حاجز الصوت لتوقض زوجها الغارق في النوم فوق سطح دارهم .. اعتدت ان اراه وهو يحمل الـ(بلوكة) وقد ارخى كتفه الايمن لتستقر فوقه وذراعه اليمنى ملفوفة حولها كأنه يحتظن صندوق مجوهرات ، يتجول من حارة الى حارة وهو مطرق الرأس وعيناه تائهتان بين خطاه كأنما يبحث عن شيء فقده. في احد الايام دفعه بعض الصبية بشدة فوقع على وجهه وسقطت الـ (بلوكة) وتحطمت لكنه في اليوم التالي استطاع ان يجد غيرها ويواصل مسيرته اليومية .. بعض الشباب في الحارة تآمروا عليه وسرقوا الـ (بلوكة ) ،راقبوه وهو يخفيها تحت التواءة جسر المشاة الذي يصل طرفي الشارع الرئيسي بين حينا والحي المقابل الذي لم يعد يرى منه سوى أعمدة الكهرباء التي شخصت واقفة خلف الهياكل الكونكريتية . استيقظت صباحا على اصوات تكسر زجاج نوافذ المقهى القريب من دارنا وما تركه صاحب المقهى من مقاعد خارجها ، وضعت رأسي على انحناءات جدار سطحنا المطل على الزقاق ومن خلف عينين مازال يملئهما النعاس رأيته يهجم على كل شيء يراه أمامه ، كان ثائراً وزئيره يملئ المكان ، وحين استفسرت عن الموضوع عرفت تفاصيل المؤامرة .. ولكنه رغم ذلك استطاع ان يسترجع الـ ( بلوكة ) . يمر من امام المقهى مختالاً كأنه يتعمد اغاضتهم .. يتهامس الشباب فيما بينهم محاولين تأليف نكتة عليه ليسخروا منه ويتضاحكون بعدها بصوت عالي .. تتقارب خطواته تصل قدماه احداهما قرب الاخرى والشباب يراقبون حركته ، يبدأ صخب الضحكات بالخفوت .. يتوقف هو فيتوقف الضحك معه . يلتفت الى الشباب ينزل الـ ( بلوكة ) من على كتفه ويضمها الى صدره .. تنفرج شفتيه عن لمعان اسنانه كأنه يحاول الانتشاء بتحقيق النصر عليهم ويرمقم بنظرة تتطاير منها علامات الاسهتزاء كأنه يبسق استهجانه عليهم ثم يعود ويضع الـ (بلوكة) على كتفه .
اغرب مافيه قدرته على التَسمّر في المكان خصوصاً حين يرى رتل الـ (همرات) من بعيد كأن جهاز التشويش الذي تحمله دورياتهم يؤثر على موجات جهازه العصبي فيشلون حركته نهائياً ، والاغرب من ذلك هو طريقة ضمه للـ (بلوكة) بين ذراعيه وهو يقف متفرجاً على الهمرات تمرق من أمامه. في بعض الاحيان يدفعني الفضول الى التأمل في الصورة التي يشكلها هذا الكائن البشري ، فتسترسل في ذهني مجموعة أسئلة : ـ مالذي يجعله يتحمل كل هذا الوزن الثقيل ؟! ـ أي مشاعر تتفاعل في داخله لتولد في نفسه كل هذه الارادة وهذا الاصرار على حملها ؟! ـ أي جنون يدفعه الى حمل هذه الـ ( بلوكة)؟! الغريب انك حين تراه تشعر بانه يتصرف بعفوية ومن دون الانتباه الى تلك الـ (بلوكة) على كتفه فلقد قوست بثقلها ظهره وقلولبت كتفه ، أما تقاسيم وجهه فقد تجمعت مثلما تجاعيده باتجاه الـ (بلوكة) فلا تستطيع ان تكشف من خلالها مقدار التعب الذي يختزنه جراء حملها سوى بريق خافت يخرج من عينيه المطرقتين دائماً والذي يحمل ملامح حزن مُعقّد.
تساءلت كثيراً عن سر حمله لتلك الـ(بلوكة) وقصتها معه ، البعض قالوا ان سجانه كان ينكل به بجعله يحمل ( بلوكة ) على كتفه طوال المدة التي قضاها في السجن والبعض الآخر قال انها لعنة عقوقه لوالديه .. تعددت الروايات التي دارت بين واقعٍ وخيال وكلها لم تجلب انتباهي مثلما لفتني اليه إصراره على حمل تلك الـ(بلوكة) والدوران بها بين الاحياء كأنها تحمل تعويذة سر وجوده. كان يغير اتجاه مسيرته اليومية حسب ما تقتضيه الحاجة لذلك فالحواجز الكونكريتية والاسلاك الشائكة التي كانت تسد عليه طريق تجواله يحولان دون إكماله لطريقه المعتاد ، لكنه كان في النهاية يواصل مسيرته ، فلم يكن ليوقفه شيئ ، فالـ ( بلوكة ) كانت بطاقة هويته الشخصية فأي حيٍّ نزل كان يمر فيه دون ان تعترضه رصاصة أو مصير مجهول .
الصعود على الجسر والسير عليه ذهابا الى الحي المقابل كان أكثر شيء يسعده فكان في كل مقطع من مقاطع اليوم يتسلق الدرجات وينزلها من الاتجاه المقابل ذهابا وايابا .. كنت أحسده كونه الوحيد الذي يستطيع الصعود على الجسر والذهاب الى الحي المقابل ، هذا الجسر كم إستوقفني منظره ،فالغبار الذي تراكم عليه يثقل كاهله فأسمع أنينه كلما مررت به كأنه يشكو وحدته .. هذا الجسر كان الاصرة التي تربط كل ما تركم من أيام توالت على حيينا ويحتفظ بأثر كل قدم وطأته ، كم يؤلمني منظره فكل صورة يوقضها في ذاكرتي اشعر بها كأبرة خياطٍ اتاهت طريقها فاستقرت بين الظفر والجلد . فأول رفاق المدرسة أتوا عبر هذا الجسر ، وأول حبٍ عشته تسللت اليه عبر هذا الجسر وبيت جدتي القديم وحتى السكائر كنت ادخنها بعيدا عن عيون أهلي خلف هذا الجسر .. ولكن فجأة ما عاد يحج الى هذا الجسر سوى الـ ( بلوكة ) محمولة على عظام كتفه الهزَّل . كنت احسده الى درجة أنني تمنيت لو تحملت ما تحمل وأصير الى نفس ما صار اليه من جنون وأحمل الـ ( بلوكة ) على كتفي فقط كي أعود واعبر ذلك الجسر مرة أخرى . شعرت بدمعة تترقق في عيني وومضت في نفسي أبيات الشاعر : بغـداد كم جُرْتِ على أبنائك فغدو صرعى خطوب الزمن بين مغدورِ ومسلوب مضوا وعشيق عاش مهجور الوسن
نمت ليلة يومي ذاك حزيناً كئيباً تلاحقني صور الـ (بلوكة ) والجسر .. صحوت صباحاً كالمعتاد على صوت جارتنا وهي تنادي زوجها لكنني شعرت من نبرة صوتها كأنما لو كانت مريضة او قد اكون انا المريض فصوتها الذي بالكاد يصل مسامعي وتثاقلي في النهوض من النوم وعدم رغبتي في ارتداء ملابس العمل او الخروج كل ذلك اشعرني بأنني اليوم اعاني من شيء ما . نزلت الى الشارع ، أحسست بسكون رهيب يلف الشارع ، الناس تشخص ببصرها الى اتجاه واحدد وهمس يجول في المكان . حملت نفسي وجريتُ .. خطواتي يقودها شيء حزين ينبع من لا شعوري .. توجهت صوب الجدار الكونكريتي الذي اقيم حديثاً عند جسر المشاة واذا بالناس مجتمعة . حاولت ان التمس نظرة الى ما تجمعوا حوله لكنني لم استطع .. ترامت الى مسامعي جمل تبادلها الواقفون : ـ المسكين ، كم حاولنا ان نمنعه عن الصعود الى الجسر ..!! بدأت اتدافع مع الحشد المتجمهر وأتسلل بنظراتي الى الداخل ، رأيت جثة ملقاة على وجهها . اقتربت اكثر فرأيته ، كانت يداه متشبثة بسياج جسر المشاة كأنها تمسك بقبر أحد الاولياء متوسلة به والدم قد غطاها وعيناه شاخصتان الى الجهة الاخرى من الجسر .. أحسست بصوت يخرج من أعماقي كبركان يغلي ويغلي حتى انفجر في وجوه الواقفين : أين الـ ( بلوكة ) ؟؟ فأشار الجميع الى الطرف الآخر من الجسر . ألتفت اليها فاذا بها ملقاة هناك .. رفعت رأسي ويداي تحتضنانه بقوة وتقاوم ألم الحسرة والحزن من ان تشظيانه من شدة الصدمة في داخلي وعيناي قد انسدلت عليهما ستارة نهاية العرض .. وفي لحظة سكون امتدت الى اعماق ازمنة سحيقة فتحت عيناي ورمقت بهما أعلى الجسر فلم أرى شيئا سوى الجنون يسعى وحيدا فوق الجسر حائراً بين الـ ( بلوكة ) وصاحبها .
بغداد 29/12/2007
* ملاحظة : الـ ( بلوكة ) هي نوع من انواع طابوق البناء الذي يستعمل في العراق لكن يكون حجمها كبيراً ووزنها ثقيلاً نسبة الى باقي انواع الطابوق
#علي_دهلكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصباح الواحد بعد الخمسون
المزيد.....
-
-آثارها الجانبية الرقص-.. شركة تستخدم الموسيقى لعلاج الخرف
-
سوريا.. نقابة الفنانين تعيد 100 نجم فصلوا إبان حكم الأسد (صو
...
-
من برونر النازي معلم حافظ الأسد فنون القمع والتعذيب؟
-
حماس تدعو لترجمة القرارات الأممية إلى خطوات تنهي الاحتلال وت
...
-
محكمة برازيلية تتهم المغنية البريطانية أديل بسرقة أغنية
-
نور الدين هواري: مستقبل واعد للذكاء الاصطناعي باللغة العربية
...
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|